المعركة ضد الإرهاب العالمي لا تزال مشتعلة

بعد 17 عاماً من هجمات سبتمبر

قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
TT

المعركة ضد الإرهاب العالمي لا تزال مشتعلة

قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين

قبل سبع عشرة سنة هز الإرهاب الأسود أساسات الأمن والاستقرار العالميين، وذلك حين أقدم تنظيم القاعدة على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وضرب بجنون نيويورك وواشنطن. والشاهد أنه منذ ذلك التاريخ اشتعلت الحرب ضد الإرهاب، سواء من قبل الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، أو من بقية دول العالم. ورغم أن واشنطن شنت حربين كبريين في أفغانستان والعراق، والكثير من العمليات السرية، ومع أن غالبية دول العالم قد بلورت خططا كثيرة للتحدي والتصدي، إلا أن طاعون القرن الحادي والعشرين، متمثلاً في العنف والقتل، بات متجاوزاً للأنساق التي عاشت في القرن الماضي، وتركت إرثاً سيئاً للذي يليه متخطيا الحدود.
هل يحق لنا والحال هذه التساؤل هل نجح العالم أم أخفق في مواجهة الإرهاب الصاعد والأصوليات الخبيثة في العقدين الماضيين؟
ليكن الجواب من خلال الحقائق الأحدث، وصولاً إلى التحليلات، وفي المقدمة من هذه وتلك ما نشره زعيم تنظيم القاعدة في الوقت الراهن أيمن الظواهري، على هامش ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، من تسجيل مصور، يحث فيه أتباعه ومناصريه على شن هجمات أخرى على الولايات المتحدة الأميركية.
التسجيل الذي بلغت مدته 23 دقيقه، حث فيه الظواهري على إعلان حرب شاملة على أميركا، وتدمير اقتصادها وجيوشها، وواصفاً إياها بأنها «العدو الأول للمسلمين»، وخلال كلمته عدد الظواهري (14) نقطة عن الطريقة التي تخوض بها أميركا حروبها، في محاولة لتشجيع أتباعه على شن هجمات أخرى على واشنطن، ومضيفاً: «إخواني المسلمين، المعركة ضد أميركا أصبحت حتمية، فهي تضعنا أمام خيارين: إما شرف المواجهة بضراوة، أو الذل وقبول العار، ولن نقبل بحياة الذل بعون الله».
لم يتم سحق أو محق «القاعدة» بعد سبع عشرة سنة من الحرب الأميركية على عناصر تنظيمها في أفغانستان، وبقية دول العالم، فلا يزال الظواهري يتحدث وإن أعوزته كاريزما الخطاب الذي كان لبن لادن، فيما يشير أحد محللي شؤون الأمن القومي الأميركي «بيتر بيرغن»، والذي ينظر إليه كمرجعية في مطاردة الإرهاب، إلا أن «حمزة بن لادن»، في طريقه لأن يصبح زعيم الجيل القادم للقاعدة، ما يعني أن حلقات جديدة من الإرهاب في طريقها للظهور، ما يجعل العالم أقل أمناً وأماناً.
من رحم القاعدة المؤدلجة، خرج تنظيم أكثر توحشاً، في أعماله وأوسع رؤية في أهدافه، فكان تنظيم داعش، ورغم الهزائم الساحقة التي تعرض لها، إلا أنه في الأعم الأغلب، سيعود بشكل آخر... لماذا؟
هنا الكارثة وليست الحادثة، فلقد أصبح الإرهاب الجديد فكرة لها أجنحة تطير عبر وسائط الاتصال الحديثة، وتسخر التكنولوجيا المتقدمة لخدمتها، ولم يعد المشهد في حاجة لتراتبية تنظيمية، تستدعي إصدار بن لادن أوامره على سبيل المثال لخالد شيخ محمد، ومحمد عطا، لتنفيذ هجمات نيويورك وواشنطن.
نهار الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر الجاري كانت قناة «سي بي إس» الأميركية تستضيف مدير مكتب التحقيقات الاتحادية (إف بي آي) كريستوفر راي، والذي أقر بأن خطر الإرهاب أضحى يواجه العالم في كل مكان، ويمتد من الساحل إلى الساحل، ويخترق الكرة الأرضية من شرقها لغربها، ولم يعد مقتصراً على تهديد نيويورك فقط.
هل كان للحادي عشر من سبتمبر أن يتكرر من جديد خلال الأعوام الماضية؟ الثابت أنه كانت هناك محاولات دؤوبة ومستمرة من قبلي التنظيمات الإرهابية لتكرار الحدث، بل إن الخوف والرعب الأكثر هولا لدى الأجهزة الأمنية حول العالم، يتمثل في احتمالات حيازة تلك الجماعات أسلحة تدمير شاملة سواء نووية أو كيماوية، ورغم أن الكثير جداً من العمليات تم إبطالها إلا أن بعض المذابح البشرية، جرت بها المقادير، أميركياً، وأوروبياً، وعربياً.
