11 سبتمبر... العيد الحركي لتنظيم «القاعدة»

الظواهري محاولاً بيع إرث بن لادن في أسواق العنف المزدحمة

الظواهري وابن لادن
الظواهري وابن لادن
TT

11 سبتمبر... العيد الحركي لتنظيم «القاعدة»

الظواهري وابن لادن
الظواهري وابن لادن

خرج أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، دون أن يفاجئ أحداً على مستوى التوقيت، فالكل مترقب؛ الأتباع والمناصرون ووسائل الإعلام والمحللون الاستراتيجيون، إذ جرت العادة أن يستثمر التنظيم الإرهابي مناسبة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، للتأكيد على تسيده المشهد العنفي، في سنوات خلت، ثم على بقائه على قيد الحياة إبان صعود تنظيم داعش، واليوم على وقع انكسارات الخلافة «الداعشية» تنبعث «القاعدة» مجدداً في مناطق متعددة، وتحاول أن تأتي بالجديد لملء الفراغ الذي سببه خفوت الصوت «الداعشي» وانحساره.

بعد سبعة عشر عاماً على «حدث الأحداث»، كما تحرص الولايات المتحدة أن تبقيه في صدارة الذاكرة الجمعية، باعتباره حدثاً كونياً، وبالجذوة والحماسة نفسها يحرص تنظيم القاعدة على إعادة الاعتبار لغزوته الأضخم في مسيرته الطويلة، وتحولاته من تنظيم جمع شتات العرب وميّزهم عن الأفغان إلى ابتلاع لتيارات جهادية مسلحة محلية، ثم لقاء بن لادن والظواهري، والاتفاق مع قادة عسكريين على تصدير الثورة «القاعدية»، وجعلها تياراً معولماً يستهدف جغرافيا العالم، ويعبر انتحاريوه الحدود ويتمركزون في شكل تنظيمات صغيرة ومعسكرات تجنيد في كل قارات العالم.
تنظيم القاعدة بعد رحيل بن لادن خسر رمزية الشخصية، ليعود الظواهري ويحقنها في الحدث (11 سبتمبر) ليتحول إلى ما يشبه العيد الحركي للتنظيم، كما هو الحال في أعياد مشابهة لتنظيمات راديكالية ثورية، لكنها سرعان ما تحيلها إلى أعياد استقلال وطنية، في حين أن تنظيم القاعدة يستلهمه كمحرك لإعادة شرعيته في الساحة العنفية «الجهادية»، خصوصاً في مناطق التوتر في العراق وسوريا التي ساهم بقاء تفجر الأوضاع فيها في ولادة تنظيمات عديدة محلية تحاول النأي عن «القاعدة» و«داعش»، كي لا تدخل بوابة الشهرة وهو ما يعني الاستهداف والتوصيف القانوني بالإرهاب. زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري يجتهد في تعويض كاريزما بن لادن وكلماته المرتجلة ذات التأثير النفسي البالغ على أنصاره، بأن يصور فيديوهات يقرأ فيها من شاشة أمامه، حيث تفضحه عيناه وهو يحاول التحديق في الكلمات، لكن محتوى هذه الكلمات، سنة بعد سنة، وبحسب وضعية تنظيم القاعدة على الأرض، يتصاعد على مستوى دقة الرسائل التي يوجهها ودخول شرائح جديدة من المستهدفين بخطابه، كما رأينا في هذا العام.
كلمة الظواهري هذه السنة، ربما كانت أهم كلماته وأكثرها تضميناً للرسائل المبطنة، فهو خطاب حركي نموذجي على مستوى اللغة بتقديم رسائل مزدوجة وإيصال رسائل متنوعة لشرائح مختلفة، إضافة إلى أنه بُني على استراتيجية واضحة في اختيار المفردات والخطاب، وهو ما يرقى به من مجرد خطاب ردة الفعل إلى خطاب تأسيس الفعل والتحريض على اتخاذ موقف، كما هو الحال في خطابات زعيم التنظيم السابق أسامة بن لادن، وإن كان الظواهري يفتقد الكثير من الرمزية والكاريزما على مستوى الإلقاء واللغة الجسدية.
الظواهري في خطاب هذه السنة استبدل ذكر أحداث 11 سبتمبر بالتذكير بالهجمات الأميركية على أفغانستان في استثمار لحالة التردي في الحالة الأفغانية، الذي ما زال مستمراً مع فشل في السيطرة على حركة طالبان، أو تقليم أظافرها، وجرها إلى طاولة الحوار.
