هايكو ماس... وجه الدبلوماسية الألمانية الراقية

السياسي الاشتراكي الذي يخالف سابقيه بواقعيته وحزمه وحذره

هايكو ماس... وجه الدبلوماسية  الألمانية الراقية
TT
20

هايكو ماس... وجه الدبلوماسية الألمانية الراقية

هايكو ماس... وجه الدبلوماسية  الألمانية الراقية

عندما ظهر وزيرا الخارجية السعودي عادل الجبير والألماني هايكو ماس أمام الصحافيين في نيويورك يوم 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، معاً، وهما يبتسمان، بدا المشهد في البداية مثيراً للاستغراب. فالرجلان، وإن يجمعهما الكثير، كاللغة الألمانية التي يتكلمها الجبير بطلاقة، ونزعتهما للدبلوماسية «الراقية»، فإن العلاقات بينهما، بل تحديداً بين دولتيهما، كانت تشوبها «البرودة» منذ أكثر من 10 أشهر. ولقاءات كهذه ما عادت معتادة منذ فترة. ولكن عندما تحدّث ماس توضّحت الصورة.
بكلمات قليلة مُتقاة بعناية فائقة، وزير الخارجية الألماني، الجديد على عالم الدبلوماسية، أزمة كبّدت بلاده ملايين الدولارات كان قد تسبب بها سلفه. قال ماس وهو يقرأ بياناً أمامه بالإنجليزية: «خلال الأشهر الأخيرة شهدت علاقتنا سوء تفاهم، وهذا يمثل تبايناً حاداً في علاقتنا القوية والاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية». ثم تابع: «نحن نأسف بشدة لذلك. كان يجب أن نكون أوضح في محادثاتنا وتعاطينا لتفادي سوء تفاهم كالذي حصل». وتحدث الجبير بعده، مرحباً في كلمته وموجهاً له دعوة لزيارة المملكة. وكان الرجلان يتوجّهان إلى بعضهما بأسمائهما الأولى.
الكلمتان لم تستغرقا أكثر من 3 دقائق، لكنها دقائق قليلة فُتحت بعدها صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين. وتنفّست الشركات الألمانية الصعداء بعدما بات بمقدورها العودة للمنافسة على عقود تجارية في السعودية.

يُعرف هايكو ماس في ألمانيا بأنه رجل هادئ لا يتكلم باندفاع. لقد أتقن لعبة الدبلوماسية بسرعة مع أنه جديد في حلباتها. فهو كان من قبل يشغل منصب وزير العدل في حكومة المستشارة أنجيلا ميركل السابقة، قبل أن يُعيّن وزيراً للخارجية. وقبل ذلك كان سياسياً ناشطاً في ولايته الحدودية الصغير... السارلاند. وعندما كُلّف بتولي منصبه الحالي الحسّاس، أبدى كثرة من المتابعين استغرابهم لتعيين سياسي قليل الخبرة بالسياسة الخارجية على رأس الدبلوماسية الألمانية.
غير أنه منذ تسلمه مهامه في الحكومة في مارس (آذار) الماضي، أثبت ماس أنه أكثر حزماً وحذراً من أسلافه في التعاطي مع الكثير من ملفات السياسة الخارجية. ومنذ اللحظة الأولى لتسلمه منصبه، اختار ماس لهجة مباشرة مع موسكو، في اختلاف واضح عن سلفيه زيغمار غابرييل وفرانك فالتر شتاينماير... وهما مثله من قادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي).

- حزم مع موسكو
وفي حين دعا غابرييل، قبيل مغادرة منصبه، إلى رفع العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا بسبب دورها في أزمة أوكرانيا، قال ماس في خطاب تسلّمه المنصب: «إذا ما خطّت روسيا لنفسها خطاً يتناقض أكثر مع الغرب، وتموضعت حتى في موقع الخصم، قد نندم على هذا التطوّر، ولكنه سيغيّر وقائع سياستنا الخارجية».
ولاحقاً، وصف ماس، روسيا، بـ«الشريك الصعب» لأوروبا، ورأى أنها «تزداد عدائية»، خصوصاً في سوريا. واتهمها أيضاً بـ«قرصنة» مواقع حكومية ألمانية. ولم يتردد في طرد 4 دبلوماسيين روس على خلفية عملية تسميم الجاسوس سيرغي سكريبال وابنته يوليا في بريطانيا.
بطبيعة الحال، لاقت مقاربته هذه، لاحقاً، استحساناً لدى الصحافة الألمانية التي وصفته بـ«الشجاع»، لكنها أشعلت خلافات داخل حزبه الذي علت في داخله أصوات تطالبه بـ«تخفيف اللهجة» ضد موسكو.

