إيلهان عمر... من معسكرات اللجوء إلى الكونغرس الأميركي

ناشطة «ديمقراطية اشتراكية» صومالية الأصل باتت أول نائبة مسلمة محجبة

إيلهان عمر... من معسكرات اللجوء إلى الكونغرس الأميركي
TT

إيلهان عمر... من معسكرات اللجوء إلى الكونغرس الأميركي

إيلهان عمر... من معسكرات اللجوء إلى الكونغرس الأميركي

استفاقت الولايات المتحدة الأميركية قبل أيام على كونغرس جديد، بمجلسيه، سيعايش النصف الثاني من الفترة الرئاسية الأولى – على الأقل – من حكم الرئيس دونالد ترمب. وفي حين نجح الحزب الجمهوري، حزب الرئيس ترمب، بالاحتفاظ بغالبيته في مجلس الشيوخ، بل وعزز هذه الغالبية بمقاعد إضافية، فإنه خسر غالبيته في مجلس النواب أمام خصومه الديمقراطيين.
والواقع، أنه بينما خاب أمل الديمقراطيين بتحقيق فوز «اعتراضي» على سياسات ترمب يسيطرون معه على مجلسي الكونغرس، مقر السلطة التشريعية، بمقدور غالبيتهم النيابية مضايقة الرئيس وتعطيل الكثير من سياساته.
وكان لافتا من النتائج، دخول مجلس النواب جيل جديد من الساسة نسبة عالية بينهم من النساء والأقليات العرقية والدينية، وكان بين الأسماء الأبرز أول نائبة مسلمة محجبة هي إيلهان عمر، المتحدرة من أصول صومالية، ولقد فازت بأحد مقاعد المجلس عن ولاية مينيسوتا، بأقصى شمال الولايات المتحدة.

توقع كثيرون من المتابعين والمحللين السياسيين أن تكون الانتخابات النصفية التي أجريت أخيراً في الولايات المتحدة الأميركية استفتاء على سياسات الرئيس دونالد ترمب، وأسلوبه في العمل السياسي. والحقيقة، أن هذا الأمر ليس مفاجئاً في مسيرة أي رئيس لأن مثل هذه الانتخابات التي تأتي بعد سنتين من انتخابه لفترة أولى مدتها الدستورية 4 سنوات. غير أن الرئيس ترمب برز على المسرح السياسي في ظروف استثنائية، وشكّل فوزه في انتخابات الرئاسة قبل سنتين «هزة» بل انقلاباً في الفكر والممارسة على «المؤسستين» الحزبيتين الجمهورية والديمقراطية على حد سواء. والقصد هنا، أنه ليس سياسيا محترفاً، ولم يسبق له أن انتخاب قبل نجاحه ببلوغ البيت الأبيض لأي منصب سياسي.
كذلك، حقق ترمب مفاجأته على ظهر موجة شعبوية أثار فيها قضايا غير مألوفة، في مجالات منها الهجرة، وانتقال الوظائف إلى الخارج، والتعامل مع القطاعات الاقتصادية التقليدية كالمناجم والصناعات اليدوية، ناهيك من تبنيه مواقف متشددة إزاء قضايا اجتماعية كحقوق المثليين والأقليات ودور المرأة. ومن ثم، رصد قطاع لا بأس به من المحللين رد فعل الشارع إزاء هذه القضايا. ومما كان لافتا، قبل أيام، أنه في حين استطاع الرئيس الجمهوري أن يحتفظ لحزبه بالسيطرة على مجلس الشيوخ – بل ويعززها – فإن خصومه الديمقراطيين استعادوا السيطرة على مجلس النواب... وكانت النساء والأقليات في طليعة القوى التي قادت هذه السيطرة واستفادت منها. وكان بين ألمع «نجوم» هذه المحطة الاختبارية الناشطة الديمقراطية إيلهان عمر المتحدرة من عائلة صومالية مهاجرة إلى ولاية مينيسوتا، إذ باتت واحدة من نائبتين جديدتين مسلمتين تدخلان مجلس النواب الأميركي، مع الفلسطينية الأصل رشيدة طليب، التي فازت في ولاية ميتشغان القريبة.

- مفارقات طريفة
في مسيرة إيلهان عمر، الكثير من المفارقات اللافتة، ليس أقلها أن ولاية مينيسوتا، التي تعيش فيها وباتت تمثل إحدى دوائرها في الكونغرس، ولاية باردة مناخياً كانت تقليدياً من الولايات التي استقر فيها باكراً المهاجرون الاسكندينافيون، الذين جاءوا من السويد والنرويج والدنمارك. وللعلم، من أحفاد هؤلاء كان نائب الرئيس الأميركي السابق والتر مونديل، المتحدّر من أصول نرويجية. وفي المقابل، تعيش النسبة الأعلى من الأميركيين الأفارقة في ولايات الجنوب الدافئة، إلى جانب استقرارهم في الضواحي الشعبية الفقيرة بالمدن الكبرى، سعياً وراء العمل.
ثم هناك مفارقة ثانية، هي أن مينيسوتا ولاية ليبرالية اجتماعياً. ذلك أن حتى «جمهورييها» محافظون اقتصاديا لكنهم ليبراليون اجتماعياً، بينما إيلهان عمر ليست فقط مسلمة، بل ومحجبة أيضاً.
أما المفارقة الثالثة، فهي أنها ورثت مقعدها في الكونغرس عن نائب مسلم هو كيث إيليسون، الذي بات أول مسلم يدخل مجلس النواب، والذي عزف عن الترشح من أجل خوض الانتخابات لمنصب النائب العام لولاية مينيسوتا، ثاني أهم منصب على مستوى الولاية (بعد منصب حاكم الولاية)، ولقد فاز بالمنصب فعلاً.

