نظرة على هجوم «داعش» على واحة الفقهاء في ليبيا

تحول مفروض في الاستراتيجية القتالية

قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)
قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)
TT

نظرة على هجوم «داعش» على واحة الفقهاء في ليبيا

قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)
قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)

خلف الهجوم الإرهابي الذي شنه تنظيم داعش الإرهابي، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بواحة الفقهاء، والذي أوقع 5 قتلى و10 مخطوفين، في صفوف القوات الأمنية الليبية. ومثل هذه العمليات مؤشر واضح على احتفاظ فرع ليبيا من «جماعة البغدادي»، على قدرة مهمة في زعزعة الاستقرار؛ ليس فقط بمنطقة الجفرة، وإنما في عموم الجنوب الليبي. كذلك يؤكد الهجوم المباغت، على تمتع «دواعش» ليبيا بصمود تنظيمي، واستغلال ذكي للمجال الجغرافي (الجبال والأودية)، لتأمين العناصر المجندة؛ وخلق مناطق آمنة ينطلق منها التنظيم لفرض سياسته الجديدة المعتمدة على الهجوم والاختفاء.
بالتالي يؤكد أيضا التخلي عمليا عن استراتيجية بناء الإمارة بالسيطرة المستمرة على المناطق والمدن، والتي اعتمدها التنظيم، ما بين سنة 2014 و2017؛ وانتهت بهزيمة قاسية للتنظيم وخروجه من مدينة درنة، ثم سرت الاستراتيجية في ديسمبر (كانون الأول) 2016. بعد معركة دامت ثمانية أشهر مع قوات «البنيان المرصوص»، التابعة لحكومة الوفاق الوطني.