- العلاقات مع السعودية
من ناحية أخرى، انشغل ماس منذ توليه منصبه أيضاً، بالبحث عن طريقة لإصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية، التي كانت تدهورت بسرعة قبل نحو 5 أشهر بسبب تعليقات أدلى بها سلفه غابرييل علّقت الرياض عليها في حينه بالقول: إن كلام الوزير الاشتراكي السابق مستند لمعلومات خاطئة.
وسرعان ما سحبت بعد ذلك سفيرها من برلين، وأوقفت منح عقود جديدة للشركات الألمانية الكبرى مثل «سيمنز» والشركات العاملة في مجال صناعة الأدوية. ونقلت قناة «دويتشه فيله»، الشهر الماضي، عن مصادر في مجال صناعة الأدوية، أن خسائر الشركات الألمانية بلغت «مئات الملايين من اليوروات»، وأن الأمر بدأ يؤثر حتى على الأدوية المصنّعة والموزّعة في ألمانيا. ونقلت وكالة «رويترز» أن الأمر وصل إلى حد بات يهدّد قطاعات أخرى في الاقتصاد الألماني.
وقبل أن يصلح ماس العلاقة مع السعودية، حذّر يورغ كرونوير، رئيس تحرير موقع «العلاقات الألمانية الخارجية»، من أن استمرار تحييد الشركات الألمانية سيؤدي إلى خسارة عقود كبرى في المملكة لصالح دول أخرى. وأشار إلى تطلعات الشركات الألمانية للمشاركة في المناقصات للفوز بعقود في مشروع «نيوم» السياحي الذي سيكلف نحو نصف مليار دولار. وكتب كرونوير يقول: «على الحكومة الألمانية أن تحل الخلاف من دون خسارة ماء الوجه».
جدير بالذكر، أن المملكة العربية السعودية تعدّ شريكاً تجارياً أساسياً لألمانيا. وعام 2017 بلغ حجم الخدمات والبضائع الألمانية المصدّرة إلى المملكة نحو 6 مليارات ونصف المليار يورو، وهو رقم انخفض بنسبة الثلث منذ تدهور العلاقات. وأمام هذه الضغوط الاقتصادية، جاءت خطوة ماس في نيويورك لتصحيح العلاقات مع السعودية، وفتح الباب من جديد أمام التعاون الاقتصادي والسياسي. ويقول محللون في برلين، أيضاً، إنه حتى خارج النطاق الاقتصادي، فإن ألمانيا تحتاج إلى الرياض في التعامل مع أزمات الشرق الأوسط، كأزمات سوريا والعراق واليمن، وأيضاً لمحاربة الإرهاب، وجهود إعادة الإعمار في المنطقة.

- العلاقة مع واشنطن
إيجابية دبلوماسية ماس تظهر أيضاً في العلاقات مع الولايات المتحدة. وفي حين تشهد العلاقات الثنائية توتراً منذ دخول الرئيس دونالد ترمب البيت الأبيض، يبدو أن ماس ينجح بفصل سياسة برلين الأميركية عن شخص الرئيس. ففي زيارته التي بدأت قبل أيام إلى واشنطن، كتب في تغريدة على صفحته على «تويتر»: «إن شراكتنا مع الولايات المتحدة أكبر من 280 حرفاً على (تويتر). وأميركا هي أيضاً أكثر من البيت الأبيض. الولايات المتحدة تبقى حليفنا الأقرب خارج أوروبا».
وفعلاً، لدى وصول وزير الخارجية الألماني إلى واشنطن لافتتاح فعاليات «عام الصداقة الألمانية الأميركية»، كرّر كلامه عن العلاقة الوثيقة مع واشنطن في لقاءاته مع نظيره مايك بومبيو، وأيضاً مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي جون بولتون. وقال، رغم اعترافه بوجود خلافات في وجهات النظر، «قد لا نرى الأمور بعين واحدة دائماً... لكن الصداقة الألمانية الأميركية تبقى خارج التفاوض». ومعلومٌ، أن الرئيس الأميركي ترمب يوجه انتقادات لاذعة ومتكرّرة لألمانيا، ويتهمها بأنها لا تقدم مساهمات مالية كافية في ميزانية حلف شمال الأطلسي «ناتو»، ويأخذ عليها تزايد اعتمادها على الغاز الروسي. ولقد كرّر ترمب هذا الكلام حتى في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمام ماس الذي كان يمثل ألمانيا. واكتفى ماس بالابتسام، وهزّ رأسه من دون أن يعلّق. وحتى حول إيران، التي تشكل نقطة الخلاف الأكبر في الوقت الحالي بين أوروبا وأميركا، قال ماس إنه يتشارك مع واشنطن وجهة النظر حول إيران «وضرورة وقف اعتداءاتها في المنطقة»، قبل أن يضيف أن برلين وواشنطن تختلفان على طريقة ردعها. هذا، وتعتبر ألمانيا من أشد الداعمين للاتفاق النووي الإيراني الذي انسحبت منه واشنطن، وهي ترى أنه «الحل الأفضل المتاح حالياً» لوقف طموح إيران النووي في ظل غياب أي حل آخر. وكان ماس نفسه من أشد منتقدي ترمب عندما أعلن الأخير انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، ووصف الخطوة يومذاك بـ«الخاطئة». وجدد التحذير من أن «عزل إيران قد يعزّز دور المتطرفين والمتشددين... وقد يؤدي ذلك إلى الفوضى، ما سيزيد من اضطراب المنطقة»، حسب رأيه.

- علاقته باليمين المتطرف
قبل أن يصبح هايكو ماس وزيراً للخارجية الألمانية، فإنه شغل منصب وزير العدل لمدة 6 سنوات، مستفيداً من شهادته التي يحملها في المحاماة. وخلال هذه الفترة حصد أعداء كثيرين له من اليمين المتطرف، بسبب سياسة الرقابة على الإنترنت التي أدخلها، خصوصاً فيما يتعلق بخطاب الكراهية.
وواجه انتقادات حينها بفرض رقابة على الإنترنت، إلا أنه ظل متمسكاً بقراراته ومدافعاً عنها قائلاً: «حرية الرأي تنتهي عندما يبدأ القانون الجزائي».
وللعلم، دخل القانون الذي عمل عليه ماس حيّز التنفيذ مطلع العام الحالي، وهو يجبر وسائل التواصل الاجتماعي على حذف التغريدات المخالفة للقانون، وما يصب في خانة خطاب الكراهية، أو دفع غرامات تصل إلى 50 مليون يورو. ويمنح القانون، الشركات مثل «فيسبوك» و«تويتر»، مهلة 24 ساعة، لحذف المحتوى المخالف إذا تلقوا شكاوى عليها.
وحقاً تعرض سياسيون من حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف لحذف عدد من تغريداتهم بشكل خاص، اعتُبرت «خطاب كراهية». وكرد فعلٍ أطلق هؤلاء على ماس لقب «وزير الحظر». بل، وشبّهه لوتز باكمان مؤسس حركة «بيغيدا» المتطرفة المعادية للمسلمين، ذات يوم، بالدكتور جوزيف غوبلز وزير الدعاية في حكومة الزعيم النازي أدولف هتلر.
وكشف ماس، في السابق، أنه كان يتلقى العديد من التهديدات، وأنه في إحدى المرات وصلته رصاصة مرسلة عبر البريد.

- ضحية قوانينه
ولكن حتى ماس نفسه وقع ضحية قوانينه حول ما ينشر على وسائل التواصل، إذ اضطر في مطلع العام لحذف إحدى تغريداته التي تعود إلى عام 2010، وصف فيها بـ«الأحمق» السياسيَ ثيلو سازارين الذي نشر كتاباً مثيراً للجدل حول المهاجرين المسلمين. وقال ماس بعد حذف تغريدته إنه لا يعرف سبب الحذف، لكن «هناك أموراً كتبتها في الماضي لا يمكن أن أكتبها مجدداً الآن (على تويتر). لقد تعلمت على مر السنين».

- قوانين الخصوصية
من ناحية ثانية، مع أن ماس كان من أشد المدافعين عن قوانين الخصوصية، في بداية فترته داخل الحكومة الائتلافية، فإن مواقفه من الأمر تغيرت تدريجياً. وكان دائماً يقاوم قوانين جمع المعلومات التي كان يتقدم بها وزير الداخلية - آنذاك - توماس دي ميزيير.
ولكن بعد عدد من الاعتداءات التي نفذها متطرفون منتمون لـ«داعش» في أنحاء أوروبا، وأيضاً بعد الهجوم على «سوق الميلاد» في برلين عام 2016، قَلَب ماس مواقفه، وبات يطالب بتوسيع عملية جمع المعلومات عن الأشخاص. بل إن أحد اقتراحاته تضمن فرض «أساور إلكترونية» على معاصم الأشخاص الذين يصنفون كـ«مشتبه بهم»، ويمكن أن ينفذوا عمليات إرهابية في المستقبل.

- بطاقة شخصية
> ولد هايكو ماس عام 1966 في مدينة زارلوي الصغيرة بولاية السارلاند (السار) الصغيرة على الحدود مع فرنسا، لوالد كان جندياً ووالدة عملت في الخياطة، وهو الولد الأكبر من بين 3 أشقاء.
درس الحقوق (القانون) في جامعة السارلاند، وتخرج مجازاً في الحقوق. وفي هذه الفترة دخل ماس عالم السياسة، وهو ما زال في الرابعة والعشرين من عمره، عندما تسلم مناصب وزارية في ولايته.
بعد الفشل 3 مرات في الوصول إلى منصب رئيس حكومة الولاية، واعتقد كثيرون أن مسيرته السياسية ستنتهي باكراً، لكن في عام 2013 استدعاه حزبه الاشتراكي (الحزب الديمقراطي الاجتماعي) ليسلمه منصب وزير العدل في الحكومة الائتلافية الاتحادية الثالثة برئاسة ميركل. وبذا، في عمر الـ47 سنة، بات أحد أصغر الوزراء سناً.
يُعرف ماس بشغفه بالرياضة، وهو يمارس رياضات مختلفة من الجري إلى السباحة للدراجات الهوائية. وغالباً ما يشاهد وهو يركب على دراجته في شوارع برلين.
عام 2016 ترك ماس زوجته التي أنجب منها ولدين، ليرتبط بالممثلة الألمانية المعروفة ناتاليا فورنر التي هي في نفس سنه.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT
20

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.