وحين عرج على تحليل العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، لجأ إلى استخدام مفردات الخطاب الأصولي السياسي، مذكراً بصدام الحضارات، وأن الحرب دينية صليبية، وليست سياسية أو اقتصادية، وأنه يجب أن يتضافر الجميع حتى من لا يؤمن بـ«القاعدة» في التصدي لهذه الحملة الشرسة ضد الإسلام، حسب قوله، داعياً ولأول مرة زعماء المسلمين، وهي لفظة هجينة على خطاب «القاعدة»، الذي لا يعترف بشرعية أي دولة إسلامية، وربما هذا الإبهام هو محاولة لفتح باب التأويل تجاه تحول موقف «القاعدة» من إردوغان تحت ضغط الشعبية الكبيرة داخل الإسلام السياسي وجماعة «الإخوان» الأم الرؤوم لـ«القاعدة» والتنظيمات العنفية التي انشقت عنها، لا سيما أن إشارة الحرب الاقتصادية تحيل إلى تحليلات إسلاموية مجنحة تجاه أزمة «الليرة التركية».
في الخطاب ذاته، دعا الظواهري «المجاهدين» إلى الانتقال إلى شمال غربي أفريقيا، وليس أفغانستان، ولفظة «المجاهدين» عادة ما يشير بها الظواهري إلى شريحة «العائدين من أفغانستان»؛ هذه الشريحة التي تعتبر رأس مال «القاعدة»، بعد أن أخفقت في تجنيد الأجيال الجديدة من المتعاطفين مع التنظيمات الإرهابية، التي عادة ما تميل إلى منافس «القاعدة»، تنظيم داعش الأكثر وصولاً إلى هذه الفئة، عبر قدرته على الاستقطاب الرقمي، وقطيعته مع مفهوم «المرجعية» أو حتى رمزية قادة «الجهاد»، طلب الظواهري منها السفر إلى المنطقة الجديدة التي تستثمرها «القاعدة»، وهي شمال غربي أفريقيا بشكل أساسي.
اللافت في كلمة الظواهري أنه لم يتحدث عن أحداث سياسية، أو قضايا تحشيدية متصلة بنشاط تنظيم القاعدة في مناطق التوتر، أو التعليق على جديد الأزمات المتصلة بتلك المناطق في العراق وسوريا وشمال غربي أفريقيا، بل أشار إلى حدثين أساسيين لا يتماسان مع تأثير التنظيمات الإرهابية، وهما: أزمة نقل السفارة إلى القدس، وأزمة الروهينغا، ويعود ذلك في هذا التوقيت إلى استثمار كل الأحداث الساخنة التي تحظى بتعاطف عدد أكبر من الشرائح يتجاوز حتى العالم الإسلامي، باعتبار أنها مظالم؛ لكثيرٍ من الدول والأحزاب والجمعيات الحقوقية موقفٌ أخلاقيٌ وإنسانيٌ منها.
الظواهري، في كلمته، خالف السائد لدى تنظيم القاعدة من عدم التعرض لملالي طهران التي تحتضن قيادات التنظيم الشابة، ومنها نجل بن لادن، فقام بالهجوم على إيران عبر نقد مشروع الحوثيين باعتباره جزءاً من المشروع الصفوي، كما وصفه، لكنه عاد ليحمل الولايات المتحدة الأميركية السبب في بقاء الحوثيين في اليمن، وأنها تدعمهم رغم عداء الحوثيين لهم، وترديدهم «الموت لأميركا»، وأبعد من ذلك اعتبر أن الأزمة السورية هي أيضاً مخطط أميركي، وما إيران وروسيا و«حزب الله» إلا أدوات للمخطط الصليبي في المنطقة الذي تقوده أميركا حصراً. ورغم سذاجة مثل هذا التناول السياسي وسطحيته، لكن الظواهري وغيره من قيادات ومنظري «القاعدة» يصرّون عليه لأسباب استراتيجية تتصل بتركيز الاستهداف، وتوحيد الجهود ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، واعتبارهم عدوها الأول، كما أن توحيد منطق «الاستعداء» والتركيز على استهداف أميركا أكثر تأثيراً عند أنصار «القاعدة» وأجدى في استقطاب المقاتلين والكوادر الجديدة.
على مستوى اللغة، استخدم أيمن الظواهري، في كلمته المكتوبة والمعدة سلفاً، لغة مغايرة للغة «القاعدة» أو منافسه تنظيم داعش، فهو يبتعد عن العبارات اليقينية والحاسمة، ويحاول استخدام الأسلوب الحجاجي الفكري أو التحليلي، وتتكرر عبارات وأساليب غير مألوفة، فالعنوان يطرح سؤال: كيف نواجه أميركا؟ وفي المتن نعثر على عبارة «فهم طبيعة عداء الكفار».
خطاب الظواهري يعكس محاولة حثيثة منه لإبقاء جذوة «القاعدة» مشتعلة على مستوى الإعلام الذي يرى، كما قال ذات مرة، أن نصف معركة «المجاهدين» تكمن فيه، وهو بهذا التنقل بين القضايا والمواقف والرسائل المزدوجة واللغة ذات الطابع السياسي يريد أن يقدم تنظيم القاعدة ككيان مستقل له رأيه في الأحداث السياسية معلقاً وشارحاً ومحذراً، معتمداً على إرثه التاريخي الذي كانت ذروته تفجير برجي التجارة، في محاولة لبيع تلك الصورة التي ما زالت عالقة في الأذهان ودلالاتها المكثفة في سوق العنف المزدحم جداً بالتنظيمات ومناطق التوتر وبؤر الفوضى.


مقالات ذات صلة

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