جان كلود يونكر.. على قمة أوروبا

بعد جولات من الكر والفر انتخب البرلمان الأوروبي أخيرا جان كلود يونكر رئيس وزراء لوكسمبورغ السابق رئيسا للمفوضية الأوروبية، ليخلف الرئيس الحالي البرتغالي خوسيه مانويل باروسو.
وجاء ترشح يونكر، 59 عاما، لهذا المنصب، من قبل 26 رئيس دولة وحكومة في الاتحاد، وعارضته بريطانيا، التي ترى أنه لا يعكس رغباتها وسياساتها، وترى في شخصه عائقا أمام التعديلات التي تريد إدخالها على الاتحاد، وتعدها تتعارض مع سيادتها، مثل قضايا الهجرة والمعونات والحقوق التي يتلقاها المهاجرون من دول الاتحاد عند قدومهم إلى أي من دول الأعضاء والحد الأدنى للأجور، وقانون الحقوق المدنية. والدولة الأخرى التي عارضت يونكر هي بلغاريا.

فالسياسي الأوروبي المخضرم، مؤيد بشدة لوحدة أوروبا ويملك الخبرة والحنكة في هذا المجال، كما قال عنه قادة أوروبا خصوصا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وقد حصل يونكر الذي ينتمي لكتلة اليمين الوسط في الأحزاب الأوروبية، المسيحية الديمقراطية والمحافظة، على 422 صوتا من أصل 751 نائبا أوروبيا. وهذه هي المرة الأولى التي يجري فيها اختيار رئيس للسلطة التنفيذية للاتحاد الأوروبي، الذي يضم 28 دولة، من قبل أعضاء برلمان الاتحاد، الذي يتخذ من ستراسبورغ مقرا له. وكان رؤساء دول الاتحاد يتفقون فيما بينهم على شخصية تكون مقبولة للجميع، إلا أن التغييرات التي طرأت على لوائح الاتحاد نصت على أن اختيار رئيس المفوضية يجري ديمقراطيا بالانتخاب من قبل أعضاء البرلمان، وهذا لم يرضِ بريطانيا.
وقال المتحدث باسم الكتلة البرلمانية لليبراليين جاي فيرهوفشتات إن هذا يوم تاريخي، موضحا أنه لأول مرة يجري اختيار رئيس المفوضية الأوروبية على أساس نتائج الانتخابات، مشيرا إلى أنه في الماضي كان يقتصر دور البرلمان على تأكيد قرار حكومات الاتحاد الأوروبي.
رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، الذي قام قبل أيام بتعديلات وزارية بسبب هذا التغيير غير المرغوب فيه في القيادة الأوروبية، عد يونكر «الشخص السيئ» لإدارة المفوضية.. و«أنا ضد ترشح السيد يونكر، وأعتقد أن هذا نهج خاطئ لأوروبا، ومبدأ خاطئ يجري اعتماده. لذلك سأكرر ما كنت قد قلته سابقا وهو الاستفتاء لكي يستطيع الشعب البريطاني اتخاذ القرار». وقال كاميرون آسفا في تصريح نشر في حسابه على «تويتر»: «قلت للقادة الأوروبيين إنهم قد يندمون على ذلك طوال حياتهم». كما علق عدد من المراقبين البريطانيين، على اختيار يونكر، وأشاروا إلى أن اختياره «يعد خطأ جديا»، ويجعل من الصعب على بريطانيا البقاء داخل الاتحاد الأوروبي.
ويواجه ديفيد كاميرون، الذي عارض بشدة ترشيح وانتخاب يونكر لهذا المنصب، خلال الـ12 شهرا المقبلة عددا من القضايا المصيرية، وجميعها ترتبط بشكل أو بآخر بعلاقة بريطانيا وعضويتها في الاتحاد الأوروبي. خلال أقل من شهرين، أي في 14 سبتمبر (أيلول) المقبل، سينظم استفتاء على استقلال اسكوتلندا، الإجابة بنعم ستنهي اتحادا دام أكثر من 300 عام أقامت خلاله المملكة المتحدة أكبر إمبراطورية في التاريخ، وهذا سيكون له انعكاسات خطيرة على مكانة بريطانيا وهيبتها على الصعيدين الدولي والأوروبي. لكن تصريحات يونكر الأخيرة بخصوص اسكوتلندا قد تثلج صدر كاميرون وتساعده في حملته الحالية ضد استقلال اسكوتلندا؛ فقد ذكر يونكر بعد انتخابه رئيسا للمفوضية أن عضوية اسكوتلندا في الاتحاد لن تجري بشكل تلقائي، وقد تطول إلى خمس سنوات قبل قبولها.