وربما كان من الجائز أن يوقع الإرهاب ضحايا أكثر لولا الاكتشاف المسبق للكثير من العمليات الإرهابية، وإلقاء القبض على عدد وافر من الإرهابيين.
يشير كريستوفر راي، في حواره المتلفز المتقدم إلى أنه خلال العام الماضي وحده نفذ مكتب التحقيقات 120 حالة اعتقال تتعلق بالإرهاب، فضلاً عن إجراء الأجهزة الأمنية ما يقرب من خمسة آلاف تحقيق مع عدد من المتطرفين بينهم ألف من المواطنين المحليين.
لم يكن المشاهدون أميركياً وعالمياً يدرون بأن الحادي عشر من سبتمبر كاد أن يتكرر لسبب أو لآخر في الداخل الأميركي، فقد تم إحباط مخطط للهجوم على إحدى المناطق المكتظة بالأسواق في مدينة سان فرانسيسكو، بولاية كاليفورنيا، كان له أن يوقع عدة مئات من الضحايا، إضافة إلى مركز تسوق في مدينة ميامي السياحية بولاية فلوريدا.
أكثر من ذلك، فقد أدت يقظة الأجهزة الأمنية الأميركية إلى قطع الطريق على عمليات تجنيد وحشد كانت تقوم بها طالبة جامعية في ولاية مينيسوتا الأميركية، لحث زملائها في الصف الدراسي للالتحاق بتنظيم القاعدة، وحركة الشباب التي تتخذ من الصومال مقراً لها.
على أن القارعة التي يتحدث به الركبان هذه الأيام، هي الإرهاب الذي يمكن أن يضرب الفضاء السيبراني، ويوماً تلو الآخر تتكشف المجالات التي تعمل فيها الجماعات الإرهابية، عبر العالم الرقمي والإلكتروني، وبعيداً عن الوجوه المرئية، ما يعني إرهاب الأشباح، وهذا خطر أشد هولا، إذ يمكن للإرهابيين الولوج عبر الشبكات الإلكترونية والتلاعب بالبنى التحتية للدول، كشبكات الكهرباء والمياه، الطرق والمواصلات، الموانئ والمطارات، أما الكارثة فهي القدرة على اختراق الشبكات العسكرية، وقواعد الصواريخ، والمطارات الحربية، وأنظمة تسيير السفن والأساطيل، وجميعها اليوم باتت تتحكم فيها أجهزة استشعار لا سلكية وفضائية عن بعد.
هل يمكن القطع بأن إرهاب الحادي عشر من سبتمبر كان نسخة أولية غير مطورة عما هو حادث الآن حول العالم وبعد عقدين من الذكرى الأليمة تقريباً؟
الجواب يقتضي نظرة أكثر شمولية لكافة مناحي الحياة، والحقيقة تقتضي الإقرار بأن عقدين تغيرت فيهما أشكال الإرهاب المحتمل إلى الأخطر، في حين بقيت القوى المقاومة والمطاردة والولايات المتحدة الأميركية في مقدمها تتعامل مع الإرهاب والإرهابيين عبر المقاربات التقليدية، ومن دون إعادة قراءة للأسباب التي تدفع في طريق ارتكاب المزيد من الأعمال الإرهابية، وفي مقدمتها الخلط الواضح والفاضح بين ما هو ديني وما هو دنيوي... ماذا نعني بذلك الحديث؟
باختصار غير مخل يمكننا الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من أخطاء إدارة الرئيس الأميركي الأسبق «جورج ووكر بوش» في محاربته للإرهاب سيما بعد أحداث الثلاثاء الأسود، يعود إلى الخطاب السياسي والإعلامي الذي تناول به القضية، فعشية تلك الهجمات النكراء، كان بوش الابن يستحضر أشباحا وأرواحا لواحدة من أسوأ الحقب التاريخية بين الشرق والغرب التاريخي، وقبل أن تظهر القارة الأميركية على مسار الأحداث، حقبة الحروب الصليبية، وقد ذهب إلى تقسيم العالم تقسيماً مانوياً بين الذين معنا والذين علينا، أو دار السلم ودار الحرب.
كانت لغة خطاب بوش كارثية ولا شك، وربما زخمت العناصر المتطرفة والإرهابية بالمزيد من الوقود اللازم لإشعال الفتنة، وتعميق الشرخ الاجتماعي والديني، واستقطاب مزيد من العناصر التابعة للقاعدة في المستقبل.
لا ينكر المرء أن التاريخ لا يمكنه أن يكرر ذاته، لأنه لو فعل كما قال كارل ماركس لأضحى في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة، لكن رغم ذلك فإن هناك بعض الأحداث تاريخياً تتشابه، ولا يتنبه للأمر إلا الذين يجيدون قراءة الأزمنة، ويحسنون مقاربات التاريخ.
