من مونيه إلى سيزان... الفن الانطباعي لا يزال يمتع ويدهش

دعوة للغوص مرة أخرى في عالم فنانيه من خلال معرض في «ناشونال غاليري» بلندن

معرض «التأثيريون في مجموعة كورتولد من مانيه إلى سيزان» في «ناشونال غاليري» (إ.ب.أ)
معرض «التأثيريون في مجموعة كورتولد من مانيه إلى سيزان» في «ناشونال غاليري» (إ.ب.أ)
TT

من مونيه إلى سيزان... الفن الانطباعي لا يزال يمتع ويدهش

معرض «التأثيريون في مجموعة كورتولد من مانيه إلى سيزان» في «ناشونال غاليري» (إ.ب.أ)
معرض «التأثيريون في مجموعة كورتولد من مانيه إلى سيزان» في «ناشونال غاليري» (إ.ب.أ)

زيارة معرض «الانطباعيون في مجموعة كورتولد من مانيه إلى سيزان» الذي يحتضنه «ناشونال غاليري» بلندن تذكرنا بأسباب عشق الجمهور عبر العصور للوحات مونيه ومانيه وديغا وفان غوخ، وغيرهم من فناني الموجة الانطباعية في نهاية القرن التاسع عشر. كيف لا وأعمالهم تحولت إلى جزء مهم من الذاكرة الجمعية، وحتى سوقت بشكل مخيف لتتخذ طريقها نحو الملابس والأواني وأغطية الهواتف المحمولة. ورغم كل ذلك التواجد الذي قد يحول اللوحات الشهيرة لمشهد عابر ومعتاد، فإن معرض الـ«ناشونال غاليري» يأتي ليثبت لنا أن الانطباعيين ما زال لديهم ما يمتع ويدهش ويحرك الوجدان.
ونعود لعنوان المعرض «الانطباعيون في مجموعة كورتولد من مانيه إلى سيزان»؛ فهو يشير إلى المجموعة الضخمة من الأعمال الانطباعية التي تعرض بشكل دائم في كورتولد غاليري بلندن، وهي مجموعة مقتناة بعناية وحب من قبل رجل الأعمال صامويل كورتولد (1876 - 1947) في حقبة العشرينات من القرن الماضي. وبمناسبة إقفال كورتولد غاليري مؤقتاً للتجديدات وجدت المجموعة الفنية البديعة طريقها لمؤسسة فنية أخرى عريقة وهي «ناشونال غاليري» في ترافالغر سكوير.
يجمع المعرض أكثر من أربعين لوحة تتمحور حول 26 لوحة مستعارة من مجموعة كورتولد، معظمها من المجموعة الخاصة لصمويل كورتولد تعرض للمرة الأولى في «ناشونال غاليري». جمع صمويل كورتولد لوحات ضمها لمقتنياته الخاصة وجمّلت أرجاء منزله، غير أنه أيضاً حرص على تكوين مجموعة فنية عامة أهداها للأمة عبر صندوق كورتولد الذي أنشأه في عام 1923 لشراء أعمال فنية فرنسية وهي الأعمال التي تتربع في «ناشونال غاليري» حالياً، وتضم لوحة «في المسرح» لرينوار و«لوحة شخصية» لسيزان و«حقل قمح مع شجرة سرو» لفان غوخ. غير أن العرض هنا لا يضع اللوحات منفردة، بل يلضمها في عقد بديع ليروي للمشاهد جانباً من تطور الفن الفرنسي من 1860 وحتى بدايات القرن العشرين.
كورتولد بدأ شراء اللوحات بكثافة في العشرينات عندما أصبح رئيساً لمجلس إدارة شركة العائلة المتخصصة في صناعة الأنسجة الصناعية. وكبرت المجموعة الفنية الخاصة به لتتجاوز الـ70 لوحة، ولاحقاً عندما أنشأ صندوق كورتولد (كوتولد فند) نجح في تكوين نواة قسم الفن الانطباعي وما بعد الانطباعي في الـ«ناشونال غاليري»، وله يعود الفضل في تعريف بريطانيا بهذا الفن.
في 12 قسماً ندلفها واحداً بعد الآخر يقسّم المعرض لوحاته وألوانه إلى فصول عن الفنانين المشاركين، فنبدأ بالفنان دوميير الذي نرى له عملين يمثلان شخصيات الرواية الشهيرة «دون كيشوت»، هنا الأسلوب مختلف نوعاً ما، يميل إلى الألوان الداكنة والملامح الضبابية، لكننا نخرج من ذلك الفصل إلى لوحات إدوار مانيه، ونجد أفراد الجمهور وقد تسمرت أعينهم وأقدامهم أمام إحدى أشهر اللوحات في الفن العالمي، وهي «بار في الفولي بيرجير»، نعرف أنها اللوحة الأغلى سعراً في مجموعة كورتولد 22.000 ألف جنيه إسترليني. اللوحة تصور نادلة في بار النادي الليلي فولي بيرجير، الفتاة تواجه الزائر على اعتبار أنه أحد رواد النادي غير أنها لا تنظر لنا مباشرة، عيناها غائمتان وبهما لمحة حزن، هل تتحدث لشخص آخر يبدو انعكاسه في المرآة خلفها؟ وما طبيعة الحديث التي ألقت بظلال حزينة على وجه الفتاة؟ مانيه عبّر بلوحته عن الحياة المعاصرة في ذلك الزمن.
ويأتي المعرض فرصةً للغاليري لعرض لوحات سيزان وديغا وسورات ورينوار بشكل مختلف قليلا، فاختيرت اللوحات بعناية لتجاور لوحات أخرى لنفس الفنانين من مقتنيات الـ«ناشونال غاليري». وبتنسيق بديع نجد أنفسنا داخل محادثة بصرية بين الفنانين، كل منهم يكمل الآخر، سواء في الموضوع أو في الأسلوب أو حتى في الشخصيات. فهناك لوحة لمانيه تصور امرأة وطفلاً على شاطئ البحر، هي تصوير لزوجة كلود مونيه وابنه، ولمد حبل التواصل بين اللوحات ندير رأسنا لنجد لوحة لكلود مونيه تصور ألوان الخريف في الشجر وأيضاً تماوج المياه في النهر. يصف مانيه صديقه مونيه بأنه بمثابة الفنان الإيطالي رافايل فيما يختص برسم المياه.
في حجرة ثانية نجد عدداً من اللوحات التي تدور في عالم المسرح، لوحة «لا لوج» لرينوار تدور في هذا العالم، غير أنه لا يبدو مهتماً بما يعرض على خشبة المسرح، يركز على تلك الفتاة الجميلة التي تجلس في شرفة (لوج) خاص، تحمل في يديها العدسات المقربة، لكنها لا تستخدمها. هناك رجل خلفها يضع العدسات على عينيه ويبدو منهمكاً بالنظر لشرفة أخرى، ربما لفتاة أخرى في الجمهور. بالنسبة لرينوار فالمسرح هو الجمهور والعلاقات الاجتماعية بينهم وليس العروض التمثيلية. نرى تأكيداً لهذا في لوحة أخرى لرينوار بعنوان «في المسرح» بطلتها فتاة أيضاً تحضر للمسرح للمرة الأولى وتجلس في إحدى الشرفات الخاصة، وفي الجانب المقابل لها نرى الجمهور الذي لا يبدو مهتماً بما يحدث على خشبة المسرح، بل يحاصر الفتاة بنظرات فضولية. هنا المسرح يتحول للمكان الذي يقصده الناس لرؤية الآخرين ولكي يصبحوا هم هدفاً للنظرات.
ولا يغيب الفنان ديغا عن لوحات عالم المسرح؛ فهو مشهور بلوحاته التي تصور راقصات الباليه، وهناك لوحة «راقصات على المسرح» الشهيرة التي تصور راقصتي باليه خلال عرض لباليه «دون جيوفاني» لموتسارت أقيم في باريس عام 1874، غير أنه رسم اللوحة من منظور شخص يجلس في مقصورة الملقن على المسرح؛ ولهذا نرى الراقصتين في أحد أطراف اللوحة بينما الجزء الآخر وهو خالٍ من الراقصات، يعرض لنا جانباً من الديكورات، وأيضاً آثار لقضبان حديدية توضع لتغيير الديكور.
لا يحتاج الزائر إلى أسباب كثيرة لزيارة هذا المعرض المتخم بالجمال والإبداع، وهو ما كان واضحاً على أفراد الجمهور في زيارتنا، هم هنا للاستمتاع بلمحات من ذلك الفن الجميل وهو سبب كافٍ جداً.



هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
TT

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

القبلات المتطايرة التي تدفّقت من هاني شاكر إلى أحبّته طوال حفل وداع الصيف في لبنان، كانت من القلب. يعلم أنه مُقدَّر ومُنتَظر، والآتون من أجله يفضّلونه جداً على أمزجة الغناء الأخرى. وهو من قلّة تُطالَب بأغنيات الألم، في حين يتجنَّب فنانون الإفراط في مغنى الأوجاع لضمان تفاعل الجمهور. كان لافتاً أن تُفجّر أغنية «لو بتحبّ حقيقي صحيح»، مثلاً، وهو يختمها بـ«وأنا بنهار»، مزاج صالة «الأطلال بلازا» الممتلئة بقلوب تخفق له. رقص الحاضرون على الجراح. بارعٌ هاني شاكر في إشعالها بعد ظنّ أنها انطفأت.

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

تغلَّب على عطل في هندسة الصوت، وقدَّم ما يُدهش. كان أقوى مما قد يَحدُث ويصيب بالتشتُّت. قبض على مزاج الناس باحتراف الكبار، وأنساهم خللاً طرأ رغم حُسن تنظيم شركة «عكنان» وجهود المتعهّد خضر عكنان لمستوى يليق. سيطر تماماً، بصوت لا يزال متّقداً رغم الزمن، وأرشيف من الذهب الخالص.

