«العالم السريّ»... مفاصل خفيّة لا يكتمل تاريخ من دونها

كريستوفر أندرو يكتب تاريخ الاستخبارات

هتلر  -  ستالين
هتلر - ستالين
TT

«العالم السريّ»... مفاصل خفيّة لا يكتمل تاريخ من دونها

هتلر  -  ستالين
هتلر - ستالين

التجسس، يذكّرنا البروفسور البريطاني كريستوفر أندرو في كتابه الجديد «العالم السريّ: تاريخ للاستخبارات» بمهنة قديمة قدم التاريخ، لكنها مع ذلك، وبحكم طبيعتها، تلتحف العتمة وتعشوشب في الخفاء، فتفتقد إلى سجلات تاريخيّة متكاملة عنها، ويُخفق مؤرخون ومعلقون على وقائع الأيام في تدارك دورها، أو حتى تقييم مساهمتها تجاه تشكيل رحلة التاريخ عبر محطاته المختلفة. ويبدو كتاب البروفسور الموسوعي الجديد (صدر بالإنجليزيّة بعنوان The Secret World: A History of Intelligence) محاولة فردية لتدارك هذا الفراغ المتأصل عبر سجل مفصّل حد الإمتاع من الأخبار المتعلقة بفنون الجاسوسيّة ونجاحاتها، وكثير من قصص إخفاقاتها كذلك، في 800 صفحة أتبعها بملاحق ووثائق.
ينطلق أندرو، الذي اشتهر بريطانياً بكونه المؤرخ الذي كلّف بكتابة سيرة مصرّح بها لجهاز الاستخبارات البريطاني (المعروف بـMI6)، من قناعة بأن تاريخ التجسس، الذي غالباً ما يساء فهمه، هو جزء أساسي من السياق التاريخي الكلّي، وهو لذلك نظّم كتابه وفق المراحل التاريخيّة للتجربة البشريّة، كما رآها الغرب، ويستعيد قصصاً توراتيّة من العهد القديم ليدلّل على تلازم مسار السياسة والسلطة مع العمل الاستخباري، قبل أن يكيل المديح للصينيين والهنود في إمبراطورياتهم القديمة لإدراكهم قيمة العمل الاستخباري، معتبراً أن «فن الحرب» لسن تزو، وأيضاً كتاب «الأرثاشاستارا» الهندي (الذي بقي مفقوداً لألف عام)، إشارات مبكرّة على النّظرة الاستراتيجيّة التي منحها القادة السياسيون والعسكريون في الشرق للمعلومات حول الأعداء الخارجيين والداخليين لكسب الصراعات، مقابل النزعة الاستعلائيّة الرومانيّة تجاه البرابرة الجرمان مثلاً، واعتمادهم على تخرصات العرّافين التي تسببت في توقف توسع الإمبراطوريّة نحو الشّمال الأوروبيّ. لكن «العالم السري» يأخذ منحى أكثر قيمة عندما يتجاوز السردُ الحكايات التاريخيّة المتسمّة بالتعميم، وانعدام وسائل التثبت، وينتقل إلى مرحلة عصر النهضة الأوروبي، الذي تتوفر عنه وثائق كثيرة.
ومن الواضح أن شبكات الاستخبارات كانت وقتها مكوناً أساسياً من أدوات السلطة في نموذج الدولة الذي عرفته العصور الوسطى: من فينيسيا - البندقيّة إلى الفاتيكان وممالك إسبانيا وفرنسا وإنجلترا. ويسجل المؤلف هنا الدور الاستثنائي الذي لعبه فرانسيس وولسينغهام، القائم على استخبارات الملكة إليزابيث الأولى، في حفظ الحكم لآل ويندسور، من خلال مؤامرته الحاسمة لإسقاط ماري، ملكة اسكوتلندا، التي تبيّن لاحقاً أنه زوّر رسائل باسمها تسببت في مصيرها القاتم. كما يعتبر أن سرّ انتصار القائد الإنجليزي ويللينغتون على نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا وأهم عقولها العسكريّة إنما كان تحديداً بفضل شبكات المعلومات التي استمع إليها ويللينغتون جيداً، بينما تجاهلها نابليون مكتفياً بالاعتماد على ذكائه الاستراتيجي الاستثنائي فحسب.
معظم تاريخ الاستخبارات المعروف يتراكم في مرحلة القرن العشرين، بعدما تحولت شبكات التجسس إلى لازمة لعمل الدولة الحديثة عبر التقلبات والحروب والكوارث الحادة، لا سيما الحرب العالمية الأولى والثانية، ولاحقاً الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، رغم أن الحكومة البريطانية بقيت لنهاية الثمانينات تنكر بصلافة تثير السخرية أن لديها خدمة سرية. ويعتقد أندرو فيما يتوفر لديه من المعلومات عن صنعة التجسس في روسيا - وكان قد كتب تاريخاً للاستخبارات السوفياتية بالتعاون مع المنشق الروسي أولغ جورديفسكي - أن حنكة موسكو الاستخبارية تفوق بمقدار الثلث على الأقل مثيلاتها الغربية، رغم أنها عانت من بارانويا القيادة السوفياتية، وبالأخص جوزيف ستالين الذي لم يصدق تقارير وصلته بشأن عزم هتلر شن هجوم واسع النطاق على روسيا، معتبراً إياها أخباراً مضللة يروجها البريطانيون، بعدما كان قد وقّع شخصياً منذ بعض الوقت اتفاق عدم اعتداء مع ألمانيا. وقد أصدر ستالين أمراً بإعدام مرسلي تلك التقارير، وأهمل محتواها تماماً، وهو ما تسبب لاحقاً بخسارة عدة ملايين من جنود الجيش الأحمر بلا طائل في مواجهة المراحل الأولى من الهجوم الألماني الكاسح، الذي لولا عوامل لوجيستية وجغرافيّة وسوء تقدير لكان قد أسقط موسكو نفسها.
