الصورة السلبية للعربي في الذهنية الثقافية الإيرانية

الشعوبيَّة القديمة شهدت ركوداً حتى انبعثت في العصر الحديث

أدرك النظام الإيراني بعد الثورة أن شرعيّته تتأتى بالتمايز القومي والعرقي ومن ثمَّ دمج بين الإيرانيَّة والشيعية
أدرك النظام الإيراني بعد الثورة أن شرعيّته تتأتى بالتمايز القومي والعرقي ومن ثمَّ دمج بين الإيرانيَّة والشيعية
TT

الصورة السلبية للعربي في الذهنية الثقافية الإيرانية

أدرك النظام الإيراني بعد الثورة أن شرعيّته تتأتى بالتمايز القومي والعرقي ومن ثمَّ دمج بين الإيرانيَّة والشيعية
أدرك النظام الإيراني بعد الثورة أن شرعيّته تتأتى بالتمايز القومي والعرقي ومن ثمَّ دمج بين الإيرانيَّة والشيعية

صدر حديثاً عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة كتاب «الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث... دراسة في ضوء الاستشراق الإيرانيّ»، لأحد أهمّ خبراء الفكر السياسي الإيراني في العالم العربيّ، الدكتور محمد بن صقر السُّلمي، رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة ليدن الهولندية العريقة في تخصص الدراسات الإيرانية.
اشتمل الكتاب على ثمانية فصول، تمحورت حول الآخر وبناء الهُوِيَّة، ومكوناتها وتكوينها، وتعقيدات الوعي بالذات الإيرانيَّة، ونشوء الآخر العربي، والسلسلة الزرادشتية في إيران وموقفها منه، وإضفاء الطابع المؤسَّساتي على مفهوم الآخر العربي، والحركات القوميَّة خلال حكم البهلويين، وموقف إيران بعد الثورة الخمينية من الآخر العربي.
وتكمن أهمِّيَّة هذا الكتاب في ندرة موضوعه؛ لأنّ الدراسات المتخصصة في بحث الصورة السلبية للعرب في الذهنية الثقافية تبدو غائبة، ولا سيما أن دراسة هذه الصورة تتخطى نطاق الأعمال الروائية لتطال الدراسات الأكاديمية والكتابات التاريخيَّة. كما أنّ هذا الكتاب استطاع لملمة شتات مصادر القوميَّة الإيرانيَّة في مرجع واحد، فركَّز على النزعة القوميَّة الإيرانيَّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي تولى كِبَرها علمانيو إيران ومفكروها وأدباؤها الذين أرجعوا التخلُّفَ الإيراني إلى الإسلام والعرب أصحاب البلدان المتوحّشة كما سموهم، غير أنّ البيئة الإيرانيَّة عامّة لم تسمح بمسايرة ومجاراة أولئك المفكرين، لعوامل كثيرة، أهمُّها أنّ الحوزة والمؤسَّسة الدينية هي السُّلطة المهيمنة في إيران بعد توطيد ثنائية «الفقيه والسلطان» في عهد الصفويين، بالإضافة إلى أنّ خطاب الهُوِيَّة القوميَّة كان نخبويّاً في مفرداته وأدبياته، ولم يكُن له حواضن شعبية تجعله مقبولاً لدى العامّة، وهذا طرح يخالف ما ذهب إليه بعضُ الباحثين من أنّ الجماهير تلقَّفت الخطاب القومي العلمانيّ، ولكن هذا غير واردٍ منهجياً؛ لأنّ تأثير الأدب الفارسي الحديث في المجتمع الإيراني محدود جدّاً، ولم ينتشر إلا بين مجموعات صغيرة من الكُتَّاب والمفكرين، علاوة على ذلك أنّ الأمَّة الإيرانيَّة كانت متشظية إلى قوميات وإثنيات مختلفة تحكمها القبائلية ولم تكُن السُّلْطة السياسية مركزية بالصورة المعهودة في الدولة الحديثة، ففي نظام سياسي واجتماعي كهذا لا يُمكن للأدباء والمفكرين القوميين أن يؤثّروا في العامَّة.
