معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل

الاقتصاد التحدي الأكبر لرئيس وزراء السودان الجديد

معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل
TT

معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل

معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل

قبل ساعات قليلة من الخطوة المفاجئة بتكليف معتز موسى بتشكيل الوزارة الجديدة في السودان، قال موسى إن أمامه 400 يوم عمل قبل موعد الانتخابات الرئاسية في 2020، يعمل خلالها بما سماه برنامج «صدمة» قصير الأجل، لمعالجة اختلالات الاقتصاد السوداني. والواقع أن الرجل القليل الكلام يتولى المسؤولية في بلد يعيش أوضاعاً اقتصادية مأزومة، إذ تجاوز معدل التضخم الـ60 في المائة، وتدهور سعر صرف الجنيه السوداني بشكل غير مسبوق، وسط ندرة في الوقود والسلع الرئيسية، وغلاء فاحش في الأسعار.
بمواجهة هذه الأزمات، فإن معتز موسى، وفق كثيرين، بحاجة لـ«عصا موسى لتلقف ثعابين وحبال السحرة» الذين سبقوه، فهل يفلح الرجل في الفترة القصيرة المتاحة بنهاية ولاية الرئيس عمر حسن البشير الحالية في 2020 في إعداد المسرح بأفعال تعيد التوازن لاقتصاد البلاد، بما يمهد الطريق له للحصول على دورة رئاسية «ثالثة»، يسعى حزبه من أجلها لتعديل الدستور، أم أن «الوقت انتهى»؟

