«داعش» يقاوم «فرار» عناصره بأكاذيب «النبأ»

الجريدة احترفت التضليل وهاجمت التنظيمات الأخرى

أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)
أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)
TT

«داعش» يقاوم «فرار» عناصره بأكاذيب «النبأ»

أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)
أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)

يرى قطاع معتبر من المراقبين والباحثين، أن «المعركة الأولى للتنظيمات الإرهابية، كانت ولا تزال هي معركة الإعلام وصورة التنظيم أمام الرأي العام... واستخدام الصحافة هو السبيل الأمثل لكسب الحرب النفسية والدعاية وكسب العقول». وتعد جريدة «النبأ» الأسبوعية الصادرة عن ما يسمى «ديوان الإعلام المركزي» التابع لتنظيم داعش الإرهابي، أحد أهم الأدوات الدعائية التي استخدمها التنظيم في نشر أخباره وأفكاره المضللة. وأكدت دراسة مطولة حديثة في مصر، أن «الجريدة احترفت التضليل وهاجمت التنظيمات الأخرى، ويستخدمها التنظيم في مقاومة الانشقاقات و(فرار) عناصره عقب هزائم متتالية طالته في سوريا والعراق».
الدراسة أعدها مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، وحصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، تضمنت تحليلاً لمضمون أعداد «النبأ» خلال عام 2017... وكشفت عن اختلال خطاب الجريدة والحديث عن الهزائم، بعدما كانت أداة ساهمت في تجنيد الأتباع عام 2014. وقال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، لـ«الشرق الأوسط»: إن «الدراسة اعتمدت على منهجية كمية وكيفية، فعرضت تصنيفاً للمحتوى الخبري وللمقالات؛ استكشافاً للمسكوت عنه الذي يحاول التنظيم إخفاءه، عندما يركز على إظهار سمة وتوجه ما، فعندما تركز الجريدة على ضرورة الثبات، فهي تخفي تزايداً في أعداد الفارين بغية مواجهة حالات الانشقاق».
و«النبأ» مرآة عاكسة لفكر وممارسة التنظيم، تحترف التضليل في أخبارها وافتتاحياتها ومقالاتها... كما أنها أداة إعلامية تنتهج استراتيجية التنظيم في الصدمة والرعب، فعناوينها تصدم متصفحها بـ«الدماء والأشلاء والتكفير».
وقال المراقبون: إن «داعش» يقاوم الآن للحفاظ على منصاته الإعلامية، التي وفر لها طاقات مالية وبشرية، منذ أول مرة صعد فيها أبو بكر البغدادي على منبر «الجامع الكبير» بالموصل عام 2014 ليعلن عن «دولته المزعومة» التي تهاوت بعد ذلك.

صحافة الدعاية
بلغت العينة التي عملت عليها الدراسة المصرية، التي جاءت بعنوان «التضليل المحترف»، 44 عدداً من الجريدة، شملت 331 خبراً، و223 مقالاً، و7 إنفوغرافات. ويشار إلى أن التنظيمات الإرهابية أدركت مبكراً أن استخدام الصحافة هو السبيل الأمثل لكسب الحرب النفسية والدعاية وكسب العقول؛ لذا ففي عام 1988 أنشأ زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن إدارة «إعلام القاعدة» بهدف نشر ما يقوم به التنظيم من عمليات في أفغانستان... واستخدم «داعش» كافة أشكال وسائل الإعلام، سواء التقليدية عبر جريدة «النبأ»، أو المتطورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الوكالات الإعلامية.
ويشار إلى أن «النبأ» عكست التطور الذي طرأ على الأداة الإعلامية لـ«داعش» وسعى التنظيم لتوظيف فكرة الجهاد من دون قائد، التي ظهرت مع «القاعدة»، وتقوم على أساس «الجهاد» عبر الإنترنت لأبو مصعب السوري، الذي وثّق لهذه الفكرة عبر مؤلف له بعنوان «الاستراتيجية اللامركزية للجماعات الجهادية»؛ وذلك لضمان استمرار التنظيمات حال مقتل قادتها... وتنظر الجماعات الإرهابية إلى أهمية التغطية الصحافية لما تقوم به على أساس أنه اعتراف صريح بوجودها وبمشروعية ما تقوم به من عنف؛ فظهور القيادات الإرهابية عبر حوارات أو أخبار يحقق لهم شهرة وانتشاراً، من وجهة نظرهم.