المعضلة الأخرى التي يواجهها كاميرون، هي أنه في العام المقبل ستنتهي فترة الحكومة الائتلافية الحالية، المشكلة من حزب المحافظين والديمقراطيين الأحرار. فوز حزب المحافظين بأكثرية برلمانية، مهمة ليست بالسهلة، خصوصا في ظل الانقسام الداخلي الذي يعاني منه حزب المحافظين بسبب العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. هذا ما عبر عنه وزير الخزانة الأسبق السياسي المخضرم كنيث كلارك، الذي تبوأ عددا من المناصب الوزارية في الإدارات المحافظة السابقة ابتداء من حكومة مارغريت ثاتشر. كلارك استقال من الحكومة الأسبوع الماضي بعد التعديلات التي قام بها كاميرون تحضيرا لانتخابات مايو (أيار) 2015 المقبل.
كلارك، الذي ينتمي إلى الجناح اليساري في حزب المحافظين، ومن أكثر المتحمسين لعضوية بريطانيا ووجودها في الاتحاد الأوروبي، قال على خلفية استقالته في تصريحات لوسائل الإعلام البريطاني: «إن الفوز في الانتخابات القادمة في مايو (أيار) المقبل سيكون مهمة صعبة جدا بالنسبة لحزب المحافظين، مثل من يتسلق جبلا». لكن رغم تقدمه في العمر، 74 عاما، وبسبب أن الاختلافات الداخلية بين أجنحة حزب المحافظين بخصوص أوروبا أصبحت أوسع من أي وقت مضى، قال كلارك: «كنت أنتمي لحزب كان قادرا على الفوز في الانتخابات العامة بأكثرية».
كلارك مصر على الترشيح للانتخابات المقبلة من أجل خوض المعركة ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي سيُنظم في عام 2017. وهذه المعضلة الثالثة التي يواجهها كاميرون هذه الأيام، والتي تصب في المسألة الأوروبية.
الغريب في الأمر، كما يعتقد نيك كوين المعلق البريطاني، الذي يكتب في صحيفة «أوبزرفر»، أن سياسات رئيس وزراء لوكسمبورغ (يونكر) من 1995 إلى 2013 تصب في سياسات حزب المحافظين اليمينية، التي ترى في دور السوق المحرك الأساسي لتقدم المجتمعات. يونكر يقول: «كوين شجع الشركات والأفراد للجوء إلى بلده التي أصبحت ملاذا للأفراد والشركات لتفادي دفع الضرائب. إنه بلد (لوكسمبورغ) يجذب شخصيات، مثل المصرفي الأميركي بيرني ميدوف، الذي انهارت إمبراطوريته الاستثمارية مع اندلاع الأزمة المالية في العالم ويقبع حاليا في السجن بسبب دوره في اختفاء أكثر من 50 مليار دولار».
ويضيف كوين أن يونكر أصبح الآن مسؤولا عن الاتحاد الذي ينظر في النظام الضريبي، الذي يشجع الآخرين على التهرب منه.
وشدد يونكر في خطابه قبل التصويت على أن الجانب «الاجتماعي يجب أن يكون أيضا في قلب العمل الأوروبي»، واعدا خصوصا بـ«مكافحة التهرب الضريبي»، كما وعد بأنه لن يوافق على إبرام أي اتفاق لحرية التبادل مع الولايات المتحدة «بأي ثمن». وقد حاز يونكر الذي يرفض بشدة الإعفاءات الكثيرة التي يطالب بها البريطانيون، تأييدا كبيرا من قادة الاتحاد الأوروبي، وكان يشعر بالثقة عندما تحدث أمام أعضاء البرلمان الأوروبي الثلاثاء قبل الماضي متحديا الانتقادات من قبل المشككين بالبناء الأوروبي من بريطانيين.
وقد سعى إلى إقناع المترددين مع تعهدات واضحة موجهة إلى النواب الاشتراكيين والليبراليين والخضر. وقال: «علينا أن نرد على قلق ومخاوف وآمال المواطنين الأوروبيين بالحلم».
وقال: «هناك دولة 29 في طور التشكل، وهي دولة الذين لا عمل لهم.. أرغب في أن يجري دمج هذه الدولة ضمن الدول الأخرى، وأنا أقترح خطة للاستثمار من أجل تحقيق ذلك». وأضاف: «في السنوات الثلاث المقبلة، أريد أن يجري تخصيص 300 مليار يورو لاستثمارات خاصة وعامة».
وذكر النائب الإيطالي عن الاشتراكيين الديمقراطيين جياني بيتيلا أن التصويت الإيجابي ليونكر لا يعني «شيكا على بياض»، موضحا أنه ستجري المراجعة بدقة ما إذا كانت المفوضية الأوروبية الجديدة ستنفذ تعهداتها في القضايا الاجتماعية. وقوطع خطاب يونكر أمام البرلمان الأوروبي أكثر من مرة بتصفيق النواب. وتحدث يونكر فترة طويلة باللغة الألمانية، حيث قال: «سأتكلم بلغة أبطال العالم»، يعني لغة الفريق الألماني الذي فاز بكأس العالم في البرازيل. ويتكلم يونكر الفرنسية والإنجليزية.
