سياحة التحدي وتدفق الأدرينالين عُملة القوقاز الجديدة

من «قمة إلبروس» إلى «حافة الهاوية»... المغامرون يجربون قدراتهم على تحدي الخوف

TT

سياحة التحدي وتدفق الأدرينالين عُملة القوقاز الجديدة

كل من يزور منطقة القوقاز يستخلص أنها ليست بحاجة إلى مشروعات جديدة لجذب السياح؛ فهي تتوفر على كل مقومات السياحة، من طبيعة متنوعة، إلى معالم تاريخية مهمة على المستويين المحلي والعالمي. اللافت فيها حاليا أنها أصبحت وجهة مهمة لمن يريدون تجربة تختلف عن الرحلات التقليدية التي كانت تقتصر على زيارة الشواطئ والجبال أو المعالم الأثرية. فالتعامل مع السياحة تغير بشكل كبير في السنوات الأخيرة، لا سيما بالنسبة لجيل الألفية. ومن هنا برزت اهتمامات جديدة؛ على رأسها «سياحة المغامرات»... نوع من السياحة يجمع فيه السائح بين التمتع بجمال منطقة طبيعية ما، والاستفادة من تضاريسها ومعالمها وتفاصيلها الأخرى ليغوص في عالم التشويق والإثارة والمغامرات.