تداول إجباري
قالت دراسة الإفتاء: إن الصفحة الأولى لـ«النبأ» تعكس مرايا العدد، والكلمة الافتتاحية إذا كانت مهمة مثل أن تكون كلمة لأحد قيادات التنظيم أو كلمة صوتية تم تفريغها لأبو بكر البغدادي، والعدد يقع غالباً في 12 صفحة، ثم زاد إلى 16... وكانت توزع عقب صلاة الجمعة في النقاط الإعلامية وفي الأسواق والأماكن العامة... وتحتوي الصفحة الأولى على تحذير من إلقاء الجريدة؛ كونها تحتوي على آيات قرآنية وأحاديث، وهذا التحذير يهدف فقط إلى زيادة تداولها بين الأعضاء.
لغة الخبر في «النبأ»، بحسب الدراسة، يغلب عليها الطابع المركزي، الذي يعمل على تجميع الأخبار من مختلف أفرع التنظيم ويضعها في قالب دعائي يستثير حماسة أتباعه، ويقوم بتضخيم أعداد الضحايا في صفوف خصوم التنظيم... فمثلاً أعلنت «النبأ» عن مقتل 572 وجرح 393 في العراق خلال أغسطس (آب) الماضي، وبالرجوع إلى بيانات «منظمة ضحايا حرب العراق» وجد أن عدد القتلى 201، في حين رصدت «المنظمة الدولية» مقتل 90 شخصاً وإصابة 117؛ ما يؤكد أن «النبأ» تقوم بنشر أكاذيب عن عمليات وهمية، وتقوم بتضخيم أرقام الضحايا، في إطار الحرب النفسية التي يشنها التنظيم على دول المنطقة.
وتحتوي «النبأ» على عدد كبير من صور الغرافيك التي تبعث موضوعاتها دلالات كثيرة، جاءت أغلبها في الفترة الأخيرة عبارة عن رسائل إيمانية لمقاتلي التنظيم، كما حوت موضوعات ركزت على وجهة نظر التنظيم في «الانتخابات والديمقراطية».
وأكدت الدراسة، أن مجموعة المقالات التي اختصت بمنظومة القيم الدعوية مثلت أكثر من 25 في المائة من مجموع المقالات خلال عام؛ وهو ما يشير إلى أهميتها، حيث يسعى التنظيم إلى توظيفها لبث قيم تخدم الطابع التجنيدي القائم على «السمع والطاعة»، والحفاظ على هياكله الداخلية في مواجهة عمليات الانشقاقات وتثبيت عناصره في المواجهات... ومن بين هذه القيم «حفظ الأسرار، والصبر، والصمت، وتجنب المعاصي، والثبات».

نصيحة في مقال
تناولت أعداد الجريدة أيضاً مقالات حملت نصائح أمنية للعناصر، تمحورت حول مجموعة تقنيات تتعلق بتنفيذ العمليات. وأهمية «الصولات الهجومية» في إيقاع الخسائر التي تتم عن طريق مجموعات صغيرة من «الذئاب المنفردة». وآلية استخدام العبوات الناسفة. وطرق التصدي للحملات الأمنية.
وأشار مستشار مفتي مصر إلى «تناقض منظومة القيم التي يدعيها التنظيم بشكل كامل مع واقع ممارساته التي قامت على استباحة الدماء للأبرياء وارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية من نشر الرعب بمشاهد الذبح والحرق وقتل الرجال والنساء وتدمير ممتلكات المسلمين».
وكشف الباحثون، معدّو الدراسة، عن أن الجريدة ضمت في صفحاتها الأخيرة مجموعة من الفتاوى بمتوسط 2 في العدد... وركزت هذه الفتاوى على العبادات بمعدل 6 فتاوى خاصة بالصلاة والاعتكاف، و3 بالصيام، و4 بالأضحية والنذر، و2 بالزكاة. أما ما يتعلق بالمعاملات العائلية، فهي عبارة عن 3 فتاوى حول تعدد الزوجات، وعقوق الوالدين، وسفر المرأة، فضلاً عن فتاوى أقل حول «الجهاد ونيل الشهادة والديون».
وتظهر الأرقام، أن هناك اهتماماً أقل بفتاوى القتال لصالح المعاملات العائلية، وهو ما يبرز تركيزهم على قضايا الاختلاط والزواج، وأنهم يريدون التحكم في العلاقات الاجتماعية قسراً، وإشارة إلى الهوس الجنسي... كما أن تساوي عدد فتاوى الديون مع الجهاد يشير إلى أن المنضمين للتنظيم يعانون من الفقر، وهم ما يستهدفهم بخطابه.