ويطالب الجناح الليبرالي، الذي تزعمه رئيس وزراء بلجيكا السابق غي فرهوفشتاد، بأن يجري «تمثيل مجموعته السياسية في كل المؤسسات»، ويطالب «بتعيين تسع نساء على الأقل في منصب مفوض»، على غرار ما كان عليه في المفوضية المنتهية ولايتها.
وتبرز مطالب الليبراليين المساومات بين الدول حول المنصبين الكبيرين، وهما وزارة خارجية الاتحاد الأوروبي ورئاسة مجلس أوروبا، وأيضا للحصول على حقائب في الجهاز التنفيذي للاتحاد. بريطانيا تريد الاحتفاظ بحقيبة الخارجية، التي تشغلها حاليا الليدي كاثرين أشتون وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي. كما أن إيطاليا تطمح في المركز نفسه. ورشح ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني جوناثان هيل لمنصب المفوض البريطاني لدى الاتحاد الأوروبي. ووعد كاميرون بالسعي لإعادة التفاوض بشأن علاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي وإجراء استفتاء على عضوية البلاد في الاتحاد عام 2017 إذا فاز في الانتخابات التي تجري العام المقبل ويعتقد أن هيل سيلعب دورا مهما في هذه العملية.
ويونكر معتاد على التحالفات مع الاشتراكيين، الذين شاركهم في الحكم بشكل شبه دائم، كما أنه أبدى مهارة كبيرة في التفاوض والمساومة. وقال وزير الخارجية الفرنسي: «لديه الخبرة بحسناتها وسيئاتها، ويمكنه التوفيق بين اليمين الاجتماعي واليسار الاشتراكي الديمقراطي، كما أنه من ثقافة مزدوجة؛ فرنسية وألمانية».
بدورها، لم تتردد الصحف البريطانية أخيرا في شن حملة ضد هذا المدخن الذي اتهمته أيضا بالميل المفرط إلى شرب الكحول. وبعض صحف الإثارة نعتت والده الذي جرى تجنيده رغم إرادته في القوات النازية بأنه «نازي». واستنكر يونكر هذا الهجوم «المقزز» الذي آلمه إلى حد كبير. وبعد اتهامه بالإهمال إزاء تجاوزات الاستخبارات في لوكسمبورغ، أقيل من رئاسة الحكومة في أواخر 2013. وتعهد آنذاك بتكريس جهوده لشؤون بلاده وذلك ردا على الاتهامات آنذاك بأنه أهملها لصالح أوروبا.
عايش يونكر التحول الكبير للاتحاد الأوروبي، وفشل المعاهدة التأسيسية في 2005، وبدء تطبيق معاهدة لشبونة بعد أربع سنوات، واعتماد العملة الموحدة، ثم أزمة الديون، وإنقاذ اليورو، وهي مهمة كرس لها جهودا كبيرة على رأس مجموعة «يوروغروب».
وقال يونكر أمام البرلمانيين الأوروبيين في خطاب ألقاه قبل التصويت عارضا فيه رؤيته للمستقبل: «إن اليورو يحمي أوروبا».
ولد يونكر في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 1954 في لوكسمبورغ البلد الصغير بين فرنسا وألمانيا، وإحدى الدول الست المؤسسة للاتحاد الأوروبي.
وعاش في كنف عائلة بسيطة. والده كان نقابيا ويعمل في مصنع للفولاذ بلوكسمبورغ، في حين قضى شبابه في مدينة بيلفو حيث درس القانون. ترعرع يونكر في عالم العمال البسطاء، وتأثر كثيرا بهم حيث اكتشف معنى العدالة الاجتماعية ومعنى الكرامة والقيم الإنسانية، حسب تعبيره.
اعترف بأنه لم يكن متحمسا كثيرا في البداية لترشيح نفسه لخوض غمار الانتخابات الأوروبية، لكن مع مرور الوقت غيّر رأيه تحت تأثير أصدقائه في السياسة وبعض أقاربه.
ورغم أن منافسيه يصفونه بـ«المدافع عن سياسة التقشف» ويقولون إنه لعب دورا سلبيا خلال الأزمة الاقتصادية التي مرت بها اليونان في 2010. حيث كان يترأس «يورو غروب»، فإن يونكر دافع في حملته الانتخابية عن مواضيع أقل ما يقال عنها إنها ليس لها بُعد ليبرالي. وهو يناضل من أجل فرض حد أدنى للأجور في جميع دول الاتحاد، وتوحيد قوانين العمل، وتنظيم تسريح العمال، إضافة إلى منح رواتب «محترمة» للعمال. ويبدو أن اللقاءات التي كان ينظمها والده في المنزل برفقة عمال ونقابيين أثّرت على حياته الشخصية ثم السياسية.