إحدى ميزات فيلم «أول رجل» (Fist Man الذي بوشر بعرضه تجارياً في المنطقة العربية وحول العالم) في نطاق حديثه عن تجربة الهبوط على سطح القمر وقيام نيل أرمسترونغ بالسير فوقه كأول آدمي ينجز ما بدا معجزة في الستينات، أن فعل الوصول والهبوط والسير ليس معالجاً كنصر للبشرية كما تردد آنذاك. ولا هو هزيمة بالطبع.
هذا الإنجاز، بمعالجة المخرج داميال شازيل ليس برّاقاً ولا مدعاة للزهو بالنسبة لأرمسترونغ كما يؤديه رايان غوزلينغ. الخطوات، وقد نصب المخرج الكاميرا فوق رأس ممثله بحيث لا نرى ردات فعله بادية على وجهه، تتابع تلك الخطوات الحذرة التي تهبط السلم الخارج من بطن المركبة. وأول خطوة تلامس فيها قدم أرمسترونغ تراب الكوكب هي أيضاً فوقية.
أرمسترونغ لا يقفز فرحاً ولا يتفوّه بكلمة ولا يبدو عليه، وقد انتقلت الكاميرا على سطح الكوكب المذكور، الفرح أو الاكتئاب. هذا لا يماثل قدرة الممثل على عكس مشاعر عالية (فرح، غم، غضب الخ…) وإبقاءها تحت رداء النفس، لكنه لا يماثل المتوقع والمستنتج وربما ليس الواقع أيضاً.
يماثل حقيقة أن القمر يبدو من عندنا ونحن ننظر إليه من زاوية منخفضة (دوماً) كبيت من الشعر. لكن حين الوصول إليه يتبدى كما لو أنه صحراء بلون رمادي كالح. لا جمال فيه. كذلك حال الشعور البديهي من أن رحلة إلى القمر حافلة بالتحديات وجاهزة لقطف انتصار الإنسان على حدود وقدرات الأمس، لكن حين الهبوط عليه فعلاً فإن جل ما يستطيع أرمسترونغ فعله (حسب هذا الفيلم) هو تذكر ابنته التي ماتت صغيرة.
- في فضاء عائم
يبدأ الفيلم برحلة خوف وينتهي برحلة مخاوف. البداية هي للكاميرا مركّزة على وجه ذلك الطيار المدني (أرمسترونغ) قبل سبع سنوات من رحلته الفضائية صوب القمر. إنه في قمرته يواجه اختبار قدرات ملاحية. القمرة تهتز. أصوات الأجهزة تتعالى. الطائرة تهوي والخوف يعتري وجه الطيّار والكاميرا تسجل.
في النهاية الهبوط على سطح القمر ينجز انتصاراً علمياً بالنسبة للمتابعين على الأرض ويمثّل خوفاً ذاتياً يمنع أرمسترونغ من الشعور بالفرح ذاته. داميان شازال يفعل ما في وسعه لكسر المسلمات، فالهبوط لم يكن إنجازاً لأرمسترونغ ولا هو احتفاء فعلي لأحد. في واقع الفيلم (وليس بالضرورة في الواقع التاريخي) السير على سطح القمر لا يستمر إلا لبضع خطوات. والبقاء على ذلك السطح المترب محدد بخطوات قليلة ومحدود القيمة الفعلية. أرمسترونغ يعود إلى المركبة وهذه تعود إلى الأرض.
كثير من ذلك الوضع غير البهيج، يماثل ما ورد قبل ثلاثة أعوام في فيلم ريدلي سكوت «المريخي» (The Martian).
هناك يواكب الشعور بالنصر رحلة الفيلم إلى الكوكب الأحمر (نسبة إلى لون تربته)، لكن الخطأ المرتكب (والفيلم بالطبع ليس استيحاءً من الواقع) هو الفرار مع اقتراب عاصفة عاتية مع افتراض الملاحين أن أحدهم (مات دامون) لا ريب قضى في تلك العاصفة.
لكن مارك، وقد أصابه الهلع من فكرة بقائه وحيداً فوق سطح المريخ، يستعيد زمام القرارات ويحول التربة المعدمة إلى مصدر للزرع، بل ويبتكر الماء. يكيّف نفسه بنجاح لحين عودة المركبة الفضائية إليه لكي تنقله مجدداً إلى سطح الأرض.