يحاجج الكاتب بافتقاد الممارسة الاستخبارية المعاصرة للحس التاريخي، على نحو يتسبب فيما يرى بتكرار أخطاء تكون فادحة أحياناً. ويحمل مسؤولية ذلك النقصان بشكل جزئي ربما لغياب النصوص التاريخية التي تفكك التجارب الاستخبارية على المدى الطويل، لكنه يرى أن التكنولوجيا الجديدة، وتشظي المعارف على الإنترنت، وفرت للجيل الجديد من الاستخباريين معلومات كثيرة، بل ومنهم كثيرون مؤهلون في علوم التاريخ، لكن سعة الاطلاع تلك لم تكسبهم الحس التاريخي بسبب اشتراك معظمهم في الخطأ المعرفي حول «أن الظروف مختلفة هذه المرّة».
ويكشف الكاتب أن العالم السري لأجهزة الاستخبارات اليوم ما هو إلا ماكينات بيروقراطية ضخمة تجمع كمَّ معلومات هائلاً من مصادر متقاطعة، وتستخلص استنتاجات تكتسب قيمتها الاستراتيجية من خلال عدم معرفة الطرف موضوع التجسس باطلاع تلك المكائن عليها، والأهم دائماً قدرة متخذ القرار على استيعاب أبعاد التعامل معها. وهو لذلك عالم ممل بطيء محمي من العيون، رغم الصورة البراقة عنه التي يحمّل أندرو مسؤوليتها إلى الروائيين الإنجليز في القرن العشرين الذين أضفوا على شبكات التجسس والعملاء هالة سحر وتفوق جمّلَت صورتها أمام العامة، بعدما كانت تُعاب دائماً لأدوارها القذرة في مراقبة الناس، وملاحقة بريدهم، بوصفها «مهنة لا تليق بإنجليزي متحضّر».
عند المؤلف، لم تتغير أساسيات العمل الاستخباري كثيراً عبر العصور، وإن اكتسبت مزيداً من ثراء المعلومات المتوفرة لها مع كل تطور في صناعة تكنولوجيا الاتصالات، لا سيما مرحلة اختراع التليغراف، ولاحقاً تطور الحواسيب وأنظمة الهاتف والإنترنت وقواعد البيانات الضخمة. فهو يقول مثلاً إن أحدث تقنيات التعذيب لاستخلاص المعلومات، التي كُشف عام 2007 عن أن المخابرات المركزيّة الأميركيّة تستعملها، هي طرائق كانت متداولة في محاكم التفتيش الإسبانية سيئة السمعة، التي تعتبر مناهجها بمثابة أدلة عمل تلهم الاستخباريين المعاصرين، ويتطرق بتوسع للخبرة الأميركية في العمل التجسسي بوصفها الدولة الحديثة الأعظم، وهي خبرة بدأت أيام جيل الآباء المؤسسين، ويَذكر أن جورج واشنطن خصص ما معدله 12 في المائة من الميزانية الفيدرالية للإنفاق على الأنشطة الاستخباريّة المتنوعة. وينتقد الكاتب بشدة تنازع الصلاحيات بين الأجهزة الأمنية المختلفة في الولايات المتحدة، الأمر الذي يرى أنه تسبب - وما زال - في وقوع فجوات تغطية أمنية خطيرة فيما بينها. ويعتبر أن حادثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) كان يمكن تجنبها، لو امتلكت المخابرات المركزية الأميركية الخيال الكافي لتوقع هجوم رمزي كبير، بعد تعدد الإشارات الواضحة على وجود ذلك التوجه، بما فيها هجوم فاشل سابق على ذات مركز التجارة العالمي المستهدف لاحقاً بهجوم الطائرات المدنية المختطفة.
ومع كثرة تفاصيله، وتعدد ما يرويه من اللطائف والنوادر في دهاليز الاستخبارات الخفية عبر حقب التاريخ ومحطاته، فإن «العالم السريّ: تاريخ للاستخبارات» سيكون بمثابة أنسايكلوبيديا بريطانية متخصصة في موضوعها، تكتفي بتسجيل الحوادث دون امتلاكها نظرية شاملة لنقد التجارب المختلفة للعمل الاستخباري عبر تاريخ العالم بنجاحاته وإخفاقاته، المعروف منها والمخفي. فالمعلومات وحدها، دون القدرة على استخلاص استنتاجات عامة للاستفادة منها في اتخاذ القرار، تبقى مجرد نشاط بيروقراطي ممل آخر، كما يرى البروفسور أندرو نفسه، ولذا فإن هذا السِفر العظيم القيمة سيبقى ناقصاً دون نص لاحق ينظرّ لإطارات كلية تفسّر حراك التاريخ العلني بالاستفادة من حراك التاريخ السري الموازي.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».