- بطاقة هوية
ولدت إيلهان عمر يوم 4 أكتوبر (تشرين الأول) 1981 في العاصمة الصومالية مقديشو، ونشأت في مدينة بيداوا (غرب الصومال). وهي الأصغر بين 7 أولاد لمعلم ومدرب اسمه نور عمر محمد الذي ينتمي لقبيلة الماجرتين، أما أمها فمن شعب الحَمَر (البناديريين) بوسط البلاد، ولقد توفيت عندما كانت إيلهان طفلة صغيرة. وبالتالي، تربت إيلهان في كنف أبيها وجدها - الذي كان مدير النقل البحري في الصومال - وأعمامها وعماتها، ومعظمهم كانوا يعملون في التدريس أو الإدارات الحكومية.
عام 1991، عندما اندلعت الحرب الأهلية في الصومال، اضطرت عائلة إيلهان إلى الفرار، ومن ثم العيش لمدة أربع سنوات في أحد معسكرات اللاجئين في جمهورية كينيا المجاورة. وفي العام 1995، هاجرت العائلة إلى الولايات المتحدة، وعاشت بداية في ولاية فيرجينيا، وتحديداً في أرلينغتون، إحدى ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن.
غير أن العائلة سرعان ما انتقلت، في العام نفسه، إلى مدينة مينابولس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا المتاخمة لكندا. وهناك انكبت على تعلم اللغة الإنجليزية التي أجادتها خلال ثلاثة أشهر. ومنذ نعومة أظفارها، أتيح لإيلهان بفضل تشجيع أبيها وجدها الاهتمام بالسياسة والمناقشات، وكانت تصحبها بغرض الترجمة خلال اللقاءات السياسية التي كانا يشاركان فيها منذ كانت في سن الرابعة عشرة.
أنهت إيلهان تعليمها الثانوي في مدرسة إيديسون هاي سكول المحلية في مينابولس، حيث نشطت في العمل التطوعي وصقلت مواهبها القيادية والاجتماعية. وبعد إنهائها المرحلة الثانوية التحقت بجامعة نورث داكوتا الحكومية، بولاية نورث داكوتا الصغيرة. ومن هذه الجامعة حازت عام 2011 درجة بكالوريوس الآداب في العلوم السياسية.
أما بالنسبة للمحطة المهنية الأولى لإيلهان عمر فكان كمرشدة اجتماعية لشؤون التغذية في جامعة مينيسوتا، بين العامين 2006 و2009. ولكنها بعد التخرج من الجامعة، تفرغت أكثر للنشاط السياسي، وتولت عام 2012 إدارة الحملة الانتخابية لإعادة انتخاب أحد الأعضاء الديمقراطيين في مجلس شيوخ الولاية، بجانب عملها بين 2012 و2013 منسقة لشؤون تغذية الأطفال في دائرة التربية والتعليم في مينيسوتا.
بعد ذلك، أدارت إيلهان الحملة الانتخابية لأحد المرشحين الديمقراطيين للمجلس البلدي لمينابولس عام 2013. وفي أعقاب فوز مرشحها، عملت كمساعدة استشارية له بين 2013 و2015. وخلال هذه الفترة ازدادت خبرة في العمل السياسي، وخبرت الجانب الآخر الأقل جاذبية والأكثر عنفاً، عندما هاجمها خمسة معتدين وألحقوا بها جروحاً في أحد الملتقيات السياسية الساخنة.
وبحلول سبتمبر (أيلول) 2015 صارت إيلهان مديرة شؤون السياسة والمبادرات في إحدى شبكات التنظيمات النسوية المهتمة بتشجيع النساء المهاجرات من شرق أفريقيا على الانخراط بالعملين السياسي والاجتماعي. وللعلم، فإن إيلهان أم لثلاثة أطفال من زواج سابق.

- البداية السياسية الحقيقية
غير أن البداية السياسية الحقيقية لإيلهان عمر جاءت عام 2016. عندما اختارها حزب العمال والمزارعين الديمقراطي – وهذا هو الاسم الرسمي لتنظيم الحزب الديمقراطي الأميركي في ولاية مينيسوتا – لتكون بين مرشحيه لانتخابات مجلس نواب الولاية. ويوم 9 أغسطس (آب) من ذلك العام تغلبت على منافسيها فيليز كان ومحمود نور. ومن ثم، واجهت في دائرتها المرشح الجمهوري عبد الملك عسكر، وهو مثلها متحدر من أصول صومالية، وكان أيضاً ناشطاً في أوساط الجالية الصومالية. غير أن عسكر انسحب من المعركة، وبالتالي، فازت إيلهان بالمقعد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وعندما شغلته رسمياً يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2017 باتت رسمياً أول صومالي ينتخب لعضو هيئة تشريعية في تاريخ الولايات المتحدة.

