الحكي بعين الأسطورة

طارق إمام في «مدينة الحوائط اللانهائية»

الحكي بعين الأسطورة
TT

الحكي بعين الأسطورة

الحكي بعين الأسطورة

يبني طارق إمام عالمه الفني في مجموعته القصصية «مدينة الحوائط اللانهائية» بالأسطورة، ويدفعها إلى تخوم الخرافة، متخذاً من الحلم الدائم بها عيناً سحرية للكتابة. فثمة شخوص دفنوا أحلامهم في الماضي، وتركوها قسراً، لم يبقَ لهم سوى كهولتهم يحتفون بها، كي يتذكروا أنهم كانوا هنا، وشعب معلق في سقف الزمن، قرر أن يجعل مدينته نافذة مشرعة على السماء، بلا أسقف أو أبواب للبيوت، مجرد حوائط متراصة، حتى شوارعها ودروبها أمعنوا في تضييقها، فبدت تتلوى كالثعبان، بالكاد تسع لشخص واحد كي يمر.
هذا الاتساع في الأعلى والتضييق في الأسفل، يحمل ضمنياً إشارة فارقة ما بين زماني السماء والأرض، وأن الكتلة فوق مسطح السرد تبلغ حيويتها حين تشارف خط الأفق في أعلى اللوحة، كاسرة صلادة الإطار، بينما تتناهي في الصغر كلما اقتربت من خط الأرض.
لا يكترث إمام بالعلاقة المنطقية بين الأشياء والعناصر، فدائماً يسعى إلى تفتيتها وبعثرتها، وإعادة بنائها عبر نوافذ إدراك جديدة مباغتة، مدركاً أنه يمارس اللعب ما بين وعيين؛ وعي الواقع، ووعي الأسطورة. وحتى تظل اللعبة طازجة ولصيقة بهذه العين السحرية، اختار فعل الحكي لفصول كتابه لما ينطوي عليه من مذاق شعبي حريف، حيث تجري الحكاية مجرى الأمثال والحكم الشعبية.
في الخلفية أيضاً، يضع طارق إمام «ألف ليلة وليلة»، يخايلها، ويشم روائحها من بعيد، لكنه في لحظة الكتابة يتركها قابعة فوق الرّف. مقسماً كتابه إلى ثلاثة أقسام هي: نساء مدينة الحوائط، ورجال مدينة الحوائط، ثم غرباء مدينة الحوائط. ويتحرك فضاء الحكايات عبر كتلتين نصيتين؛ إحداهما سردية والأخرى بصرية، يتجاوران ويتقاطعان، ويتبادلان الأدوار والأقنعة، ويُسهِمان معاً في تنويع مناخات الحكي، وطرائق تشكله، وتذويب حركة الضمائر، في فضاء الزمن والأسطورة، لنصبح إزاء سبيكة سردية مغوية، تنفرط وتلتئم خيوطها وتتنامى درامياً برشاقة أسلوبية تشارف تخوم الشعر والموسيقى معاً.
لا تتكون هاتان الكتلتان من تلقاء نفسهما، فدائماً هناك رأس حربة، يشكِّل محورَ إيقاعها من الداخل، ويضبط علاقتها بالخارج، رأس الحربة هو بطل أو بطلة الحكاية، علاقته بالكتلة مرنة، فهو يستطيع أن يدخل ويخرج منها بحرية، بل يقلبها رأساً على عقب، ويمسخها، لتستحيل إلى عالم خرافي، يعلو فوق حدود العقل والحواس والخيال.
يرفد ذلك الفضاء الطباعي للكتاب، فثمة صورةٌ تتصدر كل حكاية، يعقبها العنوان، وبينما تعتمد الصورة على رسوم هيكلية ذات ملمح رمزي تعبيري، وتهشيرات الأبيض والأسود، مشربة بروح من الكولاج، لالتقاط مناخ الحكاية، يعتمد العنوان في أغلب الحكايات على علاقة الوصل أو صلة الموصول من قبيل «حكاية المرأة التي تغني»، «حكاية الرجل الذي لم يحلم أبداً»، «حكاية العجوز الذي يحلم بالمستقبل»... وغيرها. ما يعني أننا تحت مظلة حكايات تكمل بعضها بعضا، وأن كل حكاية تشكل جسراً شفيفاً لما بعدها، وفي فضاء مكاني واحد، لم يبرح مدينة الحوائط.