كان الناس ينتظرون «وزارة موسى» ليتلمسوا الطريق إلى توجهات جديدة، لكن لدى الإعلان عنها، عشية الخميس، قال كثيرون «إنها شراب قديم في أباريق جديدة»، وإنها كانت «مجرد تنقلات» بين أفراد الطاقم الحاكم، وفقاً لتكهنات أطلقها مراقبون ومحللون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» قبل ساعات من إعلان الوزارة الجديدة.
وعلى الرغم من تسنّم معتز موسى، وهو سياسي معروف بتوجهاته الإسلامية الصريحة، عدداً من المناصب عقب تخرجه في كلية الدراسات الاقتصادية بجامعة الخرطوم 1989، فإنه ظل قابعاً في الظل. لكنه لفت الأنظار أول مرة خلال برنامج حواري تلفزيوني على إحدى الفضائيات المصرية. وعن هذه الإطلالة اللافتة، قال الصحافي ضياء الدين بلال، في مقال: «لا يوجد مقطع فيديو احتفى به مناصرو الحكومة ومعارضوها، على السواء، مثل الاحتفاء بذلك المقطع من حوار لميس الحديدي مع معتز موسى، وهو يردُّ على أسئلتها الاستفزازية والاستدراجية بثباتٍ وثقةٍ قلما تجود بهما حوارات المسؤولين. قُوَّة حجَّة مُعتز ألجمت لميس، وأعجبت السودانيين في كُلِّ مكان، فتناقلوها عبر وسائط التواصل الاجتماعي على أجنحة الفخر».
بلال رأى - بحسب المقال - أن موسى يعد من أكثر الوزراء مقدرةً على التعبير عن سياسته، والدفاع عنها بمنطقٍ قوي ولسانٍ مُبين، وأردف أنه تلقى رسالة من إعلامي بارز خلال تلك الفترة، فحواها: «هذا الوزير جديرٌ بتقلُّد منصب رئيس الوزراء»، وهو سقف يلامس أحلام الكثيرين؛ أن يستخدم الرجل «عصا موسى» في مواجهة الأزمة.
بيد أن عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، صديق يوسف، يذهب إلى القطع بعدم قدرة النظام، وليس الرجل، على مواجهة الأزمة، سواء استخدم عصا موسى أو استعان بسحرة سليمان، ومن ثم استطرد قائلاً: «حل الحكومة، وإعادة تشكيل الوزارة، ليس حلاً لمشكلة السودان». ورأى يوسف أن التغيير في الطاقم الحاكم ليس نتيجة حاجة عملية، بل تعبير عن «صراعات داخل الحزب الحاكم، وتوازنات يعرفونها هم». وبالتالي، لا قيمة لاختيار شخص أو إعفاء آخر. وتابع شارحاً: «ما لم تتغير السياسات، فلن يحدث جديد، سواء كان رئيس الوزراء معتز موسى أو بكري حسن صالح»، مضيفاً: «ما حدث لا يعني الشعب السوداني في شيء، بل يعبر عن صراعات ومصالح مراكز النفوذ».
في المقابل، فإن أسامة توفيق، القيادي الإسلامي المنشق عن الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، الذي سبق له أن عايش معتز موسى في أثناء توليه وظيفة «قنصل» في سفارة السودان في بون، بألمانيا الاتحادية، وكذلك إبان الحرب في جنوب السودان، التي كان أحد قادتها الميدانيين، وكان موسى أحد مقاتليها، يقول عن موسى خلال تلك الفترة: «إنه رجل متدين للغاية، وكان مكتبه مفتوحاً للسودانيين. ولقد استغل وجوده هناك (في بون) في تأهيل نفسه، إذ تعلم اللغة الألمانية وأجادها، وحصل على درجة الماجستير في السياسة الدولية»، ويضيف: «كان يسكن شقة صغيرة لا تليق بقنصل، ولا بزوجته هالة بنت رجل الأعمال الإسلامي الشهير الطيب النص»، ويستطرد: «كان يركب سيارة قديمة من طراز (مرسيدس)، ثمنها في حدود 600 دولار، وأشهد له بالنظافة ورفض استغلال النفوذ».
ويوضح توفيق أن موسى نقل بواسطة أسامة عبد الله، وزير الكهرباء والسدود الأسبق المثير للجدل، إلى إدارة السدود، مضيفاً: «كان أحد أبناء أسامة عبد الله. وخلال عمله في السدود، كنا نلتقي في المناسبات». ومن ثم، تنبأ توفيق لرئيس الوزراء الجديد بالفشل في مهمته، رغم الميزات الشخصية التي رواها عنه بقوله: «كتبت تغريدة بأن معتز مؤهل ونظيف، فرض عليه تحكيم مباراة في السنترليغ، بدار الرياضة أم درمان، في يوم عاصف وممطر»، ثم تابع موضحاً: «أن تشتغل مع الرئيس عمر البشير، فأنت فاشل من البداية... كل شيء سيسلم له كروشتة طبيب عليه تنفيذها، بما في ذلك روشتة أسماء الوزراء»، واستطرد: «اختياره لم يأت لكونه مؤهلاً، بل لأن الرئيس فقد الثقة في المؤتمر الوطني، فأصبح يستعين بأقاربه... ولهذا، لا أتوقع له النجاح، ليس لضعف فيه، بل لأنه سيكون مكبلاً».

- بطاقة شخصية
ولد معتز موسى عبد الله سالم، وهذا هو الاسم الكامل لرئيس الوزراء الجديد، في منطقة صراصر، التابعة لمحلية الحصاحيصا، بولاية الجزيرة، في وسط السودان، عام 1967. وتجمعه صلة رحم بالرئيس عمر حسن البشير، كما أنهما يتحدّران من منطقة واحدة. وقد تخرج في كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بجامعة الخرطوم 1989، بدرجة بكالوريوس الإدارة والمحاسبة. وفي عام تخرجه، حدث انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، الذي جاء بالإسلاميين الذين ينتمي إليهم، وبالرئيس البشير، للحكم، وهو ما أتاح له التقلب في المناصب حتى عين رئيساً للوزارة، الأحد الماضي.
يقول زملاؤه في الجامعة إنه كان ملتزماً بوضوح بـ«الحركة الإسلامية» - التنظيم السياسي للإسلاميين السودانيين حينذاك - لكنه لم يكن يشارك في النشاط العلني و«أركان النقاش» التي كانت تعقد في الجامعة، أو العمل السياسي المباشر. وثمة مَن يقول إنه كان «رجل تنظيم»، بالإضافة إلى كونه طالباً جاداً ومجداً في التزامه الأكاديمي. ونقلت تقارير صحافية محلية أن موسى في تلك الفترة كان مواظباً على الوجود في «مسجد جامعة الخرطوم»، وهو مسجد عزيز على الإسلاميين السودانيين، ترعرع فيه نشاطهم الطلابي، بل والحزبي والسياسي، وكانوا يتوافدون للصلاة فيه من كل أنحاء الخرطوم، بمن في ذلك زعيمهم الراحل الدكتور حسن الترابي الذي كان يتردد عليه كثيراً.
وتوضح هذه التقارير أن موسى كان من كبار المعجبين بالترابي، لدرجة أنه كان يقلد طريقته في الحديث باللغتين العربية والإنجليزية، وأنه كان ملتزماً برياضة المشي التي كان يمارسها بصرامة، وفي الوقت نفسه كان يحتفظ بعلاقات جيدة مع زملائه الطلاب.

