متحف السكة الحديد في مصر شاهد على تاريخ السينما والسلطة

يضم عربات ظهرت في أفلام... ونماذج لقطار الخديوي إسماعيل

نموج لعربة قديمة تسير بالبخار
نموج لعربة قديمة تسير بالبخار
TT

متحف السكة الحديد في مصر شاهد على تاريخ السينما والسلطة

نموج لعربة قديمة تسير بالبخار
نموج لعربة قديمة تسير بالبخار

«أين قطار شادية؟»، سؤال يردده كثير من كبار السن الذين يرتادون متحف السكة الحديد في وسط القاهرة بمصر، والمقصود هنا هو قطار «الديزل» الألماني، الذي انضم إلى القطاع عام 1957، وظهر في فيلم «لوعة الحب» للفنانة المصرية الراحلة شادية، والفنان الراحل عمر الشريف، والذي عرض جانباً من حياة العاملين بالهيئة وكان من إنتاج عام 1960.
القطار المشار إليه هو واحد من ضمن 700 نموذج مصغر يعرضهم المتحف، إضافة إلى 500 مجلد ووثيقة، تتعلق بتاريخ السكة الحديد المصرية، ثاني أقدم سكة في العالم بعد سكك إنجلترا، حيث أنشئت سكك حديد مصر عام 1854 في عهد الخديوي سعيد، وحتى يومنا هذا، ويعكس المتحف تطور هذا المرفق المهم وارتباطه بالأحداث السياسية، والتاريخية التي وقعت في مصر على مدار العقود الماضية.
شُيّد متحف السكة الحديد عام 1933، ثم أعيد تجديده، وافتتاحه مرة أخرى خلال عام 2016، ويحوي بجانب القطارات نماذج لكباري متحركة، وآلات بخارية، ووحدات للإضاءة، وأدوات محصل التذاكر قديما، التي تضمنت مثقاب لثقب التذاكر، وميزان لوزن الورق، وأقلام، وحقيبة من الجلد الطبيعي.
كما يحوي المتحف وثيقة لا تخلو من الطرافة، تمثل رخصة امتلاك، وسير حمار كتب عليها» تصريح من ديوان الدائرة البلدية بمصر عن حمار ركوب ملك للخواجة بادير ليمر دون مانع على مراكز وشوارع المحروسة»، وذلك كدلالة على طرق التنقل التقليدية قبل دخول مصر عصر القطارات البخارية.
النماذج المعروضة في المتحف بعضها مجلوب من الدول المصنعة، عند إبرام صفقات الشراء، إضافة إلى نماذج صنعت خصيصا في ورش السكة الحديد، بمنطقة «بولاق»، ومنطقة «القباري» بالإسكندرية، ونماذج أهداها أحمد أبو ضياء، أحد العاملين بالهيئة، والمولع بصناعة نماذج القطارات المصغرة بمساعدة زوجته.
يقول أحمد إنه أهدى المتحف عددا من النماذج، أبرزها قاطرة «هنشل» موديل 1976، وقاطرة «جنرال موتور» كندي موديل 1983، وعربة إسباني إنتاج عام 1983، جميعها تمثل مراحل مهمة في تاريخ السكة الحديد، واستغرق صنع كل منها 6 أيام كاملة.
كما يضم المتحف نماذج أكثر قدما لعربات «ديزيل» مفردة بنيت عام 1935، تعود لشركة «جانز» بودابست، ونماذج لعربات الدرجة الثالثة، وعربات «السبنسة»، مقسمة إلى أماكن لنقل الأثاث، والخضراوات، والبريد.
أيضا نماذج لعربات الدرجة الأولى، أو الإكسبريس، يعود تاريخ بعضها إلى عام 1906، ونماذج لعربات نقل البضائع، تضمنت نموذج لنقل قصب السكر عام 1872، صنعت بمدينة «ددلى» بإنجلترا.
وكما كانت السينما حاضرة في متحف السكة الحديد، فإن من تولوا سلطة حكم مصر كان لهم حضور أيضاً، إذ إن النموذج المصغر لقطار الخديوي إسماعيل الذهبي، والمصنوع بورش «القباري» بالإسكندرية، يعد من أهم مقتنيات المعرض، حيث يعكس تصميمه الذي يعود إلى عام 1859، ملامح ذلك العصر. ويتكون القطار من 6 عربات، العربة الأولى للضباط، والثانية للأميرات، وصالون خاص للخديوي، وصالون للعائلة، وعربة أخرى لعائلات الخديوي، وصالون لسائقي القطار، وصنعت العربات في ثلاث جهات مختلفة، هم هيئة السكة الحديد، ومصانع «استفنسن كاسل» بمصر أيضا، فيما صنعت عربة الخديوي الخاصة بمصنع «ميسون وشركاه» بأميركا.
ويعرض المتحف أيضا قاطرة محمد سعيد باشا الأصلية، والتي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1862، وكانت تستخدم حتى عهد الملك فاروق، وأكد أحمد أبو ضياء، أن القاطرة حقيقية، لكن تم استبدال مكوناتها، بعد تعرضها للتلف عقب أحداث ثورة يوليو (تموز) من عام 1952.
يحتوي المتحف كذلك، على نماذج متطورة للكباري الخاصة بالقطارات، من ضمنها نموذج لكوبري متحرك بالدوران على النيل «بإدفينا»، شيد عام 1933 على فرع رشيد.
ويحوي المتحف نموذجاً لأقدم آلات الطباعة الخاصة بهيئة السكة الحديد المصرية، يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1870، ومن الصور التي تعلق بالذهن في المتحف أيضا، صورة لمحطة القطارات بالقاهرة، التقطت عام 1856، يحيطها النخيل، والجمال، والحمير، وأصحابها من البدو، والبشوات، وهي تختلف كثيرا عن مشهد الزحام الحالي الذي لا ينتهي في وسط القاهرة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)