تونس تحت هاجس «الخلايا الإرهابية النائمة» مجدداً

إثر الهجوم الانتحاري الأخير في العاصمة

وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
TT

تونس تحت هاجس «الخلايا الإرهابية النائمة» مجدداً

وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)

خلافاً للهجة التطمين التي اعتمدتها الأجهزة التونسية الرسمية حول سيطرتها على الوضع الأمني واستباق العمليات الإرهابية والقبض على المنتسبين للتنظيمات الإرهابية قبل الشروع في مخططات إرهابية وتراجع المخاطر الإرهابية، فإن تنفيذ عملية إرهابية بالشارع الرئيسي للعاصمة التونسية أعاد التساؤل إلى البداية وبلغة أكثر حدة حول حقيقة التنظيمات الإرهابية، وهل أن ما يتم القبض عليهم من عناصر، وتفكيك لخلايا وشبكات إرهابية بين الحين والآخر يمثل حقيقة ظاهرة الإرهاب والحاضنة الاجتماعية للإرهابيين في المجتمع التونسي.

في حين يعتبر الكثير من المتابعين للوضع الأمني في تونس أن ما يظهر على سطح الأحداث لا يعكس ما يدور داخل المجتمع التونسي من تفاعلات واجتذاب التنظيمات الإرهابية فئات شابة من التونسيين، كثيراً ما تظهر خلال التحقيقات الأمنية من خلال الإسناد وتقديم المعلومات حول تحركات أجهزة الأمن والجيش وإيصال الغذاء والأغطية بمقابل مالي إلى الإرهابيين المتحصنين في الجبال الغربية لتونس. وكل هذه المعطيات تؤكد أن الخلايا الإرهابية النائمة في تونس مستيقظة في حقيقة الأمر، وغالباً ما تظهر نتائج عملها من خلال عمليات إرهابية خفت قليلاً خلال السنتين الماضيتين، لكنها ما زالت تمثل تهديداً كبيراً على استقرار تونس وأمنها.