- حرب الجنوب
شارك موسى عقب تخرجه من الجامعة في الحرب الأهلية بجنوب السودان، ضمن كتائب «المجاهدين»، وخاض عدداً من المعارك. ووفق كلام أسامة توفيق: «التقيته هناك عندما كنت الآمر الفعلي للقوات التي كانت تقاتل في الجنوب». ولقد خسر موسى شقيقه أبا ذر في المعركة الشهيرة التي تعد من كبريات معارك الإسلاميين ضد التمرد الذي كانت تقوده «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الراحل جون قرنق، وهي معركة «الميل 40». وبعد ذلك، أتاح له تخرّجه بالتزامن مع انقلاب الإسلاميين التقلّب في الوظائف؛ ذلك أنه في أعقاب التخرّج مباشرة عمل في «المركز القومي للإنتاج الإعلامي»، وهو المكان الذي تولى صناعة الدعاية الحربية، أو ما اصطلح الإسلاميون على تسميته «الجهاد».
ثم بعد العمل في «المركز القومي للإنتاج الإعلامي»، التحق موسى بالسلك الدبلوماسي، بداية في رئاسة وزارة الخارجية (1992 - 1994)، بوظيفة سكرتير ثالث، ثم ابتُعث قنصلاً إلى سفارة السودان في بون، عاصمة جمهورية ألمانيا الاتحادية (1994 - 1998). وبعيد عودته من ألمانيا، استعان به وزير الكهرباء والسدود في حينه، أسامة عبد الله، وكان موسى أحد تلاميذه. وهناك، تنقل بين عدد من الإدارات، إلى أن تولى منصب مدير الإدارة العامة وتمويل المشروعات (1998 - 2013).
وفي عام 2013، كلف معتز موسى بحقيبة وزير الري والكهرباء، وهي الحقيبة الوزارية التي ظل محتفظاً بها حتى تعيينه رئيساً للوزارة. وتعتبر إدارة العملية التفاوضية على ملف النزاع الثلاثي على «سد النهضة» واحدة من أهم الملفات التي تولاها. ويرى خبراء متابعون أنه أسهم في تقريب الشقة بين المصريين والإثيوبيين، على الرغم من السخط المصري المعلن حول إدارة السودان لسد النهضة، باعتباره «مهادناً لإثيوبيا على حساب مصر».
غير أن مراقباً، طلب التكتم على اسمه، أفاد بأن موسى «كان يدير ملف التفاوض على سد النهضة من وجهة نظر التناقضات السياسية بين النظامين المصري والسوداني»، وأن إدارته للملف «كانت تستهدف الضغط على مصر للحصول على تنازلات، خصوصاً في النزاع على مثلث حلايب».
مناقب الرجل ومثالبه ظلت محل جدل بين مقرظ ومنتقد. وفي هذا، وصفه نائب رئيس الوزراء السابق مبارك المهدي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» قبل أشهر، بأنه من القلة النادرة التي كانت تدير ملفات وزاراتها بقدرات سياسية ومهارة تنفيذية عالية تؤهله لمنصبه. لكن مصدراً آخر قال للصحيفة: «إنه مطيع لرؤسائه، شديد على مرؤسيه، وهو سبب اختياره رئيساً للوزارة».