- ظاهرة الديمقراطيين الاشتراكيين
بروز السيناتور بيرني ساندرز، الذي هو السياسي الاشتراكي الوحيد في مجلس الشيوخ الأميركي، منافساً حقيقياً لوزيرة الخارجية السابقة على ترشيح الحزب الديمقراطي خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة حمل مؤشراً سياسيا مهماً.
هذا المؤشر هو أن اليسار الأميركي أخذ يجد له أرضية واعدة في صفوف الناخبين الديمقراطيين، مثلما أخذ اليمين الشعبوي المتشدد أو اليمين الإنجيلي يلقى ترحيباً متزايدا في أوساط الناخبين الحزبيين الجمهوريين. والحقيقة أن ساندرز لم يكن عضوا في الحزب الديمقراطي، لكنه مع ذلك، ترشح للرئاسة آملاً أن يكون مرشحه... وحقاً نجح في الحصول على نسبة تأييد زادت على 40 في المائة في عدد من الولايات.
وفعلا، ازدادت هذه الظاهرة عمقاً وانتشاراً بعد فوز الرئيس دونالد ترمب بترشيح الجمهوريين للرئاسة، ثم فوز بمعركة الرئاسة نفسها، وإطلاقه برنامجه الرئاسي الراديكالي المناقض تماماً لسياسات سلفه باراك أوباما.
لقد أقنع فوز ترمب قطاعاً واسعاً من الديمقراطيين، ولا سيما من جيل الشباب، بأن «المواقف الرمادية» المعتدلة أو الملتبسة ما عادت تقنع ناشطي الحزبين الكبيرين، وأن التحديات السياسية والاقتصادية تحتاج لسياسات راديكالية قاطعة. وهكذا، خرج من الظل جيل من الشباب الحركيين في الحزب الديمقراطيين رافعين شعارات جديدة على المشهد السياسي خلال العقود لا تتردد في استخدام مصطلح الديمقراطية الاشتراكية.
إيلهان عمر، في مينيسوتا، من هذا الجيل «الاشتراكي» وكذلك زميلتها ألكسندريا أوكاسيو - كورتيز (29 سنة) التي باتت أصغر نواب الكونغرس الأميركي بعد فوزها، بالأمس، بأحد مقاعد ولاية نيويورك.

- سياسات راديكالية
إيلهان عمر، تعتز صراحة بأنها «ديمقراطية اشتراكية». بينما يصفها متابعو المشهد السياسي الأميركي المتسارع الإيقاع بأنها «نجم تقدمي صاعد»، وهي تتبنى السواد الأعظم للقوى اليسارية في الديمقراطيات الغربية، من تأييد حد أدنى للأجور، إلى حقوق الأقليات المثليين.
وبما يخص السياسة الدولية، يعرف عن إيلهان انتقاداتها لسياسات إسرائيل واعتبارها الحكومة الإسرائيلية «حكومة فصل عنصري»، وهاجمت غير مرة الصمت العالمي على القصف الجوي الإسرائيلي للأهداف المدنية. ومع هذا، خاضت إيهان الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي لتمثيل الدائرة الخامسة في ولاية مينيسوتا.
ويوم الانتخابات، التي أجريت في 6 نوفمبر الجاري، تغلبت إيلهان عمر بفارق كبير على منافستها الناشطة الجمهورية اليمينية جنيفر زيلينسكي، وفتحت لنفسها وللنساء وللمسلمين وللجاليات المهاجرة صفحة جديدة في بلد يفاخر بأنه بلد الفرص والنجاح لكل من يعمل ويجد.

- نتائج لافتة في الانتخابات النصفية
من أبرز النتائج التي سجلت في الانتخابات النصفية الأميركية يوم 6 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري:
- رشيدة طليب (ولاية ميشيغان)... أول مسلمة تدخل الكونغرس الأميركي (ضمنت فوزها عملياً في وقت سابق، من دون منافسة)
- إيلهان عمر (ولاية مينيسوتا)... أول مسلمة صومالية وأول مسلمة أفريقية تدخل الكونغرس
- جاريد بوليس (ولاية كولورادو)... أول مثلي ميوله الجنسية معروفة ينتخب حاكماً لولاية
- إلكسدريا أوكاسيو - كورتيز (ولاية نيويورك)... أصغر نائب في الكونغرس (29 سنة)
- آيانا بريسلي (ولاية ماساتشوستس)... أول نائبة أفرو - أميركية في تاريخ الولاية
- ديب هالاند (ولاية نيومكسيكو) وشاريس دايفيدز (ولاية كنزاس)... أول نائبتين من أصول أميركية أصلية (من الهنود الحمر) في الكونغرس... والثانية أول مثلية من أصول أميركية أصلية
- كريس باباس (ولاية نيو هامبشير)... أول نائب مثلي ميوله الجنسية معروفة في تاريخ الولاية


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.