سياق رسالة الهجوم
يأتي هذا الهجوم، في سياق مواجهات عسكرية مفتوحة بالجنوب الليبي. هذه المعركة الدائرة بين قوى المعارضة التشادية المتمركزة داخل التراب الليبي، وبين «الجيش الوطني» الموالي للمشير خليفة حفتر مسنودا بقوى قبائلية بالجنوب. كما يأتي هذا الهجوم في الوقت الذي يزداد فيه نشاط الطائرات الأميركية من دون طيار، انطلاقا من قاعدة أغاديز في النيجر؛ والذي يهم مراقبة تحركات «داعش» و«القاعدة»، وشن الهجمات عليهما، لعرقلة نشاطهما في الجنوب الليبي، والحدود التشادية.
غير أن «داعش» ليبيا، أثبت طيلة أربع سنوات من عمره القتالي، أنه تنظيم مرن ومتكيف ومستوعب لنتائج الحرب الأهلية؛ والتمزق السياسي والجغرافي بالبلد. كما أثبت فرع تنظيم أبو بكر البغدادي بليبيا، أن هزيمته في سرت سنة 2017. وفي درنة في أبريل (نيسان) 2016. لا تعنيان موت التنظيم؛ بل تعني تحولا في الاستراتيجية القتالية، واعتمادا تكتيكيا على الاستنزاف، وإرباك الوضع الأمني، وتركيزا وترتيبا جديدين على أهداف بعينها.
ويتضح فعلا أن فرع تنظيم «داعش ليبيا»، يتبنى أيضا استراتيجية تبقيه حاضرا بقوة على المشهد السياسي والأمني الليبي. ففي تبني التنظيم للهجوم على واحة الفقهاء؛ أكد في بيان أصدره عقب الحادث، أنه سيطر على البلدة لعدة ساعات، ونفذ هجوما انتحاريا بانغماسي، ضد «الجيش الوطني الليبي». كما أشار البيان إلى أن عناصر التنظيم اقتحموا «مركز شرطة البلدة وأحرقوه»، وعددا من المنازل بالمنطقة بحثا عن «مرتدين من الجيش والشرطة والصحوات والجواسيس». ويمكن القول إن هذا التحول العملياتي المركز، دشنه التنظيم بالهجوم الإرهابي على مقر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات بتاريخ 3‏ مايو (أيار) ‏2018.
من جانب آخر، يمكن التأكيد على أن هذا التحول في السياسة الإرهابية للتنظيم خاصة بالجنوب؛ هو تكيف مع الوضع الجديد الذي فرضه السياق الدولي لمحاربة الإرهاب؛ خاصة دور القوات الخاصة على الأرض، والمراقبة والهجمات الأميركية بطائرة «درون» من دون طيار، التي تنطلق من قاعدة أغادير بالنيجر. فقد شنت وحدات «أفريكوم» الأميركية، عدة هجمات على مراكز «للقاعدة» و«داعش» بالجنوب الليبي، شملت منذ مارس (آذار) 2018 عدة مناطق، مثل مدينة أوباري. كما شنت في سبتمبر (أيلول) 2017، غارتين جويتين قضتا على 17 عنصرا من التنظيم الإرهابي «داعش» في منطقة إلى جنوب سرت، وغير بعيد عن مدينة الجفرة.
كما أن هناك قوات خاصة أميركية لمكافحة الإرهاب، حلت بالبلد منذ أغسطس (آب) 2016؛ بغية تقديم الدعم اللوجيستي للقوات التي تقاتل تنظيم داعش. وسبق لهذه القوات الخاصة الأميركية أن اعتقلت عناصر من «أنصار الشريعة» داخل الأراضي الليبية. فقد أكد الرئيس دونالد ترمب بتاريخ 31 أكتوبر 2017 أن القوات الخاصة، ألقت القبض على مصطفى الإمام بليبيا، بتهمة لضلوع في الهجوم الذي تعرضت له قنصلية بلاده في بنغازي سنة 2012؛ وأنه سيحاكم أمام القضاء الأميركي. وهكذا يلقى مصطفى، نفس مصير أبو ختالة الذي تم اعتقاله، من طرف قوات أميركية داخل ليبيا منذ نحو ثلاث سنوات.
السياق التنظيمي
نظرا لطبيعة العملية والتي تمت بانتحاري وسيطرة مؤقتة وتمشيط للمكان وخطف 10 أشخاص، يرجح أنهم من القوات الأمنية؛ يمكن القول إن وعي تنظيم داعش بمحيطه المحلي، يلعب دورا مهما في استمراره. ذلك أن اعتقال القيادي جمعة القرقعي في منطقة الفقهاء يوم 16 أكتوبر 2018. من طرف الكتيبة 128 التابعة للقيادة العامة للجيش الليبي الموالية للمشير حفتر؛ زادت من إحساس التنظيم بضرورة تأمين المحيط القريب، أخذا بعين الاعتبار الولاءات القبلية والعسكرية للمنطقة.
كذلك، يمكن تفسير رد فعل «داعش» وهجومه على واحة الفقهاء؛ بالضربة القاسية التي تلقاها التنظيم بالمنطقة. فقد تمكنت القوات العسكرية الليبية من اعتقال القياديين الفيتوري والقرقعي، في منطقة غير بعيدة عن واحة الفقهاء؛ ما يشكل انتصارا آخر على التنظيم الإرهابي، وقدرة أمنية للجيش على الحد من تحركات التنظيم.
بالنسبة للتنظيم فإن القرقعي المكنى «أبو الليث» (30 سنة)، هو عنصر مهم لاستمرار التنظيم باعتباره المسؤول عن التموين والإمداد؛ وشارك أو قاد عمليات وقعت في النوفلية وكذلك بمنطقة الجفرة والفقهاء وسرت. ثم إنه قاد هجمات أيضا على عدة بوابات أمنية، وعلى الشركة التركية «أوستايل». ويُظهر فيديو نشره التنظيم سنة 2017 مكانة القرقعي البارزة؛ فقد ظهر بالتسجيل المعنون (فما وهنوا لما أصابهم)، والذي أصدرته ما يطلق عليه التنظيم «ولايه برقة» في 24 سبتمبر 2017.