ويُمكن قراءة محاور الكتاب من خلال العناصر التالية:
أولاً: بناء الهُوِيَّة الإيرانيَّة
ركَّز الباحث على مكوِّنات بناء الهُوِيَّة الإيرانيَّة التي يمكن رصدها في:
أ- المواطنة: وهي أداة يمكن بواسطتها تشكّل الهويات، وعناصرها: اللغة والتاريخ والثقافة، فعملية تكوين الهُوِيَّة تُحدّد العناصر التي ينبغي الإبقاء عليها، أو استبعادها؛ في سبيل أن نصبح ما قد نكون عليه بدلاً من أن نكون من نحن!
ب- الذاتيَّة: وهنا تبرز الذات نقيضاً للآخَر، من حيث الاختلافات اللغوية والعرقية ونحو ذلك.
ج- الثنائية: أي تقسيم العالم إلى خير وشرّ، أو أبيض وأسود، حتى يسهل حشد الناس تجاه القوميَّة المبتغاة.
ويُمكن تطبيقها على النموذج الإيراني - ما بعد الدولة الحديثة - والحكم من خلالها على مدى ترسيخ الهُوِيَّة الإيرانيَّة من عدمه، ومدى مطابقة الأدوات لهذه العناصر.
ثانياً: الصراع الإيراني - العربي
في نهاية القرن التاسع عشر حاول مفكِّرو الفرس، ممن يُتقِنون العربية ويُعادُونها في آن، ويتبنَّون الشعوبية، أن يستحدثوا هُويَّة فارسيَّة جديدة. واختِيرَ الآخر العربي تحديداً لإبراز ذاتية الحضارة الفارسيَّة، وترسيخ هُوّيتها.
ويطرح الباحثُ سؤالاً مُهِمّاً: لماذا اختِيرَ الآخر العربي عدوّاً للقوميَّة الإيرانيَّة ومُحفّزاً للانكفاء؟ أو لماذا تُحَدَّد بإزاء الآخر العربي؟ وهل لذلك علاقة بالحركة الشعوبيَّة القديمة في عهد الأمويين والعباسيين؟
والحقّ أنّ الشعوبيَّة القديمة شهدت ركوداً، حتى انبعثت في العصر الحديث على أيدي أدباء ومفكرين إيرانيين، مما يمكن تسميتها «الشعوبيَّة الجديدة»، واحتاج هذا الانبعاث إلى قاعدة جماهيريَّة تنطلق من خلالها، وتخلق عدوّاً لها وإن كان متوهَّماً؛ هو الآخر العربي ذلك أنّهم «دمَّروا الحضارة الفارسيَّة وقضوا على أحلام الإمبراطورية»، ومن ثمّ تُبرمج العقول الإيرانيّة على عودة ذلك الزمان.
فكيف التفت المفكرون والأدباء إلى النموذج القومي الإيراني بعيداً عن العروبة والإسلام مع خفوت هذا النموذج الشعوبي لقرون ممتدة؟ يُجيب الكتابُ على هذا الطرح بأنّ المجتمع الإيراني شهد ما يُسمِّيه محمد توكلي ترقي «أزمة هُوِيَّة»، وبعبارة أخرى: بعد اكتشاف الأوروبيين عائلة اللغات الهندو أوروبية وأوجه التشابه بين عدد من اللغات التي تشمل اللغة الفارسيَّة، إلى جانب ظهور النظريات العرقية خلال القرن التاسع عشر، بدأت عملية استكشاف ثقافة الفرس وتاريخهم في مرحلة ما قبل الإسلام مرة أخرى، واتخاذ العرب خصماً مناقضاً للذات الإيرانيَّة.
ويمكن القول إنه قبل الثورة الدستورية لم تكُن القوميَّة المبنية على أساس الدولة القُطريَّة معروفة تقريباً، في حين كانت المشاعر الوطنية نادرة الوجود باستثناء كونها شعوراً دينيّاً، بل إن مظاهرات أنصار الحركة الدستورية كانت موجَّهة ضدّ انتهاك الأجانب لبلاد الإسلام والمسلمين ليست لكونها بلاد فارس. ونشب صراع بين أنماط ثلاثة إبّان الثورة الدستورية: النموذج الإسلاميّ، والفارسيّ، والغربيّ. لكن القوميين الإيرانيين حاولوا إخفاء مواقفهم المناهضة للإسلام والعرب، ولا سيما في أولى سنوات الثورة الدستورية إذ انصبّ جهدهم على مناهضة النفوذ السياسي والاقتصادي الأجنبي، ثمّ انفضّ التحالف واشتدَّ العداء بين رجال الدين والعلمانيين، وبدأ يطفو على السطح أرق «العربوفوبيا».
