في مدينة بوسان على الساحل الجنوبي من كوريا الجنوبية أقيمت دورة جديدة من مهرجان «بوسان» السينمائي الذي استمر من الرابع إلى الثالث عشر من الشهر الجاري.
حملت الدورة الرقم 23. لكنّها حملت كذلك مناسبة أخرى وهي أنّها السنة الأولى التي يُقام فيها المهرجان وسط أفراح مشروع تطبيع العلاقات بين الكوريتين الشّمالية والجنوبية. هذا يعني الكثير للكوريين على طرفي الحدود كونهما أبناء جنس واحد ولغة وثقافة مشتركة في كل قوامها وعناصرها، تماماً كما كان الحال في ألمانيا إلى أن تهاوى جدار العزلة سنة 1990.
على عكس مهرجانات عربية كثيرة، لا يبخل السينمائيون جميعاً في تشجيع مهرجان يُقام في بلدهم. لا كأفراد، حيث يؤم كثيرون منهم هذا الاحتفال، ولا كجمعيات سينمائية تشارك وتوزع الجوائز وتحيي الحفلات.
حدث ذات أمس
الأرقام التي وُزعت على المشاركين تؤكد أنّ المهرجان ما زال يحظى باهتمام عالمي واسع لجانب اهتمام مماثل من السينما الكورية كما من سينمات جنوب شرقي آسيا.
> عدد حضور العروض السينمائية بلغ تحديداً 195081 فرداً.
> عدد الأفلام التي قُدّمت: 324 فيلماً.
> عدد الأفلام التي لم يسبق لها أن عُرضت في أي مكان من العالم (وورلد برميير): 115.
> عدد الدول المشاركة: 79 دولة.
> عدد الصّالات العارضة: 30 شاشة في 5 مجمعات سينمائية.
> مُنحت 1737 شارة (Badge) للعدد المذكور من الأشخاص المشاركين في سوق الفيلم الذي حضرته 911 شركة من 54 دولة.
بالإمكان الاستمرار في سرد الأرقام والنشاطات المصاحبة، لكن ما سبق يعطي فكرة كافية عن حجم هذا المهرجان الذي نافس قبل نحو عشر سنوات مهرجان طوكيو الياباني وتغلّب عليه بالنقاط.
بعض السينما العربية كان حاضراً ولو بتواضع شديد من بينها الفيلمان المغربيان «صوفيا» لمريام بنمبارك، و«مُلِح» لمحسن بصري. كذلك شوهد الفيلم السوري - اللبناني «يوم أضعت ظلي» لسؤدد كعدان. لكن معظم اللافت كان من بنات السينما الأوروبية والكورية ذاتها.
وربما كان طبيعياً أن يختار صانعو فيلم «أدم وإيفلين» مهرجان بوسان لعرضه. دراما عاطفية رصينة من تحقيق أندرياس غولدستين تدور حول أزمة علاقة زوجية في سنواتها الأولى على خلفية أزمة أكبر هي أزمة منع ألمانيا الديمقراطية النزوح إلى خارج الدول الشيوعية وعلى الأخص إلى ألمانيا الغربية. كون الأحداث تقع في الثمانينات وقبيل انهيار الجدار الفاصل بين شرق برلين وغربها، منح الفيلم تلك العلاقة لما يشعر به المواطن الكوري في الوقت الذي التزم المخرج غولدستين (في عمله الأول) هذا، بالوجه العاطفي للأزمة عندما تفاجئ الزوجة زوجها وهو على وشك الاستجابة لغريزته مع امرأة أخرى.
على حسناته لا يزال فيلماً وديعاً أكثر بقليل مما يجب ولم يخرج بجائزة من بين جوائز «بوسان» الوفيرة، وهذا على عكس «الرفيق الصغير» الذي يماثل «أدم وإيفلين» في رميه نظرة على التاريخ السّابق للنّظام الشّيوعي.
