«فلسطين.. لستِ وحدكِ وقضيتك قضيتنا»

صرخة إعلامية موحّدة من لبنان إلى غزة

«فلسطين.. لستِ وحدكِ وقضيتك قضيتنا»
TT

«فلسطين.. لستِ وحدكِ وقضيتك قضيتنا»

«فلسطين.. لستِ وحدكِ وقضيتك قضيتنا»

صرخة موحّدة أطلقها الجسم الإعلامي اللبناني أمس (الاثنين)، تضامنا مع أهالي غزة والشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمرّين جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل، حيث توحّدت شاشات المحطات المحلية على اختلافها، ورغم انقساماتها الحادّة، فخرجت بنشرة إخبارية جمعت الخليط الوطني بكلمة وصورة وعنوان واحد، فبثّت نشرة الثامنة وعشر دقائق مساءً بصيغة واحدة حملت عنوان: «فلسطين... لستِ وحدكِ»، في رسالة دعم لصمود غزة ولشهدائها من الأطفال والشيوخ والنساء، كسرت الصمت، وشكلت وقفة احتجاجية، هي الأولى من نوعها في لبنان وربما العالم.
الإعلام اللبناني الذي عبّر بطريقته عن تضامنه مع غزة، استطاع أن يغيّر مشهد التضامن الخجول، ليقدّم لحوالي نصف ساعة نشرة موضوعية مهنية، تضافرت حولها فرق الإعداد المتنوعة وانطلقت ورش التحضير لها على قدم وساق منذ الخميس الفائت.
ففي مشهدية غريبة عن الساحة اللبنانية اتحدت شاشات «إل بي سي آي»، و«إم تي في»، و«المنار»، و«المستقبل»، و«الجديد»، و«أو تي في»، و«تلفزيون لبنان»، و«إن بي إن»، في نصوص وعناوين طالما تاق المواطنون إلى رؤيتها، لتجسّد العيش المشترك و«لبنان الرسالة».
وكان وزير الإعلام رمزي جريج أيّد مبادرة النشرة الموحدة «تضامنا مع الشعب الفلسطيني ورفضا للعدوان، والتي سيصل صداها إلى العالم بأسره». وقال: «تبلغت أن هذه النشرة قيد الإعداد، وطلبت من تلفزيون لبنان المساهمة في هذه الخطة الهادفة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني في مواجهة الجريمة ضد الإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي». كما دان جريج «قتل الأطفال والنساء والكهول في فلسطين». ووجّه نداء إلى «المحافل الدولية لوقف الجريمة»، مشيدا بـ«الاجتماعات التنسيقية التي تعقد لبنانيا وفلسطينيا بمبادرة من ناشر جريدة «السفير» وصاحب فكرة توحيد الإعلام اللبناني من أجل غزّة، طلال سلمان».

* «تلفزيون لبنان»: هدفنا واحد
ندى صليبا شويري، نائبة مدير الأخبار في «تلفزيون لبنان»، كشفت في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «مبادرة النشرة الموحّدة هي أحد أساليب رفع الصوت وإطلاق صرخة إعلامية لبنانية تجاه المجازر». وتضيف «كلنا نملك الهدف نفسه، والنشرة نوع من أنواع التضامن مع القضية الفلسطينية ومع معاناة أطفال غزة الذين يتقطّع القلب لدى رؤية جثثهم ومأساتهم. لذا، فعندما نرفع الصوت جميعا تصل القضية والرسالة بشكل أفضل»، متمنية على الإعلام اللبناني «اتخاذ خطوات لاحقة تكون رادعة وأكثر أهمية، بحيث تعبّر عن تضامن أكبر. كما نتمنّى أن تنسحب التجربة اللبنانية على مستوى العالم العربي، وأن تُترجم المبادرة بخطوات فعالة على أرض الواقع، تظهر للشعب الفلسطيني وقوف الشعب العربي إلى جانبه».
واعتبرت شويري أن «المطلوب من العالم العربي أكثر من صرخة مدويّة، إنما خطوات حازمة، لأن من يمسّ الشعب الفلسطيني يمسّ الشعب العربي كلّه»، مؤكدةً أن «النشرة الموحّدة إنجاز وخطوة تنمّ عن تحدٍ نجحت عبره القنوات اللبنانية في اعتماد أسلوب ولغة واحدة، رغم اختلاف أساليبها عادة في التعاطي مع الأحداث، وهذه ظاهرة لافتة، حيث استطاعت القضية الفلسطينية أن توحّدها وأن تجعلنا كلنا متضامنين».
وختمت بالإشادة بـ«مشهدية رؤية مقدّمي النشرات على اختلافهم.. يظهرون على شاشات لم يظهروا عليها سابقا. ونرجو أن ينسحب التماسك اللبناني إزاء القضية الفلسطينية على التماسك على القضايا الوطنية الدّاخلية».
وإذ شرحت نائبة رئيس مجلس إدارة قناة «الجديد» كرمى خيّاط أن «التحضير للنشرة بدأ منذ منتصف الأسبوع الماضي، حيث تكاتفت المحطات جميعها وأعدّت التقارير وراجعت مضمونها تجنبا للتكرار ونسّقت الأمور التقنية والتحريرية»، قالت «النشرة الموحّدة خطوة جديدة من نوعها تحصل للمرّة الأولى في العالم، وهي على قدر من الأهمية، كونها رسالة دعم أساسية للشعب الفلسطيني». وتوضح «الفلسطينيون يعتبرون ألا وجود لتضامن إعلامي عربي معهم، لذا تسهم هكذا نشرة في رفع معنوياتهم وعزيمتهم، حيث نقول لهم عبرها: (لستم وحدكم)، وإن كان الهدف الأساسي عزل الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، فنحن كلنا مع هذه القضية المركزية المحقّة».

* النشرة الموحّدة على قنوات فلسطينية
وكانت مديرة الأخبار في قناة «الجديد» مريم البسّام كشفت بدورها أن «الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس أكد لها أن ثلاث محطات تلفزيونية فلسطينية ستنقل النشرة الإخبارية الموحدة، التي ستعتمدها المحطات اللبنانية، منها قناتا فلسطين الرسمية والوطن».

* إل بي سي: معكم بوجه لوعات العدو
وفي ظل انطلاق ورشة العمل في كواليس القنوات كافة تحضيرا لليلة الحدث، التي أعلن خلالها الإعلام اللبناني انحيازه الكامل للشعب الفلسطيني، في وجه آلة الحرب الإسرائيليّة، بعيدا عن أي خلافات سياسيّة، تلفت مديرة العمليات في قسم الأخبار في قناة «إل بي سي آي» لارا زلعوم إلى أن «النشرة الموحّدة هي ثمرة تعاون حقيقي ومهني جسّد أهمية التعاطي مع القضية الفلسطينية...}.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)