ثالثاً: التطرف القومي
بدأ التطرف القومي ضدّ الآخر العربي على يد قِلَّة من الأدباء والمفكرين، وقد تَجَلَّت هذه النزعة عند فتح علي أخوند زاده، وآقا خان كرماني خاصّة، اللذين كانا من أوائل الكُتَّاب الراكبين موجة اتّهام العرب برجعيَّة إيران. وقد وصف كرماني العرب بأنّهم «لصوص وعراة، وآكلو الجرذان، وأكثر دونية حتى من الحيوانات»، كما يعزو فساد الأخلاق الإيرانيَّة وتَعفُّنها إلى الاختلاط الطويل بالعرب، وإلى السلطتين: الحكومة والدين، اللتين تحكَّمتا في طبيعة الناس وأنتجتا أخلاقهم وآدابهم.
وقد هاجمَ كرماني محمد باقر مجلسي، وغيره من رجال الدين ممن أفسدوا عقليّة الإيرانيين بالخرافات من أجل تطبيق أهداف الحركة الصفويّة. واتَهم الصفويين بأنّهم لم يكونوا قوميين تماماً، ذلك أنهم مذهبيّون، في حين أن كرماني المحسوب على العلمانية القوميَّة المتطرفة، يسعى للفارسيَّة القديمة البعيدة عن المذاهب والأديان! في حين أن علي شريعتي القريب مِن خطّ الدستورية «العلمانية المؤمنة» يعدّ الصفويين متطرّفين.
وهناك لمحتان مهمَّتان أبرزهما الكتاب: الأولى، وهي الصهر القومي. وقد نوّه الكتابُ بهذه الصبغة، مشيراً إلى أنّ الأفكار المتعلقة بإيران والهُوِيَّة الإيرانيَّة إبان حكم «الصفاريّة» قد اصطبغت بصبغة شيعية إسلامية ميزتها عن باقي العالم الإسلاميّ. فهذا الاصطباغ أو الانصهار بين الشيعية والقوميَّة خلال حكم «الصفويين» ومن بعدهم، لم يرقَ للمفكرين القوميين الإيرانيين من أمثال أخوند زاده، وكرماني، وذلك لسببين رئيسيين: أنهم عدّوه انصهاراً وظيفياً لشرعنة النِّظام، وزجّ المؤسَّسة الدينية في حياة الإيرانيين. إن نشأة المذهب الشيعي عربية، فأي مزج له في حياة الإيرانيين مرفوض؛ لأنّه كمونٌ عربي في الهُويَّة الإيرانيَّة.
لكن للنِّظام السياسي رؤية مختلفة، بعيدة عن الطوباويَّة الفارسيَّة، فتبنّي القوميَّة لن يوفر الغطاء الذي يوفره المزج بين الفارسي والشيعيّ؛ مِن ثَمّ، صار الفصل بين الإيرانيَّة والشيعية أمراً عسيراً، حسب فرنسوا تويال. وهذا لا ينفي أنّ السُّلْطة السياسية تؤمن بالتطرُّف القومي محاولة تطبيع الهُويَّة القوميَّة، باستحضار النموذج النازي، حين رفض الشاه محمد رضا بهلوي في أوائل الستينات الاحتفال بذكرى إنشاء الإمبراطورية الفارسيَّة على يد كورش الكبير؛ وبعد ذلك أحياها بشكلٍ سنوي، والهدف «حشد الأمَّة الإيرانيَّة وتوعيتها باسترداد هُويتها».