هو فيلم إستوني عن إستونيا والحكم الستاليني الحديدي الذي كان ممارسَاً بغلاظة. تقع الأحداث في فيلم مونيكا سيميتس في الخمسينات، وبطلتها فتاة صغيرة تترعرع تحت وطأة الحكم الشّيوعي وممارسات الرفاق الحادة. هي فتاة صغيرة (تقوم بها هيلينا - ماريا رايزنر). المحك الذي ينجح الفيلم في جعله جزءاً من القضية المثارة هنا هو أن الفتاة التي لا تعرف شيئاً بعد عن السياسة، تتابع بإعجاب ثلة الشبان الذين يصدحون بالنّشيد الوطني ذي كلمات الإشادة الشّيوعية من دون أن تمتلك الصورة الكاملة للوضع. هي لا تعرف (في مطلع الأمر) أنّ والدتها (التي تعمل في المدرسة ذاتها) اعتبرت «عدوة الشّعب» لمجرد أنّ الأم (إيفا كولديتس) لديها مشاعر فخر قومية.
يتابع الفيلم تطوّر الفتاة وارتفاع نسبة مداركها في سن حرجة. هي ما زالت غير قادرة على استيعاب السبب الذي من أجله تُستبعد أمها من حياتها، ولا الخطأ الذي ترتكبه عندما تغني أنشودة محلية على غرار والدتها. سيناريو المخرجة يمكّن المشاهدين من معرفة صورة عن الوضع الذي كان سائداً في ذلك الزمان. وهي تعالج الفيلم بالرّقة المناسبة لبطلتها. كل هذا أشعل فتيل النّجاح لعروض الفيلم المحلية في إستونيا كما لم تفعل سوى حفنة من الأفلام المحلية من قبل.
بين الصمت والحوار
لم تتوانَ الأفلام الكورية الجنوبية، ومنذ سنوات بعيدة، عن طرح المشكلات السياسية الناتجة عن انشطار الدولة إلى نظامين. وفي «بوسان»، خلال العام الجاري، كان هناك عدد من هذه الأفلام أوّلها في جدول العروض فيلم بعنوان «أيام جميلة»، وهو عنوان ساخر من أيام مضت شهدت انفصال العائلات تبعاً للحرب بين البلدين والهجرة التي شهدتها البلاد بعد اكتساح قوات كوريا الشمالية بلدات الحدود.
مرّة أخرى يلعب الفيلم الذي أخرجه جيرو يون (أول فيلم روائي له بعد أعمال تسجيلية عدة)، على الموضوع الأمامي الملقى على خلفية شاسعة. بطل الفيلم شاب صيني يبحث عن والدته الكورية التي تركته صغيراً، وذلك عملاً بتوصية والده المريض. يترك الشّاب الصين ويجدها في بلدة صغيرة تعيش مع رجل وضيع. ما بين العواطف الملتاعة والغضب الفوري تتبدّى الأسباب فإذا بالحق على ذلك الانشطار الكوري الذي مزّق أواصر العائلات.
فيلم يون يحاذي الميلودراما ويتعثّر سرداً هنا وهناك، خصوصاً أنّ السيناريو، كما كتبه المخرج، يضيف رتلاً من التعقيدات التي كان يكفي القليل منها لإيصال الرسالة والإبلاغ عن الحالة.
الأفلام الكورية كان لها قسمها الخاص أيضاً وليست جميعها من نوع سينما الحرب الباردة ولا البائدة، ومن بين أفلام هذا القسم «ضوء ليلي» الذي يحتوي كذلك على بحث عائلي. هذا الفيلم، من تحقيق كيم موويونغ، يتحدث عن صبي يعيش مع والدته التي طُلقت من زوجها قبل عشر سنوات. بما أنّ حياتها الزوجية الجديدة غير مستقرة تبعث بابنها ليلتحق بأبيه الذي يعيش منفرداً في بعض الجبال. يوافق الأب على زيارة قصيرة، وكلاهما، الأب وابنه، غير مرتاحين للقاء يحدث للمرّة الأولى بينهما. مع أن المرء يعرف أن الأيام القليلة ستمتد وأن الحاجز بينهما سيتبدّد، إلّا أن للفيلم حلاوته ورقته. هو فيلم بطيء السّرد بقصد غرس حب المكان وإيقاعه وجمالياته.