- منصب تشريفي
في أي حال، ومع تضارب الآراء بشأن شخص رئيس الوزراء السوداني الجديد، فإن رئيس تحرير صحيفة «التيار» المستقلة، عثمان ميرغني، بدا غير متفائل البتة، إذ قال لـ«الشرق الأوسط» معلقاً: «لا أعتقد أن بيد موسى ما يمكّنه من تغيير الأحوال، لأن منصب رئيس مجلس الوزراء منصب أقرب إلى المنصب التشريفي... ولا يعطي سلطات أصيلة لشاغله، والسلطة الأصيلة الوحيدة المتاحة له هي إدارة جلسات مجلس الوزراء»، وهذا باعتبار النظام الرئاسي السوداني يكرّس السلطة التنفيذية الفعلية بيد رئيس الجمهورية.
ووصف ميرغني الفترة المتبقية من عمر الدورة الرئاسية (400 يوم) بأنها قصيرة، تتخلها فترة الإعداد للانتخابات، التي ستكون فيها الحكومة شبه مشلولة، وهو ما لن يمكنه من تنفيذ أية برامج جديدة. لذلك، لن تتعدى هذه الفترة كونها فترة تكميلية للبرامج الموجودة. ويتابع: «والواقع أنه ليس هنالك برامج، بل هنالك أزمات! وفي مثل هذه الظروف، يصعب أن يكون هناك عمل يمكن أن يؤديه الرجل خلال هذه الفترة القصيرة».
ويشير ميرغني إلى «عوامل عرقلة إضافية» تواجه موسى، وتتمثل في ما سماه «الانشقاقات التي تجري بصمت أو بصخب داخل حزب المؤتمر الوطني، وحالة الاستقطاب داخله، بجانب القضايا الخارجية المحيطة بالسودان، التي تعتصره من زواياه جميعها، بما يشبه الحصار الاقتصادي إقليمياً ودولياً». ومن ثم، يقطع ميرغني بأن رئيس الوزراء الجديد «مهما كانت قدراته الشخصية، ومهما كان التعويل عليه، لا يملك سلطة أصيلة تمكنه من تنفيذ ما في ذهنه، لأنه محكوم بما هو موجود، والمطلوب منه تنفيذه فقط».
من جهة أخرى، ينقل المحلل السياسي محمد لطيف، مدير مؤسسة «طيبة برس»، عن موسى اعترافه بأن أمام وزارته جملة مهدِّدات سبق أن واجهت الوزارة السابقة، واعترافه أيضاً بهشاشة التشكيلة على أصعدة الإدارة والمتابعة والتقييم «ما جعل الناس تنظر للواقع بعدم ثقة، والمستقبل بشكوك كبيرة».
ويضيف لطيف، الذي تجمعه صلة مصاهرة بالرئيس البشير، وبالتالي رئيس الوزراء الجديد، أن معتز موسى أبلغه بأن المعالجة التي سيتبعها في إدارته للوزارة ستقوم على «تكريس مبدأ حسن الإدارة، وبوعي كامل ودراية بأي قضية من كل جوانبها، ووضع برنامج محدد الملامح والرؤى، وبإطار زمني للتنفيذ، وتوفير مقومات ومدخلات ذلك التنفيذ».
وختاماً، فإن السودانيين يأملون في أن ينتشل موسى النجاح من فك الصعاب، ويطعمهم المن والسلوى. إلا أنهم في المقابل يخشون أن يكون برنامج «علاج الصدمة» الذي أعلنه طامة كبرى جديدة تضاف إلى أزماتهم، ذلك أن تشكيل الوزارة التي أعلنت أخيراً، والطريقة التي أعلنت بها، دعمت الشكوك بأنه لن تقدم جديداً. وهذا ما ذكره محلل طلب إغفال اسمه، بقوله: «لو كنت مكانه، لتقدّمت على الفور باستقالتي. أظنها أمليت عليه لأن شخصاً غيره أعلنها، وليس من داخل مجلس الوزراء، بل من مباني الحزب الحاكم»!


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.