أوانٍ تراثية بأنامل مصرية لاستعادة دفء البيوت العربية

معرض في القاهرة للفنان محمد مندور

يظهر في أعمال مندور في معرضه الجديد الذي يضم نحو 23 عملاً تأثره الواضح بالطبيعة
يظهر في أعمال مندور في معرضه الجديد الذي يضم نحو 23 عملاً تأثره الواضح بالطبيعة
TT

أوانٍ تراثية بأنامل مصرية لاستعادة دفء البيوت العربية

يظهر في أعمال مندور في معرضه الجديد الذي يضم نحو 23 عملاً تأثره الواضح بالطبيعة
يظهر في أعمال مندور في معرضه الجديد الذي يضم نحو 23 عملاً تأثره الواضح بالطبيعة

«الآنية بيت من بيوت الحكمة»... ليس مجرد عنوان لمعرض فني، إنما هي رؤية فلسفية بليغة الحضور في ما يضمه من خزفيات ذات صياغة فنيّة لافتة، وانسيابية مفرطة، كأنها جاءت لتعيد إلى الذاكرة العربية عتاقة المشغولات الخزفية المعجونة بالتاريخ وبدفء المشاعر الإنسانية التي كانت تسكن بيوتنا القديمة، فتُكسبها قيماً عملية وجمالية في آنٍ واحد.
وعندما تزور المعرض تصل بنفسك إلى الأسباب التي من أجلها حصد محمد مندور خلال حياته الفنية عدداً كبيراً من الجوائز العالمية والمحلية، وكان آخرها جائزة بينالي مدينة فينيسيا الإيطالية، بالإضافة إلى اقتناء المؤسسات والمتاحف الإقليمية والعالمية بعض روائعه، ومنها البنك الدولي في نيويورك، والمتحف الدولي في فاينزا الإيطالية، ومتحف فيكتوريا بلندن الذي يستعد لاستقبال إحدى خزفياته، كما اقتنى بعضَ أعماله عددٌ كبير من مشاهير العالم، من بينهم الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني.
عند زيارة معرض الفنان محمد مندور، المقام حالياً تحت عنوان «الآنية المصرية بيت من بيوت الحكمة» في مركز الجزيرة للفنون بوسط القاهرة، يستوقفك بعض الأعمال الفنية التي يضمها لأنها جاءت بالفعل نموذجاً صادقاً لآنية الحكمة المحمّلة بعبق التاريخ، وملامحه عبر صياغة تشكيليّة جادة، وقيمة فنية مرتفعة.
يقول الفنان في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «تحمل مقولة (الآنية بيت من بيوت الحكمة) معنى بليغاً وواقعياً، لأن تاريخ البشرية مدوّن على قطع الفخار، مثل اللغة السومرية التي سجلت الكثير عن الإنسانية والحضارات عبر الخزف، كما أن الحضارة المصرية احتفت بها، وكانت جزءاً من الحياة اليومية، ومن هنا تأتي الأعمال الخزفية المحملة بالتجارب الإنسانية والحكمة».
يضيف مندور: «الأواني تعد بيتاً بالمعني الحرفي، فبيوت بعض القبائل الأفريقية عبارة عن إناء من الفخار، حيث تبنيه بالطوب والطين وتملأه بالخشب ثم تشعل النار فيه فيتحول إلى قطعة فخار، ولذلك لكل إناء روح وشخصية مثل الإنسان».
ومثلما تستقبلك الأواني في المعرض بالحكمة البالغة، فإن سطوحها الملفوفة بانسيابية ورشاقة تعيد إلى الأذهان تشبيه الفنان الراحل بيكار لأعمال مندور بجسد المرأة ممشوقة القوام وبالغة الحسن والدلال، فتبهرك استدارة الكتلة، وحضورها الشامخ في الفراغ، لا سيما حين ينساب الضوء فوقها، فتبدو الأواني الكبيرة بوجه خاص كقطع متحفية أثرية خرجت للتوّ من عباءة التاريخ، وهي تأخذنا كذلك إلى بعض ملامح فنون الحضارة المصرية القديمة، حيث بلاغة التلخيص.
ولا يؤكد هذا الطابع الأثري لأعمال مندور حجم الأواني فقط، والذي يتجاوز المتر في العديد منها، أو تشكيلها الفني المستلهم من التاريخ والحضارة، إنما أيضاً تسهم ألوانها الهادئة والمعتقة، في تأكيد هذا الإحساس القوي بأنها أوانٍ تم استدعاؤها من أحد المتاحف الأثرية لتحطّ في قاعة المعرض، لأن التقنية اللونية أو التركيبة التي ابتكرها مندور من مادة مأخوذة عن فن صباغة الجلود، وتوصل إليها بعد نحو 15 عاماً من التجارب والبحث، قد أكسبت أعماله الجديدة مزيداً من التماهي مع الأرض، والماضي البعيد بكل زخمه وأحاسيسه الإنسانية الدافئة، لدرجة أن أحد أعماله الفنية الأخيرة التي استحوذت على إعجاب سيدة عربية، واقتنته، قد استوقف الشرطة المصرية في أثناء إجراءات خروجه من مصر، حيث تسرب إليها الشك حول ما إذا كانت قطعة أثرية.
ولعل جانباً مهماً من تفرد ألوانها، التي تشبه ما تفعله العوامل الجوية في الصخور، أنها جاءت استكمالاً لمفهومه للاستلهام من التراث، حيث يرى أنه لا ينبغي له أن يكون تكراراً أو تقليداً، فذلك على حد تعبيره «أمر سهل للغاية... إنما التحدي الحقيقي هو استدعاء روح التراث، لأن التقليد يعني أنك مثلما تنقل العمل الفني فإنك تنقل معه كل ما يرتبط به في الزمن الذي أفرزه وشكّله، وهو بالتأكيد لا يناسب العصر، وفي حين أنه عندما نستلهم روحه، ونضفي عليه لمساتنا فإننا ننجح في المزج بين أصالة الماضي والحداثة التي تجيد لغة العصر».
ذلك بالضبط ما برع مندور في تحقيقه، وكان وراء تفرد خزفياته لا سيما في ظل تمسكه بتقنية التشكيل اليدوي على الدولاب أو الحجر، رافضاً إقحام التكنولوجيا في الفن، لكي يحمل العمل الفني بصمات الفنان وأنفاسه، وفي الوقت نفسه يكون مجسداً لعتاقة إنسانيّة معجونة بالتاريخ، ومعطرة برائحة التراب والمطر، كأنها تعزف سيمفونية الزمن والحضارة.
ولذلك يشبّه الفنان عمله على الدولاب بقوله: «عندما أشكّل الخزف بيديّ، وأدير الحجر بقدمي، في الوقت الذي ينشغل فيه ذهني بالصياغة الفنية، أشعر كأنني كالعازف على البيانو، أو المايسترو الذي يقود الأوركسترا».
وبجانب هذا الاحتفاء بالحضارة والجذور، يظهر في أعمال مندور في معرضه الجديد الذي يضم نحو 23 عملاً، تأثره الواضح بالطبيعة، وبنتاج الطين المصري، حتى إن بعض الأواني تستدعي داخلك شكل ثمار «الكوسة» و«القرع العسلي» كأنها أُتيَ بها من الحقل، كما تنهض أعمال أخرى على مرجعيات أصيلة مستمَدة من الفلكلور الشعبي، في الريف والحواري المصرية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)