الوضع العائلي يعبّر عنه أيضاً فيلم كوري آخر عنوانه «لا تذهب بعيداً (Don’t Go Too Far)» لبارك هيوانغيونغ. الحكاية مسلية إلى حدٍّ ما (وتحمل بعض السذاجة كذلك): أربعة أبناء (بينهم فتاة) يجتمعون في منزل والدهم الذي يودّع أيامه الأخيرة وبحوزته مليونا وون (نحو مليونين و260 دولار أميركي) يريد تقسيمها عليهم. يوصي بنصف الثروة لابنه الأكبر وبنصفها الآخر لأولاده الثلاثة. لكنّ هذا لا يُرضي لا الابن الأكبر ولا إخوته. يتطوّر الجدال عندما يستلم الابن الكبير مكالمة تُعلمه بأنّ ابنه الصغير قد خُطف مقابل دفع فدية قدرها مليونا وون.
الفيلم ليس كوميدياً، وربما كان من الأفضل له أن يكون. أو على الأقل أن يحمل قدراً أعلى من السخرية. لكنّ ما يفقده في هذا التوجه يحصل عليه عبر العمل المثابر لتقديم حكاية متأصلة في فن الأداء المسرحي مع حوار مثير يفصح عما هو أكثر من ردات أفعال. وفي حين أنّ «ضوء ليلي» قليل الكلام، و«لا تذهب بعيداً» كثيره، يجيء الفيلم الفيتنامي «الزوجة الثالثة» (الفيلم الأول لآش مايفير) متأنياً بين الاثنين. هناك حوار لكن هناك نظرات رامزة كبديل أيضاً.
على الورق
لمن لم يكن يدري أن زواج الرجال من أكثر من امرأة عادة شائعة في فيتنام فإنّ هذا الفيلم الدرامي يفتح الأعين على ذلك. يفتح الأعين أيضاً على موهبة سينمائية في مقتبل الطريق تعالج موضوعها (حول فتاة آلت لتصبح الزوجة الثالثة لمالك أراضٍ شاسعة) برويّة محسوبة.
هناك الكثير من الماء تحت جسر هذا الفيلم. القصة تتيح لبطلة الفيلم (تؤديها تران نو ين خي) وللمشاهد معاً التعرّف على الشخصيات الأخرى وأخطائها وخطاياها كما على دورها المنشود صوب زوجها كأصغر الزوجات الثلاث.
الاهتمامات بالموضوعات الاجتماعية ليست دائماً ذات أهمية. هناك العديد من الأفلام التي تتعرض لشخصيات نسوية لا بد أنّها بدت على الورق مشاريع جيدة، لكن خلال التنفيذ أثمرت عن قدرات إبداعية لا توازي ما يَرِد في تلك المشاريع من أفكار. مثل ذلك نجده في «كل يوم هو يوم جيد» الذي يطمح لأن يتناول حياة فتاة لا تعرف ما تريد في حياتها. هو فيلم ياباني لأوموري تاتسوشي عن تلك الفتاة نوريكو التي ليست لديها هواية ولا صديقات (باستثناء ابنة خالتها) ولا تدري ماذا تريد أن تحقق في مستقبلها. بناءً على نصيحة والدتها تدخل مدرسة لتعليم مراسيم الشاي في الحفلات الرسمية إنّما من دون شغف. تترك صديقها وتتعرف على سواه، لكن الوحدة تحيط بها كيفما فعلت. للأسف يستنتج المرء هذه الأفكار من المراقبة الاعتيادية التي تمشي على سطح الموضوع لا بالغوض فيه.
مشكلة شبيهة نجدها في الفيلم الكوري «جسدنا» لهان كا – أم، حيث بطلة الفيلم تفقد طموحها بعد سلسلة من الإخفاقات في حياتها الخاصة والعامة. ذات يوم تتعلق بحب شاب مرّ بها عابراً وتبدأ بملاحقته، لكنّ الإخفاق يواكبها في هذه المرحلة من حياتها أيضاً. لجانب تمثيل جيد من بطلة الفيلم مون تشوي.