انتحارية شارع بورقيبة

وبعد تجنيد التنظيمات الإرهابية التي أوجدت لها مكاناً واستقراراً في تونس، الشباب من الرجال جاء الدور على الفئات النسائية وهو ما ترجمته الإرهابية منى قبلة يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من خلال هجوم إرهابي بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة التونسية على بعد أمتار من مقر وزارة الداخلية التونسي، وقد أسفر الهجوم عن إصابة 15عنصراً أمنياً وخمسة مدنيين، من بينهم طفلان، بجراح متفاوتة الخطورة.
ولعل إشارة مصادر الأمن في تونس إلى أن منفذة الهجوم الانتحاري ليست مسجلة في قوائم الأشخاص المتهمين بالإرهاب، يرجح فرضية انتمائها إلى «الخلايا الإرهابية النائمة». وما زالت التساؤلات تحوم حول هذه الانتحارية؛ إذ إن عائلتها والجيران والأصدقاء المقربين منها استغربوا تنفيذها عملاً إرهابياً، وبدت عبارات الاستغراب مكررة على أفواههم.
وما جعل الغموض يلف هذه العملية الانتحارية أكثر، أن سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، قد أكد في تصريح إعلامي على أن أجهزة الأمن التونسية المختصة في مكافحة الإرهاب، لم تلقِ القبض على أي عنصر إرهابي على صلة بالعملية الإرهابية التي نفذتها الإرهابية التونسية منى قبلة.
في هذا الشأن، تقول المحللة السياسية التونسية آسيا العتروس: إن أغلب ما دوّن عن الإرهابيات والانتحاريات طوال عقد ونصف العقد من الزمن كان باللغة الإنجليزية التي تتقنها الإرهابية منى قبلة. وقد تكون اهتمامات الانتحارية التونسية قد بدأت من خلال متابعتها عناصر إرهابية نسائية انتمين في الغرب إلى التنظيمات الإرهابية، وضمنت شهادات حول مشاركتهن ضمن تلك التنظيمات من خلال اللغة الإنجليزية. وأشارت العتروس إلى شهادة والدة الانتحارية التونسية واتخاذها قراراً ببيع بعض أشجار الزيتون لاقتناء حاسوب، حتى تواصل ابنتها بحوثها العلمية وإعداد رسالة ماجستير في اختصاصها.
ومع ما تقدمه العائلات من تحاليل ومعلومات حول نمط عيش من نفذوا عمليات إرهابية، فإن الواقع يؤكد على وجود حاضنة اجتماعية وبيئة مناسبة لدخول الأفكار المتطرفة إلى أذهان الشباب التونسي، وتؤكد على أن العائلة والأبناء غالباً ما يكون كل طرف منهما يعيش في عالم منعزل عن الآخر؛ فانغماس الأبناء وهجرتهم لأفراد العائلة لأشهر متتالية، من بين المؤشرات على حصول تغييرات على شخصية المرشح للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية.
ورجّح مختصون في الجماعات الإرهابية في تونس، على غرار علية العلاني وفيصل الشريف، أن تكون الانتحارية من الخلايا الإرهابية النائمة المتعاطفة مع التيارات المتطرفة الداعمة لتنظيم داعش الإرهابي أو تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب العربي».
وأشاروا إلى أن تونس تنتشر بها ما بين 300 و400 خلية «إرهابية نائمة»، وقد تم إلقاء القبض على كثير منها خلال السنوات الماضية، وللتأكيد على رجاحة هذه المقاربة أكدوا أن تنظيم «أنصار الشريعة» الذي يتزعمه التونسي «أبو عياض» سيف الله بن حسين، جمع ما لا يقل عن 40 ألف مناصر خلال تنظيم ملتقى له في مدينة القيروان سنة 2012، وأن المتعاطفين مع هذا التنظيم قد اندثروا إثر حظر أنشطته بالكامل في تونس وتصنيفه ضمن التنظيمات الإرهابية، لكن أين ذهبوا وهل تراجعوا فعلياً عن أفكارهم المتطرفة، أم أنهم خيروا الصمت والسبات ضمن الخلايا الإرهابية النائمة أو المستيقظة على وجه الدقة؟
في هذا السياق، قال علية العلاني، الخبير التونسي في الجماعات الإرهابية: إن العملية التي عرفتها العاصمة التونسية تحمل بصمات تنظيم داعش الإرهابي، لكن قد تحصل المفاجأة ونجد من نفذتها غير مدرجة في ضمن أي تنظيم إرهابي وعملت بمفردها ضمن ما يعرف بالذئاب المنفردة بعد أن قضت فترة طويلة تتشبع بالأفكار المتطرفة لتلك التنظيمات.
وأكد على أن الهجوم الانتحاري الذي جد قبل أيام في الشارع الرئيسي للعاصمة سيدفع السلطات الأمنية إلى إدخال تعديل جذري على أساليب عمل المخابرات التونسية، فقد استطاعت الإرهابية التنقل من مدينة إلى أخرى (نحو 280 كلم من المهدية إلى العاصمة التونسية)، وحملت معها مواد متفجرة على مسافة كبيرة من مكان إقامتها على مقربة من مكان الهجوم (باب سويقة، وفق التحريات الأولية) وصولاً إلى شارع بورقيبة دون أن تنتبه إليها السلطات الأمنية.
وأشار إلى ضرورة تحديث سجلات الأشخاص المتهمين بالإرهاب؛ فقد اتضح أن التنظيمات الإرهابية باتت تعتمد على أشخاص غير مسجلين؛ وهو ما يستدعي بذل جهود إضافية لإدراج المشتبه بهم الجدد ضمن سجلات المتهمين بالإرهاب، وسد النقص الذي قد يكون حصل خلال السنوات الأخيرة، على حد قوله.