خداع العناصر
أكد الباحثون، أن الجريدة لجأت إلى عرض سير بعض «الإرهابيين» الذين قتلوا أثناء تنفيذ عمليات انغماسية، أو في عمليات استهداف أوكار التنظيم، باعتبارهم أبطالاً؛ بهدف كسب تعاطف العناصر للإقدام على نيل الشهادة وتنفيذ عمليات خاصة.
وعن اعتراف «داعش» بهزائمه في جريدة «النبأ»، أكدت الدراسة، أن التنظيم يدرك أنه لم يعد هناك مجال للاستخفاف بعقول أنصاره... فلم تعد «دولته المزعومة» باقية وتتمدد، ومن هنا كانت هناك ضرورة للمصارحة والمكاشفة أمام عناصره لمحاولة استعادة الثقة المفقودة، مع الدعوة إلى الصبر. لكن خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة تحول خطاب الجريدة لتأكيد أن «داعش» دين ودولة، وأن ما يعاني منه التنظيم هو ضريبة للجهاد.
وقال الباحثون: إن ذلك الخطاب في ظل مساعي التنظيم لاستعادة نشاطه الميداني والإعلامي في العراق وسوريا والعودة إلى وضع ما قبل 2014، وهو ما ركز عليه البغدادي في خطاباته للحفاظ على معاقل التنظيم في سوريا، والقتال في جبهات مفتوحة واستخدام «الذئاب المنفردة» وبخاصة في أوروبا، وتوظيف «مهاجمة العدو البعيد»، وعلى رأسها أميركا وروسيا والدول الأوروبية لإعادة كسب ثقة الأنصار الفارين واستقطاب عناصر جديدة.

تجنيد {الإخوان}
وحول رؤية التنظيم نفسه في مرآة التنظيمات الإرهابية الأخرى، أشار الباحثون إلى سعي التنظيم من خلال الجريدة إلى تضليل عناصره بمحاولة إقناعهم بأنه التنظيم الأوحد الذي يسعى إلى إقامة الدولة – على حد زعمهم -، أما باقي الفصائل والجماعات التي لم تبايعه فهي لم تقدم للإسلام شيئاً. فهاجمت الجريدة «صحوات الشام»، و«الفصائل المسلحة في سوريا»، و«حراس الدين»، وجماعة «الإخوان» الذي سعى التنظيم لاستمالة عناصرها بانتقاد منهج الجماعة الفكري، كما اشتبكت الجريدة مع حركة طالبان وتنظيم القاعدة.
وكشفت الدراسة عن سبع أزمات هيكلية ضربت التنظيم وأظهرتها أعداد «النبأ»، هي، خسارة الرهان على الفروع الكبرى، ومنها «ولاية سيناء» في مصر بعد نجاح «العملية الشاملة في سيناء 2018»، وتزايد أعداد الفارين والمنشقين من التنظيم، فضلاً عن الانقسامات والخلافات الداخلية بين صفوفه عقب الهزائم التي لحقته في العراق وسوريا. وكذا تفكك العقيدة القتالية والدعوية لدى عناصره. والإفلاس القيمي والإعلامي. والتراجع الشديد في التخطيط المركزي وغياب الاستراتيجيات. وانتشار ضعف القوة الإيمانية والنفسية لدى العناصر وفقدانهم الثقة بالتنظيم. وانتشار المعاصي والانحرافات السلوكية بين عناصر «داعش».
وقدمت الدراسة المصرية توصيات للتصدي للدعاية السوداء التي تطلقها «النبأ»، أهمها، إيجاد آلية تضمن استبدال المحتوى العنيف بمحتوى آخر معتدل. وحظر الوجود العنيف على المنصات الإلكترونية والعمل على حذفها بشكل سريع وعاجل وملاحقتها في المنصات كافة المنتشرة في مختلف الدول. فضلاً عن العمل على إيجاد منصة عالمية تقوم بفضح الأكاذيب التي تتعلق بالعمليات الإرهابية وضحاياها. إضافة إلى البحث العلمي والأمني لإصدارات التنظيمات الإرهابية، والكشف عما إذا كانت تحتوي على رسائل «مشفرة» لأعضاء التنظيم بخصوص القيام بالعمليات الإرهابية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.