«سوبر ماركت صديق للمكفوفين»... مبادرة تسهل حياتهم

يعد النموذج الأول من نوعه في لبنان والعالم العربي

عرض موسيقي راقص رافق افتتاح «سوبر ماركت صديق للمكفوفين»
عرض موسيقي راقص رافق افتتاح «سوبر ماركت صديق للمكفوفين»
TT

«سوبر ماركت صديق للمكفوفين»... مبادرة تسهل حياتهم

عرض موسيقي راقص رافق افتتاح «سوبر ماركت صديق للمكفوفين»
عرض موسيقي راقص رافق افتتاح «سوبر ماركت صديق للمكفوفين»

في مبادرة تعد الأولى من نوعها في لبنان والعالم العربي أطلقت جمعية «ريد أوك» مؤسسة «سوبر ماركت صديق للمكفوفين». وجاءت هذه الخطوة إثر تعاون مع «ماركت» (مركز تجاري في منطقة قريطم) و«جمعية الشبيبة للمكفوفين» بهدف مساعدة الأشخاص الذين يعانون من ضعف النظر وفقدان الإدراك النظري وتسهيل حياتهم.
«لقد حاولنا من خلال تطبيق هذه الفكرة تأمين حياة طبيعية للمكفوفين يستطيعون التوجه إلى هذه التعاونية التجارية كغيرهم من الناس، فيتبضعون ويشترون حاجاتهم على سجيتهم. كما يستمتعون بالتعرف إلى خصائص المنتجات المرصوصة على رفوف «سوبر ماركت صديق للمكفوفين»، بفضل أشخاص مدربين يرافقونهم في جولاتهم منذ وصولهم إلى المتجر وإلى حين مغادرتهم إياه». تقول نادين أبو زكي رئيسة جمعية «ريد أوك» خلال حديثها لـ«الشرق الأوسط».
10 مدربين قاموا بالتمرينات اللازمة لمساعدة المكفوفين وضعيفي النظر يوجدون يوميا في هذه التعاونية (Marqet). وقد أخذت على عاتقها فتح أبوابها أمام هؤلاء الأشخاص لحرص صاحبتها رولا عبد الباقي على المشاركة في العمل الإنساني على الرغم من الإطار التجاري الذي يطبع المكان.
«تدريب هؤلاء الموظفين كان الأهم في هذه المبادرة فهم يؤلفون مجتمعين عنصرا أساسيا فيها. فأسلوب التعاون بطريقة مهنية مع المكفوفين والوقوف على متطلباتهم ومرافقتهم في جولاتهم داخل الـ«سوبر ماركت» جرى بإشراف عامر مكارم رئيس جمعية الشبيبة للمكفوفين». توضح نادين أبو زكي.
وبين رفوف الحبوب وأدوات الاستحمام ومنتجات الحليب ومشتقاته والمشروبات الغازية وغيرها من المنتجات المعروضة في «سوبر ماركت صديق للمكفوفين» يجول الزبائن ممن يعانون من فقدان البصر أو ضعف النظر مبتسمين يضعون مشترياتهم في عربات المتجر المخصصة للتبضع بمرافقة مدربين يعرفونهم على نوعية السلع والعروض الخاصة بها وصولا إلى الصندوق. «لقد استمتعت بهذه الجولة» يقول مروان أحد المكفوفين الذي كان أول من قام بهذه التجربة. أما حليم فقد رقص مع رويدا الغالي مخرجة العرض الموسيقي (فلاش موب) الذي رافق مناسبة افتتاح المتجر، معبرا عن فرحته في اللفتة الإنسانية التي استحدثتها جمعية «ريد أوك» للمكفوفين أمثاله. «لقد عمدنا إلى إدخال لغة الموسيقى خلال عملية الافتتاح لأننا حريصون على إسعاد هؤلاء الأشخاص والترفيه عنهم» تقول نادين أبو زكي. ومع فريق فني تألف من المخرجة رويدا الغالي هورنغ وبأداء راقصين أمثال بشارة عطا الله ونيفين كلاس وستيفاني ستيفان ولمى الأمين، إضافة إلى عازفين على آلات الساكسوفون والكونتروباص والإيقاع لونه غناء زينب مواسي، قدمت لوحات فنية استخدمت فيها رموزا يستعملها الشخص الكفيف عادة (العصا والنظارات السوداء) للإشارة إلى مؤازرة زبائن المتجر ممن يعانون من فقدان البصر وضعف النظر.
«الأشخاص الذين يعانون من ضعف النظر هم كثيرون ونادرا ما يجدون من يهتم بمتطلباتهم». توضح أبو زكي التي تؤكد بأن هذه المبادرة تتوجه إلى كل من يعاني مشكلات في نظره دون تفريق.
كما تم استحداث مساحة رملية صغيرة في المتجر وقف المكفوفين يرسمون أسماءهم عليها للإشارة إلى مرورهم من هنا. «إنها لغة تعبير من نوع آخر تصب في خدمة حاسة اللمس التي يعيرها هؤلاء الأشخاص اهتماما كبيرا». تعلق نادين أبو زكي التي أسست جمعيتها «ريد أوك» بهدف تمكين الشباب اللبناني من بناء القدرات لديه في مجالات ثقافية وتعليمية وفنية ومسرحية وغيرها.
ومن المقرر أن تتوسع دائرة هذا النوع من المتاجر في لبنان لتعمم على مختلف مناطقه من أجل تسهيل حياة المكفوفين وتحفيزهم على إدارتها بشكل طبيعي.
ومن ناحية ثانية وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل سيكون الأشخاص المكفوفون على موعد ينتظرونه بحماس لزيارة المتحف الوطني. فيتعرفون إلى مقتنياته الأثرية عن طريق اللمس بمبادرة نظمت خصيصا لهم من قبل «ريد أوك» بالتعاون مع وزارة الثقافة تحمل عنوان «الرجاء اللمس». وستعمم هذه الخطوة على متحفين آخرين وهما «مقام» في مدينة جبيل و«متحف سرسق» في منطقة الأشرفية اللذين بدورهما استحدثا خدمة خاصة بالزوار المكفوفين ودائما بالتعاون مع «متحف أوميرو» الإيطالي. فيرافقهم بجولاتهم أدلاء سياحيين تدربوا على كيفية التعامل مع المكفوفين وقراءة أحرف «برايل» (اللغة الخاصة بالمكفوفين) كي يتسنى تقديم المساعدة لهم على أكمل وجه.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)