القفز نحو الأسئلة الصعبة

القفز نحو الأسئلة الصعبة
TT

القفز نحو الأسئلة الصعبة

القفز نحو الأسئلة الصعبة

نُشر مؤخراً كتاب «أجوبة موجزة عن الأسئلة الكبيرة»، لعالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ، وذلك بعد سبعة أشهر على رحيل مؤلفه، (توفي في مارس/آذار 2018)، هذا الكتاب يُعتبر أحد الفتوحات العلمية للرجل الذي قدم كتباً أطروحات علمية خارقة، أحد كتبه وهو كتاب «تاريخ موجز للوقت» بِيع منه أكثر من 10 ملايين نسخة، وطبع بثلاثين لغة.
العُلماء وحدهم يجرؤون على طرح الأسئلة الكبيرة، وقيمة العلم أنه يخترق المساحات المألوفة ليطرح الأسئلة الخارقة وغير المألوفة، والذين استكانوا لرأي المشهور أو الرأي السائد، ظلوا محبوسين في قوالب النظريات القديمة. ولذلك؛ كانت عبقرية هوكينغ أنه دأب على اجتراح الأسئلة الصعبة، والقفز في فضاء السؤال الخلاّق؛ ولذلك جاءت كتبه من قبيل «الثقوب السوداء» لتؤسس لمسار علمي وفلسفي جديد.
في كتاب «أجوبة موجزة عن الأسئلة الكبيرة»، يحاول تقديم إجابات لأسئلة تتعلق بالإنسان والكون والآلة. هل سيتمكن الإنسان من ابتكار طريقة تجعله يعيش خارج كوكب الأرض...؟ يقول هوكينغ، إن البشر ليس لديهم خيار سوى مغادرة الأرض؛ لأن استمرار وجودهم دون أفق ينقلهم إلى عوالم أخرى قد يعرضهم لـ«الإبادة».
من الأسئلة المهمة التي يطرحها العالم الراحل: هل سيتجاوزنا الذكاء الاصطناعي؟، هو يقرر أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يفوق البشر، وهو يجزم أن أجهزة الكومبيوتر سوف تتفوق على البشر في الذكاء خلال المائة عام المقبلة، لكن «سنحتاج إلى التأكد من أن أجهزة الكومبيوتر لديها أهداف تتماشى مع أهدافنا»، هل يمكن تخيل حال البشرية في ظل تحكم الآلة الذكية بالإنسان، هي يمكن أن تتأنسن، بمعنى أن تصبح عاطفية وذات شعور ولديها مُثل وقيم ومبادئ...؟
لا يقف عند ذلك، يقول هوكينغ، إن الجنس البشري يجب أن يحسّن من صفاته العقلية والجسدية، لكن وجود سلالة معدلة وراثياً من البشر فائقة القدرة «سوبر هيومن»، مع زيادة في الذاكرة ومقاومة للأمراض، ستعرض آخرين للخطر.
يحاول أيضاً هوكينغ أن يجترح سؤالاً آخر: هل يمكن السفر عبر الزمن...؟ وهو يجيب: نعم! يمكن للإنسان أن يسافر مسافات خارقة عبر الزمن. وهو يقول إنه في الخمسين سنة المقبلة، سوف نفهم كيف بدأت الحياة وسنكتشف ما إذا كانت الحياة موجودة في مكان آخر في الكون؟
فكرة السفر عبر الزمن ليست من ابتكار هوكينغ، قبل 120 عاماً صدرت رواية «آلة الزمن» وكتبها البريطاني «هربرت جورج ويلز»، وهي تدور في قالب من الخيال العلمي، حاول المؤلف أن يسافر نحو المستقبل مسافة 800 ألف سنة. لكي يستطلع صورة الإنسان حيث عثر هناك على أجناس بشرية تشكّلت بفعل نظريات الثقافة والاجتماع، وأمكنه أن يتخيل أن الهوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء أفرزت عبر الزمان أجناساً بشرية مختلفة، بعضها أفسدته النعمة، والآخر شوّهته الفاقة.
أهمية الكتاب، أنه محرك هائل للبحث، ومثير للأسئلة، لا يقدم بالضرورة إجابات نهائية، ولا يفرض قناعات مغلقة، ويتجه في حركته في إثارة العقل نحو المستقبل، هذه الحركة تجعل المسير نحوها مجدياً ومثمراً ومشوقاً.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.