ذكاء الطيور... وحيل تستخدمها للإيقاع بفريستها

الغربان على اختلاف أنواعها تعدّ الأقدر على الإبداع

ذكاء الطيور... وحيل تستخدمها للإيقاع بفريستها
TT

ذكاء الطيور... وحيل تستخدمها للإيقاع بفريستها

ذكاء الطيور... وحيل تستخدمها للإيقاع بفريستها

جوردي بوسكيت أستاذ في علم الحيوان على أبواب الثمانين من عمره، أمضى السنوات العشرين الأخيرة يراقب الطيور في البلدان المحيطة بحوض البحر المتوسط، ويدرس غرائب سلوكها مع الطلاب في مختبره بجامعة برشلونة. وهو الآن يستعدّ لنشر حصيلة بحوثه في مجلّد تتعاون على إصداره الحكومة الإقليمية الكتالونية مع المركز الأعلى للبحوث العلمية.
يقول بوسكيت إنّه ليس للطيور إبهام، لأنّه لا يد لها، «لكنّها إلى جانب القِرَدة، من بين الفقريات الأكثر استخداماً للأشياء، ومن أذكاها وأقدرها على الابتكار». ويؤكد أنّ فصيلة الغربان، على أنواعها الكثيرة، هي الأبرز من حيث قدرتها على الإبداع، وأنّ الفصيلة الببغائية مذهلة فيما تقوم به من أنشطة استثنائية، مثل رمي البيض بالحجر لكسره أو استخدام الطُعْم لصيد السمك.
اللقلقيّات الكنديّة مثلاً تعرف كيف تستخدم المنديل لتمسح الماء عن ريشها، وحفّار الصّحراء يلجأ إلى منقاره لينقل به العسل إلى صغاره. والنّسر الأفريقي الأسود قادر على رمي طريدته بأشياء حادة يلتقطها من الطبيعة. أمّا ذَكر النّحام الأسترالي فهو يملك قدرة مدهشة على التزيين والتبرّج؛ إذ يفرش عشّه بالعناقيد العطريّة وأوراق الشجر الملّونة، وينثر بينها الحصى والبذور الصغيرة التي تتناسق معها... لإغواء من يخفق لها فؤاده. وقد ذهب بعض هذه الطيور حدّ تجهيز ما يشبه المخدع الزوجي الذي يستغرق ترتيبه عدة أسابيع وتُستخدم فيه أغصان رفيعة متشابكة تزيّنها الزهور والأعشاب اليابسة.
معروفة عن الصقور مهارتها في الصيد، وعن النسور أنّها لا تُقدِم على فريستها إلا إذا خرجت روحها وسكنت تماماً. وفي علم الأحياء المعرفية أنّ النورس له قدرة مذهلة على التعلّم، ومن تصرفاته التي تنمّ عن الذكاء التربيت؛ إذ يضرب التربة بقدميه كي يخدع الديدان بأنّ المطر يهطل، فتخرج ويتلقفها ليأكلها. وله أساليب خاصة في التواصل بحركات لافتة في جسمه أو الطيران بطريقة معيّنة. أمّا الببغاويّات فهي تستطيع تطوير مهارات معقّدة مثل صنع أدوات للحصول على الطعام، وتتعلّم العدّ إلى 8، وتحفظ أسماء الأطعمة المفضّلة لديها، وبعضها قادر على تعلّم معاني بعض الكلمات، وإلى قدرتها المعروفة على تقليد الكلمات البشرية، تستطيع طرح الأسـئلة ووصف بعض الأشياء وطلب ما تريد. وما زال العلماء على دهشتهم إلى اليوم عندما يذكرون الببغاء الشهير «ألكس» الذي طرح ذلك السؤال الذي لم يسبقه إليه أي مخلوق غير بشري عندما قال: ما لوني؟
لكن أذكى الطيور وأدهاها وأمكرها على الإطلاق، كما يؤكد بوسكيت، الغربان، التي لا يدانيها في المكر والذكاء سوى بعض الببغاوات. فقد ثبت أنّ للغربان قدرة كبيرة في التعرّف على وجوه البشر، وهي تجيد العدّ حتى رقم 9. وإذا أخفيتَ عنها بعض الأشياء وطلبتَ منها العثور عليها، جاءت بنتائج لا يأتي بها عادة سوى الإنسان والقِردة والكلاب.
بوسكيت يفضّل الحديث عن «عبقرية الغربان» التي بيّن أنّها تتعرّف على صورتها في المرآة، وأنّ من العلامات على ذكائها الحاد، الذاكرة والمعرفة والإدراك، والقدرة على الاتصال، والتحايل لحل المشكلات، وبناء مجتمعات دقيقة التنظيم، والقيام بكثير من الأعمال الجماعية مثل الصيد واللعب وبناء الأعشاش. والغراب يدفن موتاه ولا يتركها نهباً للجوارح أو الحيوانات المفترسة أو التعفّن، صوناً لكرامة الميّت. وقد ثبت أنّه يحفر في الأرض بمنقاره ومخالبه حفرة عميقة، من ثمّ يقوم بطَي جناحَي الجثة حتى يُخفي الجسد تماماً بعد طمره. بعد ذلك تقف الغربان لعدة ثوان بصمت تام، ثم تحلّق جميعها فيما يشبه الطقس الجنائزي فوق الحفرة.
ومن التجارب المذهلة التي تكشف عن ذكاء الغربان المذهل، ما عاينه أحد العلماء في مدينة كيوتو العاصمة القديمة لليابان... غراب يحلّق فوق أحد الشوارع حاملاً في منقاره جوزة، ويحطّ على سلك بالقرب من إشارة للسير فوق ممر لعبور المشاة. ينتظر إلى أن تزدحم حركة السير ويلقي بالجوزة على الطريق فتدهسها إحدى السيارات وتكسرها، ثم ينتظر حتى تعطي الإشارة حق المرور للمشاة فتقف حركة السير ويتوجّه عندئذ إلى الجوزة يتلقطّ فتاتها بمنقاره قبل أن تعود السيارات إلى عبور الشارع مرة أخرى. وقد ثبت أنّ هذه التجربة تكرّرت في فرنسا والولايات المتحدة.
وفي كندا شوهدت غربان تلتقط صحوناً من البلاستيك وتحملها إلى سطوح المنازل المغطّاة بالثلج، ثم تقف عليها وتتزحلق مرة تلو الأخرى بعد أن تعود إلى التقاط الصحن وحمله مجدداً إلى السطح.
ومن الطيور التي تتمتّع بذكاء خارق وقدرات فريدة، حمام الزّاجل الذي يُعرف عنه الصّبر والمطاولة للوصول إلى أبراجه من مسافات بعيدة جداً وفي أصعب الظروف المناخية. وهو يتمتع بقدرة عالية على السّمع؛ إذ يستشعر صوت البراكين والعواصف، كما يفرّق بين حروف الأبجدية ويميّز بين الأشخاص، ويستخدم الشّمس دليلا في رحلاته الطويلة التي يستعين فيها أيضا ببوصلة مغناطيسية داخلية. ويُذكر أنّه عندما حاصرت جيوش الإفرنج مدينة عكّا بعث المحاصَرون بحمام الزاجل إلى صلاح الدين في مقرّ القيادة بمصر، فسارع إلى إرسال جنده لفكّ الحصار عنها.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».