يبرز «الماوراء»، دائماً في حكايات ناقصة مبتورة، أشبه بأسطورة مجروحة، بوجود منزوع منه غلافُ الحياة، وذلك بفعل طاقة السحر والكائنات الشريرة، إنه وجود مؤجل ينتظر عملاً خارقاً يشبه المعجزة، تماماً كذيل الثعبان المفصول عن رأسه، في حكاية «الحطاب وذيل الثعبان»، الذي يفتش عنها ليكتمل تجسّده في حبيبته بشراً سويّاً، ولكي يتم ذلك لا بد أن يكون برفقة شخص يبحث عن الحب... كذلك في الشَّعرة السوداء الوحيدة التي صمدت ضد الشيب في رأس المرأة الغانية، وكيف تعود شابة بشعر أسود، بعد مصادفة لقائها بالرجل الكهل، وتكتشف أنه حبيبها الذي سقط منها في بئر الماضي. وفي حكاية «طباخة السم» الفتاة الماهرة صاحبة القدرات الخاصة في الطبخ لا سيما في صناعة الحساء، حيث يتكشف ما وراء السم، بقوة المصادفة، ويصبح صكّ براءتها، وطوقَ نجاة للوصول إلى حبيبها الفتي الأعمى الحكيم... وغيرها من الحكايات.
وفي «حكاية المرأة ذات العين الواحدة»، يمثل جبل الكحل بروائحه النفاذة وظلاله الداكنة، وهيكله الضخم المنتصب بشموخ في سفح الجبل بمدينة الحوائط، كتلةً بصرية بامتياز، كأننا إزاء نصب تذكاري، له قوامه الصرحي، بينما تمثل المرأة البطلة ذات العين الواحدة محور إيقاع الكتلة ورأس حربتها، التي تحركها صعوداً وهبوطاً، من أعلى لأسفل، وفي زوايا خاصة، تشع فيها تحولات المكان فوق قماشه الحكي، حتى تصيب لعنة الكحل وفتنته كل نساء المدينة فيذُبْنَ في صورة البطلة، ويتحولن إلى نساء بعين واحدة... بينما يبرز عمل الكتلة السردية، في وصف شديد الدقة والمتعة، يتجاوز بؤرة التوثيق للحدث، ويصبح شكلاً من أشكال معايشته على ألسنة الناس وانفعالاتهم وردود فعلهم حياله، ويتحول الكحل إلى سلاح للمقاومة الشرسة ضد غارات الأعداء على المدينة.
الأمر نفسه يطالعنا في «حكاية كتاب الحياة المفقودة»، فمشهد الهيكل العظمي المتيبس المطمور في التراب، «منكفئاً في وضع جلوس، وقد أمسك بين كفيه كتاباً مفتوحاً»، يشد العين إلى الصورة كأثر لأسطورة ما محفورة في طوايا الزمن والتاريخ.
تتحرك الصورة بقوة الأسطورة، وتستعيد دورتها في الحياة حين يتم كشف محتوى الكتاب، وتكمن المفاجأة أن صفحاته خالية من أي كلمات، عدا الصفحة الأولى فقط، التي احتلتها عبارة واحدة مكتوبة بخط اليد «من يعثر علي ستصيبه اللعنة إن لم يخرجني»... امتثالاً لهذه الوصية وبعد نقاش كثير، يقرر الأهالي أن يخرجوه، ويسندوه إلى أقرب حائط، بعد أن يعيدوا الكتاب إلى كفيه كما كان حين عثروا عليه، لكن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد... هنا تبرز خصيصة مهمة في هذا الكتاب، حيث القدرة على صُنْع نهايات لا تنتهي، وفي الوقت نفسه القدرة على خلق المأزق الحكائي، وتنميتها فنياً ونفسياً ودفعه إلى أقصى نقطة، لم تكن تخطر على البال، ومن أبسط الأشياء والثقوب، ما يعني ضمنياً إننا إزاء ما يمكن أن أسميه «تناسل الأسطورة»، حيث النهايات المفتوحة على كل شيء.