أما اللمحة الثانية فهي النموذج النازي، إذا كان رضا شاه يرى أن ألمانيا قوة بديلة عن بريطانيا العظمى والاتِّحاد السوفياتي، وقد نشطت ألمانيا في إيران لدرجة الترويج للآيديولوجيا النازية الآرية، وقد جمع التفوّق الآري بين القوميتين المتطرفتين؛ الألمانية النازية والإيرانيَّة، وغُيّرت اسم الدولة إلى إيران وِفْقاً لتوصيات الألمان للسفير الإيراني في برلين؛ بأن «إيران مهد العرق الآري».
رابعاً: ما بعد التأسيس
بعدما أحيا الأدباء والمفكرون الأوائل القوميَّة الفارسيَّة - التي اندثرت لقرون بعد ظهور الدولة الحديثة - بدأت الحركة القوميَّة تجد صداها عند البهلويين، فعندما تُوج رضا خان نفسه ليُصبح رضا شاه في عام 1925م، ألقى رئيس وزرائه محمد فروغي (1877 - 1942م) خطاباً مجّد فيه التاريخ الإيراني قبل ظهور الإسلام، مصرّحاً أنّ الأمة الإيرانيَّة اليوم استولى عليها شاه ينحدر من العرق الإيراني الخالص، ثمّ أخذت تعود ملامح إيران القديمة حتى في تسمية الكثير من الأماكن والمدن.
وعلى صعيد الأدب والفكر برز على السطح مجموعة من المفكرين والأدباء حملوا لواء التنظير الُهوياتي الفارسيّ، وكان من أبرزهم المؤرخ عبد الحسين زرين كوب (1923 - 1999م)، من أعماله: «الاحتلال العربي لإيران وآثاره»، و«قرنان من الصمت»، و«لا شرقي ولا غربي... بل إنساني».
وبحسب الباحث فإنّه يمكن بلورة أفكار زرين كوب من كتابه «قرنان من الصمت»، روَّج فيه أثر الإيرانيين على الخلافة الإسلامية بعد الفتوحات العربية. في المقابل يزعم أن العرب لا حضارة لهم، ولا يملكون شيئا من السُّلْطة أو التهذيب.
المآخذ التي رصدها الباحث، أنَّ المنهج الذي اعتمده زرين كوب برفضه روايات الطبري وابن الأثير انتقائي، واعتمد على ثناء الفرس أو الحطّ من شأن العرب في رواياته دون أي معايير علمية ومنهجية، إلا أن الكاتب عاد إلى التحليل الواقعي والمحايد للتاريخ بعد تراجع الموجة القومية فكتب كتاب «تاريخ إيران بعد الإسلام»، ثم «كارنامه إسلام».
- الهُوِيَّة الإيرانيَّة ما بعد الثورة
لم يكن النِّظام ما بعد ثورة 1979م معارضا لمفهوم القوميَّة بمعناها الواسع، فأحد أكبر منظّريها من تلامذة الخمينيّ، مرتضى مطهري، يرى أنّ القوميَّة مفيدة في بناء الاستقلاليَّة، لكنّه في الوقت نفسه اعترض على القوميَّة المطلقة التي تزدري الآخر ثقافياً وعرقياً.
يعدّ نظام ما بعد الثورة براغماتيّاً، ناصَب العرب والأقلِّيَّات العداء بواسطة الدستور وأظهر إعلاميّاً فلسفة التعايش، وعدم الجهر بإهانة مقدَّسات الآخرين، وهو مدركٌ أن شرعيّته تتأتى بالتمايز القومي والعرقي، فمن ثمَّ دمج بين الإيرانيَّة والشيعية، ولجأ إلى النزعة العنصرية بين الفينة والأخرى لاستنهاض الدعم الشعبي وتصدير المشكلات، والعزف على وتر القومية الاستعلائية في مقابل الآخر العربي.
يُعدّ الكتاب عمدة في بابِه، ومرجعاً لكلّ الباحثين الذين ينشدون دراسة القوميَّة الإيرانيَّة وتشظيَّاتها الطائفية والهُوياتية، وأبعادها السياسية والمذهبية والمجتمعية، وسائر مفرداتها وسرديَّاتها في بنية الدولة الإيرانيَّة، والمغزى الذي ينشده النِّظامُ من إثارتها، ووضع العرب موضع الآخر المناقض لها، بعيداً عن التمظهرات السياسية.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.