- مقدمة ما قبل «حافة الهاوية»
لهؤلاء تقدم منطقة القوقاز كل هذا وأكثر. فهي تتوفر على سلسلة جبال ترتفع قممها عاليا بحيث تكاد تعانق السماء، تحيط بها وديان سحيقة، بعضها تصعب رؤية قعره من الأعلى، وبعضها تخفيه السحب تماما. عبرها أيضا تتدفق مياه أنهر، تشق طريقها من ينابيع طبيعية على السفوح وبحيرات في سهول صغيرة أعلى الجبال الخضراء. وعند السفح ينفتح المشهد على سهول أخرى واسعة تغطيها طبقة من الأعشاب الخضراء، تتلون في الربيع والصيف بزهور ترتبط بالمنطقة. هنا كانت الشعوب قديما تتنقل بين الجبال بحثا عن المراعي، وفي الشتاء تعود مع قطعانها إلى السهول. ومع الوقت نشأت مجموعات من القرى على قمم الجبال، وبعضها يصعب تصور وجوده على حواف الوديان، لكن يُعرف عن قاطنيها إتقانهم السير على الحبال الممتدة فوق الوديان منذ الصغر، وهي مهارة يتوارثونها أباً عن جد، ويتقنها كبيرهم وصغيرهم، رجالا ونساء... فهي وسيلتهم لاختصار المسافات، والانتقال بسرعة إلى القرى المجاورة، بدلا من السير عبر الوديان والطرق الجبلية الوعرة ساعات طويلة، أو النهار كله في بعض الحالات لبلوغ تلك القرى.
من «قمة إلبروس» حتى
- «حافة الهاوية» في قبردين بلقاريا
عند الحديث عن المواقع السياحية في جمهورية قبردين بلقاريا (أو قبردينو بلقاريا) في روسيا الاتحادية، يشعر المرء بدوار لكثرة تلك المواقع وجمالها، تماما كما يصاب السائح بدوار وهو يستنشق الهواء النقي البارد في جبال القوقاز، وهو يتأمل الطبيعة التي تمتد على طول النظر... من أكثر المواقع التي تتضمن عنصري التشويق والإثارة في قبردين بلقاريا، جبل «إلبروس»، الذي يقع على حدودها مع جورجيا وجمهورية قرشاي. الجبل عبارة عن بركان خامد ضمن الأجزاء الغربية من سلسلة جبال القوقاز، وتُعد قمته الأعلى في روسيا وأوروبا، بارتفاع 5642 متراً عن سطح البحر، أي أعلى من قمة «مون بلان» الواقع في سويسرا. وتغطي الثلوج الكثيفة قمة «إلبروس» طيلة أيام السنة، ولذلك يجذب آلاف السياح من عشاق التزلج على الثلج سنويا، فضلا عن المغامرين الذين يتسابقون في مهارات التسلق على سفوحه للوصول إلى قمته. حاليا يشكل هؤلاء نسبة كبرى من زوار المنطقة التي تعد من أفضل المناطق في أوروبا للرياضات الشتوية بمختلف أنواعها.
«إلبروس» ليس مجرد منتجع سياحي شتوي لهواة التزلج، بل عالم فريد من نوعه... يستقبل ضيوفه عند السفح على سهول خضراء تشع بالحياة، ومنها تبدأ الرحلة نحو الأعلى؛ حيث استقرت بعض المنتجعات السياحية عند أكثر من نقطة في الطريق نحو القمة. بعضها تم تصميمه في مقاطع من الجبل مناسبة لممارسة رياضة التزلج على الثلج، للمحترفين والهواة على حد سواء، وبعضها الآخر عبارة عن منازل شتوية كبيرة، يعيش زوراها في عالم يخيم عليه الهدوء، ولا مكان فيه لضجيج المدن وازدحام المرور. فلا شيء يُعكر الصفو؛ بل العكس يحسن الحالة النفسية بفضل نسمات الهواء العليل التي تدخل الطمأنينة للروح، والهدوء شبه مطلق في المحيط الممتد بين القمة البيضاء دوما والسهول الخضراء، التي تطل على حواف مجموعة من الوديان، شقتها عبر العصور مياه الثلوج عند ذوبانها.
- مدينة تشيغيم
ليس ببعيد عن قمة «إلبروس»، وضمن سلسة جبال القوقاز ذاتها في قبردين بلقاريا، تنتظر السياح مغامرات مثيرة في مدينة تشيغيم، المطلة على واد يجتازه نهر يحمل الاسم نفسه. وبفضل تضاريسها، التي تتميز بسهول واسعة جدا تتدرج من أعلى قمم الجبال حتى الأسفل، فضلا عن انتشار الوديان حولها، وجد فيها عُشاق سياحة المغامرات ضالتهم. فهي مناسبة لممارسة هوايات مثل التحليق بواسطة المظلة، أو تسلق الجبال الوعرة والمنحدرات الصخرية، أو حتى العبور من قمة جبل لآخر سيراً على جسر من الحبال، يبدو كأنه سيتهاوى على وقع كل خطوة.
ولجذب مزيد من السياح في ظل التنافس السياحي العالمي، افتتح القائمون على «فلاي تشيغيم» وهو أكبر مجمع خدمات سياحية في المنطقة، مساراً جديداً، أطلق عليه البعض «مسار تدفق الأدرينالين». السبب أنه عبارة عن حبل يربط بين طرفي واحد من الوديان السحيقة في المنطقة، يمكن لمن تتوفر لديه الجرأة الكافية والخبرة بذلك، أن يسير عليه ليجتاز المسافة من حافة إلى أخرى على طرفي الوادي. طبعا يتم تنظيم مثل تلك النشاطات بعد توفير كل سُبل الأمان والحماية. ومن تلك الحواف ينطلق كذلك عشاق التحليق بواسطة المظلات أو الطائرات الشراعية بمختلف أنواعها. هذا فضلا عن القفز من حافة الوادي باتجاه الأسفل، أو السقوط من حافة الوادي، لكن بعد الربط بحبل يحول دون الارتطام بالمياه في النهر أسفل الوادي. فمع إدخال عوامل الجذب السياحي الجديدة، لم تفقد سفوح وقمم وتضاريس جبال ووديان وسهول سلسلة القوقاز جاذبيتها؛ بل أصبحت مصدرا لأجمل الانطباعات التي يمكن أن تبقى في ذاكرة كل زائر بغض النظر عما يحلم به وطبيعة الإجازة التي كان يتوقعها.
- معالم أثرية قديمة
لكن جدير بالذكر أن الطبيعة والمغامرات ليستا وحدهما ما يجذبان السياح إلى جبال القوقاز، ذلك أن المنطقة تتميز أيضاً بانتشار قلاع قديمة جدا وأبراج جبلية، كانت بمثابة حصون للدفاع عن المناطق السكنية في القدم، بينما كانت الأبراج تستخدم للمراقبة والإنذار. وتروي تلك الآثار تاريخ شعوب المنطقة عبر القرون، ونمط حياتهم اليومي، وخططهم الدفاعية، وكذلك تميز كل منهم بأسلوبه الخاص في فن العمارة.
وتقع كل تلك المجمعات السياحية بالقرب من مدينة نالتشيك عاصمة قبردين بلقاريا، ومدن أخرى كبيرة تتوفر فيها الفنادق من كل الفئات، والمطاعم التي تلبي جميع الأذواق. هذا فضلا عن فنادق ومجمعات سياحية ومراكز نقاهة علاجية تنتشر في المناطق السياحية ذاتها، وتوفر للسائح كل متطلباته. ومن يفضل الانصهار كليا مع الطبيعية، فما عليه إلا أن ينصب خيمة لا تفصله كثيراً عن سماء النهار الصافية، ولا عن نجوم الليل، وتبقيه أسير الهواء العليل.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».