ولقد سطع نجم القرقعي، باعتباره قائدا محليا بارزا منذ 2016؛ وأصبح «أبو الليث» أميرا لتنظيم داعش على بلدة النوفلية بعد مقتل الأمير السابق قعيم. وبحكم تمرسه وخبرته بالمنطقة وتشعباتها التي تعرف تداخلا مهما بين الإرهاب ومنظمات الجريمة والاتجار بالبشر والمخدرات؛ والتي تتخذ من الطرق الصحراوية مسلكا لتجارة مربحة بين أفريقيا وأوروبا، أصبح القرقعي هو الأمير المحلي الجديد.
ويشير عضو مجلس النواب الليبي عن دائرة الجفرة، إسماعيل الشريف لهذا الواقع المر حينما قال، «لقد حذرنا سابقاً من هشاشة الوضع الأمني في مناطق الهاروج التي تعد ملاذا لكل التنظيمات والعصابات التي تمارس الخطف والقتل والحرابة والاتجار بالبشر والمخدرات».
ومن الناحية التنظيمية شارك القرقعي في عمليات خطف، وقد أظهرت بعض من هذه العمليات جدوائيتها؛ إذ استثمرها التنظيم للحصول على موارد مالية وبشرية. ومن هنا يفهم خطف التنظيم لـ10 أفراد من الشرطة الأمنية، لتحويلهم إلى ضغط قوي على السلطة المسيطرة على المنطقة، وعلى القبائل الموالية لها. فالتنظيم يعتبر أن إلقاء القبض على «أبو الليث»، تم بواسطة رجال القبائل المحلية، الذين يشتغلون بالقوة الموالية للمشير حفتر؛ وبالتالي فإن خطف أبناء القبائل من شأنه، المساعدة على استرجاع أمير «داعش» بالنوفلية. كما أن عملية الخطف تدخل التنظيم في عمليات تفاوض مع وجهاء محليين؛ وأي فشل في استرجاعهم المخطوفين، بالتفاوض أو بتحريرهم، قد يبعد شباب المنطقة الجنوبية، من المشاركة في القوات المناهضة للإرهاب.
سياق تاريخي
الجدير بالذكر أن «داعش ليبيا» ظهر مباشرة بعد سقوط نظام معمر القذافي. ورغم انتشاره المحدود في الوسط الاجتماعي الليبي، فإنه أعلن بشكل علني عن نفسه في ربيع 2014. وبدأ في تنظيم صفوفه، عبر تجنيد محلي ومغاربي ومصري، ليلتحق إلى صفوفه فيما بعد شباب من جنسيات أفريقية؛ خاصة السينغالية والتشادية والسودانية، كما استقبل التنظيم أفرادا من جنسيات أخرى بالشرق.
بعد تأسيسه في درنة، انتقل التنظيم لهيكلة صفوفه ببعض المدن وخاصة بنغازي، قبل أن ينتقل لسرت، التي أعلنت إمارة إسلامية تابعة لتنظيم البغدادي؛ ورغم أن التنظيم الليبي لم يعلن ذلك إلا بعد حسم خلاف داخل التنظيم يتعلق ببيعة البغدادي، فإنه لقي حاضنة اجتماعية مهمة من هذه المدينة التي كانت معقلا لأنصار القذافي. مما حول المنطقة لبؤرة جذب للمقاتلين، وممرا نحو أوروبا استثمرته «داعش» في شن هجماتها هناك.
وكما أن تطور التنظيم الإرهابي كان سريعا ومؤثرا؛ وبلغ أوجه في سرت 2015؛ واستطاع الوصول إلى منطقة بن قردان التونسية الحدودية مع ليبيا. إلا وبسرعة أكبر، عرفت مسيرة التنظيم انهيارا وتشتتا لعناصره، ولجوءا جماعيا إلى الجبال والأودية بالجنوب الصحراوي. ولم يسترد التنظيم بعض أنفاسه إلا بعد انسحاب القوة الثالثة التابعة لمنطقة مصراتة من مدينة الجفرة. ويبدو أن هذا الانسحاب الذي تم في مايو 2017؛ يلقي بظلاله اليوم على واحة الفقهاء التي عرفت تنفيذ التنظيم هجمته الأخيرة، وسيطرة دامت لساعات.
ويذكرنا هذا بهجوم «داعش» في أغسطس (آب) 2017، على حاجز أمني على مدخل الفقهاء وقتل 11 شخصا، بينهم 9 من القوات الموالية لحفتر. كما يذكر لهجوم على واحة الفقهاء الأخير، بذلك الذي تم بحقل الظهر النفطي بمنطقة زلة شمال شرقي الجفرة، فبراير (شباط) 2018، وقتل منها 3 عسكريين من «الجيش الوطني» الليبي.
بكلمة، يمكن القول إن تغيير «داعش» لاستراتيجيته القتالية، يأتي في سياق محلي، مرتبط بانكشاف التنظيم ودعوته المرتبطة بمنظومة «الخلافة المزعومة»؛ فقد عرف التنظيم انحسارا حقيقيا في التجنيد، كما عانى من فقدانه لقياداته ذات التأثير المحلي. وهو ما ساعد على مواجهته من طرف قبائل ومجموعات مسلحة موالية للحكومة بطرابلس، وكذلك قوات مسلحة موالية للمشير حفتر.
ورغم أن التنظيم واع تماما بهذا التحول في محيطه، ولجأ لسياسة تركيز الهجمات على مؤسسات وأفراد الأمن والجيش؛ فإن تكاثف الجهود الوطنية للقبائل والمجموعات المسلحة من جهة، وازدياد وتيرة عمل القوات الخاصة والطائرات الدولية العاملة بالجنوب الليبي على محاصرة نشاط الإرهاب، كلها عوامل تلعب ضد «داعش» وفرضت عليه تغيير استراتيجيته القتالية.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس - المغرب



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.