التجربة التي خاضها ذلك الملاح لا تُسجل لصالح العلم لا الأميركي ولا الإنساني بشكل عام. وهذا أيضاً حال «جاذبية» (Gravity) لألفونسو كوارون (2013): رحلة فضائية عائمة تتخللها حادثة تقضي على الفريق الفضائي باستثناء اثنين (جورج كلوني وساندرا بولوك) والأول يضحي بحياته في سبيل الحفاظ على حياة زميلته وعودتها إلى الأرض. في النهاية، لا الرحلة أدت خدمة جليلة للعلم، ولا أهل الأرض كانوا قادرين على مساعدة الملاحة الوحيدة في محنتها ولا حتى هبوطها إلى الأرض كان سهلاً ومريحاً.
- فضاء مزيف
ليس من بين هذه الأفلام المذكورة ما هو مرعب في انتمائه. إنها ليست أفلام رعب فضائية كحال أفلام ريدلي سكوت من Alien سنة 1979 إلى Alien Covenant سنة 2017 أو أي من تلك الأفلام الكثيرة (منذ الخمسينات وإلى اليوم) حيث تتحوّل الرحلة الفضائية إلى معارك ضارية بين الإنسان ووحوش الفضاء. تلك لها ناصية خاصة بها ولو أنها، في نهاية مطافها، تحذر الإنسان من مغبة القيام برحلات صوب الفضاء البعيد كونه مليئاً بالمخلوقات المجهولة التي تقضم الحياة وتحيل المغامرين إلى وجبات طعام.
هي أيضاً ليست أفلام تخليد للفضاء لكنها أفلام جماهيرية التأسيس تعلن هذا الموقف ضمن جنوحها صوب العنف والرعب المباشرين.
تلك التي تستند إلى أبعاد فلسفية ووجودية حول الحياة على الأرض والفضاء البعيد قلما لديها نظرة متفائلة للبشر بدورها. نظرة واحدة على فيلم ستانلي كوبريك «2001: أوديسا الفضاء» تطلعنا على أن كيان الإنسانية كله عرضة لخطر الذكاء الصناعي ورغبته في سيادة الحياة الإنسانية.
أندريه تاركوفسكي ينحو بعيداً صوب المزيد في «سولاريس» (1972). كحال «رجل أول»، بطل ذلك الفيلم (دوناتاس بنيونس) ينقل معه إلى المركبة الفضائية ذكرياته المؤلمة. كنه هذه الذكريات مختلف لكنها بدورها إنسانية صرفة لا تناسب البطل المغوار الذي في بال هواة سينما المعارك الفضائية والمخاطر الناتجة عن غزو المخلوقات لمركبات الفضاء أو الأرض. هذا ما يجعل «سولاريس» والأفلام الشبيهة له أقرب إلى استكشاف الإنسان الذي جاء من الأرض بدل استكشاف الفضاء الذي مضى صوبه.
الصراع صوب الفضاء ورد في خلال سنوات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وهذا وارد في «رجل أول» لكن بعض الأفلام شككت في الرواية الرسمية الأميركية من أن فضائياتها المسيّرة حطت على سطح المريخ وبذلك سبقت مثيلاتها الروسيات. أهم هذه الأفلام ليس تمريرات ستانلي كوبريك في فيلم «لمعان» لخديعة قال إنه تعرض لها على يد «ناسا»، بل فيلم لبيتر هيامس عنوانه «كابريكون وَن». هناك الرحلة كلها تمثيلية، والمركبة حطت في صحراء نيفادا ليجد ملاحوها الثلاث أنفسهم عرضة للقتل حتى لا يكشف أحدهم الحقيقة.
الفيلم الذي تم عرضه سنة 1979 لا يلتقي بالضرورة لا مع الواقع ولا مع أي من الأفلام المذكورة أعلاه، إلا من حيث إنه بدوره لا يرى فائدة تذكر من عبور ذلك المحيط الشاسع الفاصل بين الأرض وكل الكواكب الأخرى. وهو ورد كرد على أفلام الحرب الباردة مظهراً أنها، بدورها، لم تكن ذات نتيجة.
«رجل أول» لا يبحث في تلك الحرب لكنه يذكرها. هي دافع أساسي لـ«ناسا» والحكومة الأميركية.
«رجل أول» يساهم في ردم أحلام الفضاء وإنجازاتها
أفلام حولت النصر إلى هزيمة
«رجل أول» يساهم في ردم أحلام الفضاء وإنجازاتها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة