عندما ظهر وزيرا الخارجية السعودي عادل الجبير والألماني هايكو ماس أمام الصحافيين في نيويورك يوم 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، معاً، وهما يبتسمان، بدا المشهد في البداية مثيراً للاستغراب. فالرجلان، وإن يجمعهما الكثير، كاللغة الألمانية التي يتكلمها الجبير بطلاقة، ونزعتهما للدبلوماسية «الراقية»، فإن العلاقات بينهما، بل تحديداً بين دولتيهما، كانت تشوبها «البرودة» منذ أكثر من 10 أشهر. ولقاءات كهذه ما عادت معتادة منذ فترة. ولكن عندما تحدّث ماس توضّحت الصورة.
بكلمات قليلة مُتقاة بعناية فائقة، وزير الخارجية الألماني، الجديد على عالم الدبلوماسية، أزمة كبّدت بلاده ملايين الدولارات كان قد تسبب بها سلفه. قال ماس وهو يقرأ بياناً أمامه بالإنجليزية: «خلال الأشهر الأخيرة شهدت علاقتنا سوء تفاهم، وهذا يمثل تبايناً حاداً في علاقتنا القوية والاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية». ثم تابع: «نحن نأسف بشدة لذلك. كان يجب أن نكون أوضح في محادثاتنا وتعاطينا لتفادي سوء تفاهم كالذي حصل». وتحدث الجبير بعده، مرحباً في كلمته وموجهاً له دعوة لزيارة المملكة. وكان الرجلان يتوجّهان إلى بعضهما بأسمائهما الأولى.
الكلمتان لم تستغرقا أكثر من 3 دقائق، لكنها دقائق قليلة فُتحت بعدها صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين. وتنفّست الشركات الألمانية الصعداء بعدما بات بمقدورها العودة للمنافسة على عقود تجارية في السعودية.
يُعرف هايكو ماس في ألمانيا بأنه رجل هادئ لا يتكلم باندفاع. لقد أتقن لعبة الدبلوماسية بسرعة مع أنه جديد في حلباتها. فهو كان من قبل يشغل منصب وزير العدل في حكومة المستشارة أنجيلا ميركل السابقة، قبل أن يُعيّن وزيراً للخارجية. وقبل ذلك كان سياسياً ناشطاً في ولايته الحدودية الصغير... السارلاند. وعندما كُلّف بتولي منصبه الحالي الحسّاس، أبدى كثرة من المتابعين استغرابهم لتعيين سياسي قليل الخبرة بالسياسة الخارجية على رأس الدبلوماسية الألمانية.
غير أنه منذ تسلمه مهامه في الحكومة في مارس (آذار) الماضي، أثبت ماس أنه أكثر حزماً وحذراً من أسلافه في التعاطي مع الكثير من ملفات السياسة الخارجية. ومنذ اللحظة الأولى لتسلمه منصبه، اختار ماس لهجة مباشرة مع موسكو، في اختلاف واضح عن سلفيه زيغمار غابرييل وفرانك فالتر شتاينماير... وهما مثله من قادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي).
- حزم مع موسكو
وفي حين دعا غابرييل، قبيل مغادرة منصبه، إلى رفع العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا بسبب دورها في أزمة أوكرانيا، قال ماس في خطاب تسلّمه المنصب: «إذا ما خطّت روسيا لنفسها خطاً يتناقض أكثر مع الغرب، وتموضعت حتى في موقع الخصم، قد نندم على هذا التطوّر، ولكنه سيغيّر وقائع سياستنا الخارجية».
ولاحقاً، وصف ماس، روسيا، بـ«الشريك الصعب» لأوروبا، ورأى أنها «تزداد عدائية»، خصوصاً في سوريا. واتهمها أيضاً بـ«قرصنة» مواقع حكومية ألمانية. ولم يتردد في طرد 4 دبلوماسيين روس على خلفية عملية تسميم الجاسوس سيرغي سكريبال وابنته يوليا في بريطانيا.
بطبيعة الحال، لاقت مقاربته هذه، لاحقاً، استحساناً لدى الصحافة الألمانية التي وصفته بـ«الشجاع»، لكنها أشعلت خلافات داخل حزبه الذي علت في داخله أصوات تطالبه بـ«تخفيف اللهجة» ضد موسكو.
- العلاقات مع السعودية
من ناحية أخرى، انشغل ماس منذ توليه منصبه أيضاً، بالبحث عن طريقة لإصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية، التي كانت تدهورت بسرعة قبل نحو 5 أشهر بسبب تعليقات أدلى بها سلفه غابرييل علّقت الرياض عليها في حينه بالقول: إن كلام الوزير الاشتراكي السابق مستند لمعلومات خاطئة.
وسرعان ما سحبت بعد ذلك سفيرها من برلين، وأوقفت منح عقود جديدة للشركات الألمانية الكبرى مثل «سيمنز» والشركات العاملة في مجال صناعة الأدوية. ونقلت قناة «دويتشه فيله»، الشهر الماضي، عن مصادر في مجال صناعة الأدوية، أن خسائر الشركات الألمانية بلغت «مئات الملايين من اليوروات»، وأن الأمر بدأ يؤثر حتى على الأدوية المصنّعة والموزّعة في ألمانيا. ونقلت وكالة «رويترز» أن الأمر وصل إلى حد بات يهدّد قطاعات أخرى في الاقتصاد الألماني.
وقبل أن يصلح ماس العلاقة مع السعودية، حذّر يورغ كرونوير، رئيس تحرير موقع «العلاقات الألمانية الخارجية»، من أن استمرار تحييد الشركات الألمانية سيؤدي إلى خسارة عقود كبرى في المملكة لصالح دول أخرى. وأشار إلى تطلعات الشركات الألمانية للمشاركة في المناقصات للفوز بعقود في مشروع «نيوم» السياحي الذي سيكلف نحو نصف مليار دولار. وكتب كرونوير يقول: «على الحكومة الألمانية أن تحل الخلاف من دون خسارة ماء الوجه».
جدير بالذكر، أن المملكة العربية السعودية تعدّ شريكاً تجارياً أساسياً لألمانيا. وعام 2017 بلغ حجم الخدمات والبضائع الألمانية المصدّرة إلى المملكة نحو 6 مليارات ونصف المليار يورو، وهو رقم انخفض بنسبة الثلث منذ تدهور العلاقات. وأمام هذه الضغوط الاقتصادية، جاءت خطوة ماس في نيويورك لتصحيح العلاقات مع السعودية، وفتح الباب من جديد أمام التعاون الاقتصادي والسياسي. ويقول محللون في برلين، أيضاً، إنه حتى خارج النطاق الاقتصادي، فإن ألمانيا تحتاج إلى الرياض في التعامل مع أزمات الشرق الأوسط، كأزمات سوريا والعراق واليمن، وأيضاً لمحاربة الإرهاب، وجهود إعادة الإعمار في المنطقة.
- العلاقة مع واشنطن
إيجابية دبلوماسية ماس تظهر أيضاً في العلاقات مع الولايات المتحدة. وفي حين تشهد العلاقات الثنائية توتراً منذ دخول الرئيس دونالد ترمب البيت الأبيض، يبدو أن ماس ينجح بفصل سياسة برلين الأميركية عن شخص الرئيس. ففي زيارته التي بدأت قبل أيام إلى واشنطن، كتب في تغريدة على صفحته على «تويتر»: «إن شراكتنا مع الولايات المتحدة أكبر من 280 حرفاً على (تويتر). وأميركا هي أيضاً أكثر من البيت الأبيض. الولايات المتحدة تبقى حليفنا الأقرب خارج أوروبا».
وفعلاً، لدى وصول وزير الخارجية الألماني إلى واشنطن لافتتاح فعاليات «عام الصداقة الألمانية الأميركية»، كرّر كلامه عن العلاقة الوثيقة مع واشنطن في لقاءاته مع نظيره مايك بومبيو، وأيضاً مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي جون بولتون. وقال، رغم اعترافه بوجود خلافات في وجهات النظر، «قد لا نرى الأمور بعين واحدة دائماً... لكن الصداقة الألمانية الأميركية تبقى خارج التفاوض». ومعلومٌ، أن الرئيس الأميركي ترمب يوجه انتقادات لاذعة ومتكرّرة لألمانيا، ويتهمها بأنها لا تقدم مساهمات مالية كافية في ميزانية حلف شمال الأطلسي «ناتو»، ويأخذ عليها تزايد اعتمادها على الغاز الروسي. ولقد كرّر ترمب هذا الكلام حتى في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمام ماس الذي كان يمثل ألمانيا. واكتفى ماس بالابتسام، وهزّ رأسه من دون أن يعلّق. وحتى حول إيران، التي تشكل نقطة الخلاف الأكبر في الوقت الحالي بين أوروبا وأميركا، قال ماس إنه يتشارك مع واشنطن وجهة النظر حول إيران «وضرورة وقف اعتداءاتها في المنطقة»، قبل أن يضيف أن برلين وواشنطن تختلفان على طريقة ردعها. هذا، وتعتبر ألمانيا من أشد الداعمين للاتفاق النووي الإيراني الذي انسحبت منه واشنطن، وهي ترى أنه «الحل الأفضل المتاح حالياً» لوقف طموح إيران النووي في ظل غياب أي حل آخر. وكان ماس نفسه من أشد منتقدي ترمب عندما أعلن الأخير انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، ووصف الخطوة يومذاك بـ«الخاطئة». وجدد التحذير من أن «عزل إيران قد يعزّز دور المتطرفين والمتشددين... وقد يؤدي ذلك إلى الفوضى، ما سيزيد من اضطراب المنطقة»، حسب رأيه.
- علاقته باليمين المتطرف
قبل أن يصبح هايكو ماس وزيراً للخارجية الألمانية، فإنه شغل منصب وزير العدل لمدة 6 سنوات، مستفيداً من شهادته التي يحملها في المحاماة. وخلال هذه الفترة حصد أعداء كثيرين له من اليمين المتطرف، بسبب سياسة الرقابة على الإنترنت التي أدخلها، خصوصاً فيما يتعلق بخطاب الكراهية.
وواجه انتقادات حينها بفرض رقابة على الإنترنت، إلا أنه ظل متمسكاً بقراراته ومدافعاً عنها قائلاً: «حرية الرأي تنتهي عندما يبدأ القانون الجزائي».
وللعلم، دخل القانون الذي عمل عليه ماس حيّز التنفيذ مطلع العام الحالي، وهو يجبر وسائل التواصل الاجتماعي على حذف التغريدات المخالفة للقانون، وما يصب في خانة خطاب الكراهية، أو دفع غرامات تصل إلى 50 مليون يورو. ويمنح القانون، الشركات مثل «فيسبوك» و«تويتر»، مهلة 24 ساعة، لحذف المحتوى المخالف إذا تلقوا شكاوى عليها.
وحقاً تعرض سياسيون من حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف لحذف عدد من تغريداتهم بشكل خاص، اعتُبرت «خطاب كراهية». وكرد فعلٍ أطلق هؤلاء على ماس لقب «وزير الحظر». بل، وشبّهه لوتز باكمان مؤسس حركة «بيغيدا» المتطرفة المعادية للمسلمين، ذات يوم، بالدكتور جوزيف غوبلز وزير الدعاية في حكومة الزعيم النازي أدولف هتلر.
وكشف ماس، في السابق، أنه كان يتلقى العديد من التهديدات، وأنه في إحدى المرات وصلته رصاصة مرسلة عبر البريد.
- ضحية قوانينه
ولكن حتى ماس نفسه وقع ضحية قوانينه حول ما ينشر على وسائل التواصل، إذ اضطر في مطلع العام لحذف إحدى تغريداته التي تعود إلى عام 2010، وصف فيها بـ«الأحمق» السياسيَ ثيلو سازارين الذي نشر كتاباً مثيراً للجدل حول المهاجرين المسلمين. وقال ماس بعد حذف تغريدته إنه لا يعرف سبب الحذف، لكن «هناك أموراً كتبتها في الماضي لا يمكن أن أكتبها مجدداً الآن (على تويتر). لقد تعلمت على مر السنين».
- قوانين الخصوصية
من ناحية ثانية، مع أن ماس كان من أشد المدافعين عن قوانين الخصوصية، في بداية فترته داخل الحكومة الائتلافية، فإن مواقفه من الأمر تغيرت تدريجياً. وكان دائماً يقاوم قوانين جمع المعلومات التي كان يتقدم بها وزير الداخلية - آنذاك - توماس دي ميزيير.
ولكن بعد عدد من الاعتداءات التي نفذها متطرفون منتمون لـ«داعش» في أنحاء أوروبا، وأيضاً بعد الهجوم على «سوق الميلاد» في برلين عام 2016، قَلَب ماس مواقفه، وبات يطالب بتوسيع عملية جمع المعلومات عن الأشخاص. بل إن أحد اقتراحاته تضمن فرض «أساور إلكترونية» على معاصم الأشخاص الذين يصنفون كـ«مشتبه بهم»، ويمكن أن ينفذوا عمليات إرهابية في المستقبل.
- بطاقة شخصية
> ولد هايكو ماس عام 1966 في مدينة زارلوي الصغيرة بولاية السارلاند (السار) الصغيرة على الحدود مع فرنسا، لوالد كان جندياً ووالدة عملت في الخياطة، وهو الولد الأكبر من بين 3 أشقاء.
درس الحقوق (القانون) في جامعة السارلاند، وتخرج مجازاً في الحقوق. وفي هذه الفترة دخل ماس عالم السياسة، وهو ما زال في الرابعة والعشرين من عمره، عندما تسلم مناصب وزارية في ولايته.
بعد الفشل 3 مرات في الوصول إلى منصب رئيس حكومة الولاية، واعتقد كثيرون أن مسيرته السياسية ستنتهي باكراً، لكن في عام 2013 استدعاه حزبه الاشتراكي (الحزب الديمقراطي الاجتماعي) ليسلمه منصب وزير العدل في الحكومة الائتلافية الاتحادية الثالثة برئاسة ميركل. وبذا، في عمر الـ47 سنة، بات أحد أصغر الوزراء سناً.
يُعرف ماس بشغفه بالرياضة، وهو يمارس رياضات مختلفة من الجري إلى السباحة للدراجات الهوائية. وغالباً ما يشاهد وهو يركب على دراجته في شوارع برلين.
عام 2016 ترك ماس زوجته التي أنجب منها ولدين، ليرتبط بالممثلة الألمانية المعروفة ناتاليا فورنر التي هي في نفس سنه.