محاصرة الأفكار المتطرفة

ووجدت هذه الأفكار المتطرفة طريقها إلى الشباب التونسي بصفة واضحة منذ بداية هذا القرن، وهو ما كان مطية لسنّ قانون مكافحة الإرهاب من قبل النظام السياسي السابق وبالتحديد سنة 2003، لكن طريقة تعامل نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي مع التيارات المتطرفة، على وجه العموم كانت معتمدة على المحاصرة والتضييق وتجفيف المنابع، وقد اتضح أن تلك الطريقة لم تعطِ نتائج إيجابية؛ إذ عرفت تونس هجوماً إرهابياً كان فارقاً في التعامل مع المجموعات الإرهابية ونعني به «أحداث سليمان» الإرهابية التي جدت نهاية سنة 2006، وأشارت إلى وجود تطورات كبرى على مستوى مواجهة السلطة القائمة؛ وذلك بالاعتماد على حمل السلاح في وجه الدولة.
في هذا الشأن، أكد سمير بن عمر، المحامي التونسي المختص في الجماعات الأصولية، على أن النظام السابق زج بنحو ثلاثة آلاف شاب تونسي في السجون، وفي بعض الحالات لمجرد الشبهة، وقلصت هذه السياسة من قوة تلك التنظيمات المتطرفة، لكنها لم تقض عليها وتحولت طوال حكم بن علي إلى «خلايا نائمة» تنتظر الوقت المناسب للاستيقاظ، وكانت ثورة 2011، وظهور مفهوم الفوضى الخلاقة مناسبة لإطلاق عنان تلك المجموعات التي تحولت إلى تنظيمات دموية.
وراجعت السلطة التونسية قانون 2003 المتعلق بمكافحة الإرهاب، وأصدرت سنة 2015 قانوناً جديداً لمكافحة لإرهاب، وضمنته عقوبة الإعدام ضد المتهمين بالإرهاب ممن أدت أعمالهم إلى مقتل أشخاص، لكن ذلك لم يغير الكثير من خريطة الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية؛ فنحو ثلاثة آلاف تونسي التحقوا بها وفق إحصائيات حكومية رسمية.

الحاضنة الاجتماعية

واعتبر أكثر من عالم اجتماع، على غرار منيرة الرزقي وفاتن مبارك، أن السلطات التونسية مطالبة بصفة عاجلة بالبحث عن الأسباب المؤدية لدخول الشباب التونسي إلى عالم الإرهاب وأن تبحث في الوقت ذاته عن الحاضنة الاجتماعية للإرهاب فبعض العائلات التونسية - وهذا من باب المفارقة - لا تنظر إلى العملية الإرهابية على أنها إرهاب يجب مقاومته وعدم السكوت عنه، بل بكونها عملية «استشهاد»؛ وهو ما يجعل ميزان النظر إلى ظاهرة الإرهاب مختلفاً بين أفراد يعيشون على الأرض نفسها ويحملون التاريخ نفسه.
وخلال السنوات الماضية، لم تتوانَ التنظيمات الإرهابية المختلفة عن استقطاب الشباب التونسي؛ مما جعله في مراتب أولى في الالتحاق بتنظيم داعش الإرهابي واحتلاله مناصب قيادية في هذا التنظيم. وعلى المستوى المحلي، وبشأن عدد المتهمين في قضايا إرهابية ويقبعون في السجون التونسية، فقد أكد سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، على أن العدد الإجمالي في حدود 1500 متهم بالإرهاب. وتشير جمعية آفاق للأمن والديوانة (جمعية مستقلة) إلى أن نحو ألف شاب تونسي على الأقل يتم استقطابهم من قبل المجموعات الإرهابية.
وتشير إحصائيات بعض مراكز الدراسات المهتمة بقضايا الإرهاب إلى أن نحو 32 في المائة من المتهمين بالإرهاب هم من بين طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس، وتتوزع نسبة الإرهابيين التونسيين الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية على العاصمة التونسية (32 في المائة)، ومن مناطق الساحل التونسي (28 في المائة)، ومن الجنوب (23 في المائة)، ونحو 9 في المائة من الوسط، وينحدر نسبة 8 في المائة من الشمال التونسي؛ وهو ما يجعل مختلف مناطق تونس عرضة لتأثيرات التنظيمات الإرهابية، ولا توجد منطقة بعينها في منأى عن سهام ظاهرة الإرهاب.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.