اعتمد البشر منذ أن بدأوا بإرسال الأقمار الصناعية إلى مدار الأرض، في الخمسينات، على صواريخ قوية هائلة الحجم للتخلص من جاذبية الأرض والوصول إلى الفضاء، ولكن الصواريخ العملاقة تضعنا أمام مشكلة كبيرة، وهي ارتفاع كلفة الرحلات الفضائية.
والمثال على ذلك ما ستبلغه قيمة نظام وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) لإطلاق صاروخ الأحمال الثقيلة، الذي سينطلق في رحلته الأولى في ديسمبر (كانون الأول) 2019، حيث وصلت إلى مليار دولار للإطلاق الواحد، بحسب ما ورد في تقرير مكتب المفتش العام في الوكالة. وبحسب «سي إن بي سي»، فإنّ كلفة إطلاق صاروخ «فالكون هيفي» الاقتصادي من «سبيس إكس» في فبراير (شباط) 2018 ما زالت تتراوح بين 90 و150 مليون دولار للمسافات البعيدة.
ولكنّ المهندسين الحالمين في هذا المجال يبحثون منذ عقود عن طرق للوصول إلى الفضاء دون الاعتماد على القوّة الصاروخية، أو استخدامها بشكل ثانوي على الأقلّ.
من الجوّ إلى المدار
يبدو أنّ الإطلاقات من الجوّ إلى المدار، التي تعتبر إحدى المقاربات البديلة للصواريخ، قريبة من التطبيق على أرض الواقع، إذ تملك شركة «ستراتولانش» الخاصة للإطلاق الفضائي، التي أنشأها بول آلن الشريك المؤسس في «مايكروسوفت» عام 2011، خطّة طموحة لإطلاق أكبر طائرة في العالم، يصل امتداد الجناحين فيها إلى 117 متراً، على ارتفاع 10668 متراً (35 ألف قدم)، حيث ستتحوّل هذه الطائرة إلى منصّة إطلاق عالية الارتفاع لمركبات صغيرة تنطلق بصواريخ صغيرة. وفور تحريرها، لن تضطرّ هذه المركبات إلى التغلّب على الجاذبية الناتجة عن سماكة الغلاف الجوّي المنخفض، كما يحصل مع الصاروخ الذي يُطلق من الأرض، وستتمكّن من الوصول إلى المدار دون الاضطرار إلى حرق كميّات الوقود نفسها.
وكشفت الشركة في أغسطس (آب) 2018 عن مجموعتها التي تتألف من 4 أنواع مختلفة من المركبات، واحدة منها لا تزال في مرحلة دراسة التصميم، وهي طائرة فضائية قابلة لإعادة الاستخدام، ويمكنها نقل حمولة أو طواقم بشرية. وتخطّط «ستراتولانش» للبدء بتوفير خدمة منتظمة في هذا المجال، بدءًا من عام 2020. وصرّح جان فلويد، الرئيس التنفيذي للشركة، في بيان صحافي، بأنّ مهمّة الشركة هي تسهيل الوصول إلى الفضاء، وتقليص كلفته، وتحويل تحديد مواعيد إطلاق القمر الصناعي إلى مهمة بسيطة، كما هو حال حجز رحلات الطائرات. وحالياً، وفي طرح آخر للإطلاق من الجوّ إلى الفضاء، تخطّط شركة «فيرجن أوروبت» لاستخدام طائرة «بوينغ 747 - 400» معدّلة كمنصة لصاروخها «لانشر وان»، الذي سيقذف أقماراً صناعية إلى المدار الأرضي.
نفق إطلاق مرتفع
يشهد مجال السفر إلى الفضاء دون صواريخ اليوم طرح كثير من الأفكار التي يتسم بعضها بالغرابة. فقد أكد جيمس ر. باول، المخترع المساعد لمبدأ الموصلية الفائقة في القطار المغناطيسي المعلّق (superconducting maglev propulsion)، وزميله المهندس جورج مايز، لسنوات أنّ هذه التقنية يمكن استخدامها لإطلاق المركبات الفضائية أيضاً. فبدل منصّة الإطلاق، سيعمد مشروع «ستارترام» إلى استخدام نفق كبير ومرتفع للإطلاق. ويشرح باول فكرته في رسالة إلكترونية نشرها موقع «ساينس.كوم»، قائلاً: «تخيّلوا قطاراً مغناطيسي السحب في نفق خالٍ من الهواء»، لافتاً إلى أنّه «من دون وجود جاذبية هوائية تقوم بشد المركبة إلى الأسفل، ودون الحاجة لحمل كميات كبيرة من المواد الدافعة (كما هو الحال في الصواريخ)، سيسهل على المركبة بلوغ سرعة مدارية تصل إلى 2900 كلم في الساعة، أو حتى أكثر. وعندما تغادر المركبة النفق على علوّ مرتفع (من على قمة جبل عالٍ مثلاً)، ستتحرّك المركبة بسرعة كبيرة، تصل أساساً إلى ارتفاع مداري، وستستخدم صاروخاً صغيراً للدوران في المدار. هذا وقد صمّمنا آليات كثيرة للحفاظ على خلوّ النفق من الهواء عندما تغادره المركبة لاستخدامه مرة أخرى في إطلاق المركبة التالية مباشرة؛ إن جميع المكوّنات الأساسية التي يعتمد عليها نظام (ستار ترام) موجودة حالياً، وبطرق عمل شديدة الوضوح».