أُدخل قالب حلوى للاحتفاء بأغنيته الجديدة «يا ويل حالي» باللهجة اللبنانية في بيروت التي تُبادله الحبّ. قبل لقائه بالآتين من أجله، كرَّرت شاشة كبيرة بثَّها بفيديو كليبها المُصوَّر. أعادتها حتى حُفظت. وحين افتتح بها أمسيته، بدت مألوفة ولطيفة. ضجَّ صيف لبنان بحفلاته، وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات، فكان الغناء بلهجته وفاءً لجمهور وفيّ.

بقيادة المايسترو بسام بدّور، عزفت الفرقة ألحان العذاب. «معقول نتقابل تاني» و«نسيانك صعب أكيد»، وروائع لا يلفحها غبار. الأغنية تطول ليتحقّق جَرْف الذكريات. وكلما امتّدت دقائقها، نكشت في الماضي. يوم كان هاني شاكر فنان الآهات المستترة والمعلنة، وأنّات الداخل وكثافة طبقاته، وعبق الورد رغم الجفاف والتخلّي عن البتلات. حين غنّى «بعد ما دابت أحلامي... بعد ما شابت أيامي... ألقاقي هنا قدامي»، طرق الأبواب الموصودة؛ تلك التي يخالها المرء صدأت حين ضاعت مفاتيحها، وهشَّم الهواء البارد خشبها وحديدها. يطرقها بأغنيات لا يهمّ إن مرَّ عُمر ولم تُسمَع. يكفيها أنها لا تُنسى، بل تحضُر مثل العصف، فيهبّ مُحدِثاً فوضى داخلية، ومُخربطاً مشاعر كوَقْع الأطفال على ما تظنّه الأمهات قد ترتَّب واتّخذ شكله المناسب.

هاني شاكر مُنتَظر والآتون من أجله يفضّلونه جداً (الشرق الأوسط)

تتطاير القبلات من فنان يحترم ناسه، ويستعدّ جيداً من أجلهم. لا تغادره الابتسامة، فيشعر مَن يُشاهده بأنه قريب ودافئ. فنانُ الغناء الحزين يضحك لإدراكه أنّ الحياة خليط أفراح ومآسٍ، ولمّا جرّبته بامتحانها الأقسى، وعصرت قلبه بالفراق، درّبته على النهوض. همست له أن يغنّي للجرح ليُشفى، وللندبة فتتوارى قليلاً. ولا بأس إن اتّسم الغناء بالأحزان، فهي وعي إنساني، وسموّ روحي، ومسار نحو تقدير البهجات. ابتسامة هاني شاكر المتألِّمة دواخلَه، إصرار وعناد.

تراءى الفنان المصري تجسيداً للذاكرة لو كان لها شكل. هكذا هي؛ تضحك وتبكي، تُستعاد فجأة على هيئة جَرْف، ثم تهمد مثل ورقة شجر لا تملك الفرار من مصيرها الأخير على عتبة الخريف الآتي. «بحبك يا هاني»، تكرَّرت صرخات نسائية، وردَّ بالحبّ. يُذكِّر جمهوره بغلبة السيدات المفتتنات بأغنياته، وبما تُحرِّك بهنّ، بجمهور كاظم الساهر. للاثنين سطوة نسائية تملك جرأة الصراخ من أجلهما، والبوح بالمشاعر أمام الحشد الحاضر.

نوَّع، فغنّى الوجه المشرق للعلاقات: «بحبك يا غالي»، و«حنعيش»، و«كدة برضو يا قمر». شيءٌ من التلصُّص إلى الوجوه، أكّد لصاحبة السطور الحبَّ الكبير للرجل. الجميع مأخوذ، يغنّي كأنه طير أُفلت من قفصه. ربما هو قفص الماضي حين ننظر إليه، فيتراءى رماداً. لكنّ الرماد وجعٌ أيضاً لأنه مصير الجمر. وهاني شاكر يغنّي لجمرنا وبقاياه، «يا ريتك معايا»، و«أصاحب مين»؛ ففي الأولى «نلفّ الدنيا دي يا عين ومعانا الهوى»، وفي الثانية «عيونك هم أصحابي وعمري وكل أحبابي»، لتبقى «مشتريكي ما تبعيش» بديع ما يُطرب.

ضجَّ صيف لبنان بحفلاته وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات (الشرق الأوسط)

استعار من فيروز «بحبك يا لبنان» وغنّاها. بعضٌ يُساير، لكنّ هاني شاكر صادق. ليس شاقاً كشفُ الصدق، فعكسُه فظٌّ وساطع. ردَّد موال «لبنان أرض المحبّة»، وأكمله بـ«كيف ما كنت بحبك». وكان لا مفرّ من الاستجابة لنداء تكرَّر. طالبوه مراراً بـ«علِّي الضحكاية»، لكنه اختارها للختام. توَّج بها باقة الأحزان، كإعلان هزيمة الزعل بالضحكاية العالية.