تتابع النهايات في حكاية «كتاب الحياة المفقودة» كأنها سلسلة معلَّقة في رقاب الزمن، فالهيكل البشري يتمكن من ستر عورته بقماشة بيضاء، ثم يستعيد وجهه الذي أُحِيط بهالة شعر سوداء طويلة وناعمة، وارتدى جلباباً واسعاً، ثم يكتشفون أن الهيكل العظمي كان لأنثى جميلة وليس لرجل... ثم تصل التوقعات لذروتها غير المتوقعة، فمع كل صفحة تسطرها في كتابها هذه الأنثى الجميلة التي عادة للحياة من الموت، يستيقظ الرجال كل صباح، على هياكل عظمية جديدة في أسِرَّتِهم، لنسائهم وفي غرف بناتهم، ولا يبقى في المدينة سواها امرأةً وحيدة عشيقة يشتهيها كل الرجال، وزوجةً غيرَ معلنة للجميع، وأمّا وحيدة لجيل جديد، «بزغ بملامح متشابهة حد التطابق... هكذا أعادت الجميع إخوة»... تطالعنا هذه النهايات أيضاً في حكاية «الحطاب وذيل الثعبان»، فحين يعثر على حبيبة الحلم، يهديها فأسه، وفي نشوة القبلات، تفاجئه بضربة قاصمة بالفأس، تشطر جسده نصفين لجسد ثعبان، تختبئ حبيبته في النصف الذي يحمل الرأس، ويختبئ هو في النصف الذي يحمل الذيل... وفي حكاية «زوجة الصائغ الذي تكره الذهب»، يتحول عشق الذهب وكراهيته إلى لعنة تودي بحياة الزوجين، على يد كائناتهما الأليفة، دجاجات الزوجة وكلب الزوج، بفعل إدمانها رائحة الذهب وغباره المتطاير، فيسقطان صرعى معركة لم يخططا لها، وأرادا لحياتهما أن تتحول في ظلالها إلى لعبة محببة.
رغم ذلك، في رحم الأسطورة يتم التصالح مع أشياء يبدو التصالح معها مستحيلاً واقعياً، ويحتاج إلى معجزة... يتم التصالح مع الموت والحياة، مع الحب والماضي، مع النور والعتمة، بل يصبح العمى بصيرة كاشفة، لما وراء الصورة... يطالعنا ذلك في كثير من الحكايات، منها على سبيل المثال «حكاية الخادم الذي يعيش في لونين»، الأبيض والأسود، لا يرى غيرهما كأنهما صدى لحلم قديم، لكنه يصبح قادراً على رؤية العالم كما يريد، بعد أن فقد لوناً منهما وكُفّ عن البصر، مكتفياً بلون واحد هو الأبيض. كذلك في حكاية «العجوز الذي أغضب الموت»، والذي نجا منه بعد أشهر من ولادته، وقبل أن يواروا جسده التراب، ينطق مبتسماً للحياة من جديد. لكنه يقع في خصام مع الموت، بعد أن تجاوز عمرة المائة عام، وأصبح مجرد هيكل عظمي لم يعد في جسده سوى حزمة أنفاس مضطربة.
على هذا النحو، تتقافز الأسطورة في الحكايات، ما بين الثقل والخفة، وفي قبضة ضمير واحد، هو صوت الراوي السارد، الكاتب، صانع اللعبة، لعبة ما أسميه «ملاذات الأسطورة»، فهي أحياناً ملاذ عاطفي للحب والحلم والحرية، ما يطالعنا في كثير من الحكايات، منها: «حكاية الرجل الذي لم يحلم أبداً»، «حكاية الشيطان وصندوق الدنيا»، «حكاية رجل عجوز من الورق المقوى». وهي ملاذ للفكاهة والدعابة والمرح، مثلما في «حكاية الإسكافي المجنح والحذاء الذي يتكلم»، و«حكاية ساعي البريد وجبل الخطابات الخالية»... تتخفف هذه الملاذات من ثقل الكتلة وكثافتها بصرياً وسردياً، وتمرق كضوء شارد وحميم، في ذاكرة الكتابة، لكن هاجسها الأساس يظل الحلم بالأسطورة.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.