وقد بدأ باول بدراسة استخدام النفق الفائق الموصلية لإطلاق سفينة فضائية بناء على اقتراح قدمه زميل له من «ناسا» عام 1992. وفي البداية، طوّر ومايز فكرة تعتمد على نظام تكلفته 100 مليار دولار للإطلاقات المأهولة، يتمّ خلالها النفخ في نفق عبر أسلاك فائقة التوصيل. كما صمّما نظاماً نفقياً متواضعاً للحمولة فقط، يمتدّ إلى مسافة 100 كلم، ويصل إلى ارتفاع 4 آلاف متر على الأقل، ينطلق من قمّة جبل عالٍ. ويقدّر العالمان أنّ النظام المخصص للحمولة فقط يمكن بناؤه بتكلفة 20 مليار دولار، أي أقل من تكلفة نظام «ناسا» لإطلاق صاروخ الأحمال الثقيلة.
ويقول باول إن «ستارترام» ستصبح قادرة بعد بناء هذا النظام على نقل 100 ألف طن من الحمولة إلى الفضاء سنوياً، أي أكثر مما ينقله صاروخ تقليدي بأضعاف، لوضع المعدات على مدار الأرض المنخفض مقابل 50 دولاراً لوزن 0.45 كلغم. وأوردت «بلومبيرغ»، في تقرير نشرته هذا العام، أنّ هذه الكلفة هي جزء صغير من آلاف الدولارات التي يتطلّبها نقل الوزن نفسه في وسائل النقل الفضائية المستخدمة حالياً.
ويشرح باول قائلاً: «إنّ التحدّي التقني الأكبر هو نافذة النفق المخصصة لخروج المركبة»، مضيفاً أنّ «النفق يجب أن يبقى فارغاً من الهواء، أي عندما تغادر المركبة نفق الإطلاق، علينا أن نتفادى دخول الهواء من الغلاف الجوي». وتعتزم «ستارترام» إبقاء الهواء خارج النفق من خلال استخدام طائرة بخارية، لتقليل الضغط الهوائي خارج نافذة الخروج، وتوظيف نافذة هيدرو-مغناطيسية تعتمد على حقل مغناطيسي قوي لإبعاد الهواء بشكل مستمر.
المصعد الفضائي
شاعت فكرة بناء مصعد فضائي لسنوات طويلة. وورد في أحد المقالات المنشورة على موقع وكالة «ناسا» الإلكتروني عام 2000، كيف أنّ برجاً طويل القاعدة مبنياً بالقرب من خطّ الاستواء الأرضي يمكن أن يعمل كقوة بديلة بعد الاتصال عبر سلك بقمر صناعي في مدار الأرض الجغرافي المتزامن على ارتفاع 35786 كلم من سطح البحر.
وتعتمد هذه الفكرة على 6 مصاعد تمتدّ على طول البرج والأسلاك الممتدة، للوصول إلى منصات الإطلاق على مستويات كثيرة. ومن المقرّر أن ترتفع المركبات العاملة بالطاقة الكهرومغناطيسية على طول مسارات المصاعد، لتمتدّ رحلتها إلى الفضاء المداري لنحو 5 ساعات، وتوفّر في الوقت نفسه مشاهد رائعة على طول الطريق.
وتعود هذه الفكرة إلى عام 1895، عندما اقترح العالم الروسي قسطنطين تسيولكوفسكي بناء «قلعة سماوية»، لتتصل بهيكل يشبه برج إيفل في باريس. وكان باحث من «ناسا» قد كتب ورقة بحثية حول هذه الفكرة، والتقنيات المطلوبة لبناء هذه القلعة عام 2005.
ولكنّ فعالية المصعد الفضائي تعرّضت لضربة قوية عندما نشر باحثون صينيون ورقة بحثية عام 2016 يتحدّثون فيها بالتفصيل عن نتائج توصلوا إليها حول أنابيب الكربون الصغيرة، أي المادة الأساسية التي بنى عليها مناصرو المصعد الفضائي آمالهم، مؤكدين أنّها هشّة وغير صالحة، مما قد يضيع جهود مناصريها هباء.
وتضمّنت الأفكار الأخرى التي برزت خلال السنوات الماضية أيضاً إرسال حمولات تدور حول مسار فولاذي لولبي قبل قذفها في مدار الأرض المنخفض، واستخدام السفن الجوية كمنصات للإطلاق.