جل القصد هنا الإشارة إلى بعض من الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تلك التي استهل بها رئاسته الأولى، عندما منع دخول مواطني عدة دول، هي في مجملها دول إسلامية، وذلك بحجة توفير المزيد من الأمن لمواطني أميركا، وكأنه يضرب سوراً حول البلاد والعباد، في حين أن الموازنة بين الأمن والحريات الشخصية لا تمضي على هذا النحو بالمرة، ما وفر فرصة خبيثة لأولئك المعروفين باسم «الذئاب المنفردة» لإحداث خسائر في الأرواح الأميركية، لم تكن أجهزة الدولة برمتها قادرة على منعها، انطلاقاً من أنه لا يمكن بحال من الأحوال التفتيش في النفوس والعقول، ومعرفة خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قبل عشرة أيام من فوزه برئاسة الولايات المتحدة الأميركية تحدث المرشح الديمقراطي باراك أوباما بالقول: «إن الولايات المتحدة الأميركية لن تنجح في هزيمة شبكات إرهابية تنشط في أكثر من ثمانين دولة عبر احتلالها العراق».
توقع العالم برمته أن أوباما القادم من بعيد، والذي يمثل «بوتقة الانصهار» الأميركية، سوف يقدر له أن يعيد الأمور إلى نصابها، وهو القريب فكرياً وأيديولوجيا من المجتمعات الشرقية والإسلامية، وقد استبشر الجميع به بالفعل.
لكن حصاد الحقل، كان مخالفاً طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً عن حساب البيدر، فخلال سنوات أوباما الثماني ربما عاشت جماعات الإسلام السياسي، والتي اعتبرت ولا تزال الحاضنة الأكبر والأهم لجماعات الإرهاب السياسي، أفضل أيام حياتها، وبعضها وصل مقاعد السلطة بدرجة أو أخرى من التواطؤ الأميركي المشبوه، لولا يقظة بعض شعوب المنطقة، وفي مقدمتها الشعب المصري الذي رفض إرهاب الإخوان المسلمين.
هل أخطأت الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، وباتت تلك الأخطاء مسارب تنفذ منها جماعات جديدة إرهابية تجعل نهار العالم قلقا وليله أرقا؟
يكاد المرء يقطع بأن الرئيس بوش الابن قد استعمل في هش الذباب، مطارق فولاذية تصلح لتفتيت الصخور، وفاته أن الإرهاب أفكار تطير عبر أجنحة الأثير.
ومن بوش الابن إلى ترمب، يمكن القطع والعهدة هنا على ورقة بحثية نشرتها مجلة الفورين بوليسي الأميركية ذائعة الصيت قبل فترة أشارت إلى أن العالم أصبح أقل أمناً عما كان عليه قبل عقدين من الزمن، بل إن 80 في المائة من الأميركيين باتوا يتوقعون هجمة قوية جديدة على بلادهم... ترى ما السبب؟
عند البروفسورة آن ماري، والتي شغلت من قبل عميدة جامعة برنستون الأميركية العريقة «إننا نخسر الحرب على الإرهاب لأننا نتعامل مع العرض وليس مع الأسباب الجوهرية وراء المرض».
هل شخصت السيدة آن ماري جزءا من الإشكالية الحقيقية التي تكسب مزيدا من الإرهابيين أرضاً واسعة لأعمال إرهابهم؟
لقد فعلت ذلك حين كشفت عن إصرار البعض في الداخل الأميركي إحلال الإسلام محل الشيوعية كعدو للغرب ما يغذي رؤية القاعدة و«داعش» وغيرهما، ومما يزيد من الدعم الذي يقدم لهما، ويدفع الكثيرين في نفس الوقت من خانة الاعتدال إلى خانة التطرف.
صوت أميركي آخر يوضح أن هناك عطبا كبيرا في مواجهة الإرهاب منذ ذلك الوقت المحزن، هو صوت آلان كوهين، الخبير الأميركي السابق في قسم مكافحة الاستخبارات الأجنبية، والذي يشير إلى أن مشروع الحرب على الإرهاب، على النحو الذي قادته بلاده منذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى الآن، كان مشروعاً فاسداً، ذلك أن شن الحرب على الإرهاب أشبه ما يكون بشن الحرب على الغضب، وأنت لا تشن الحرب على الإرهاب بل على البشر.
يمكننا أن نتساءل في نهاية هذه السطور هل مقاومة الإرهاب هي فعل عسكري فقط أم طرح عقلاني أحياناً يحتاج إلى دعم عملياتي على الأرض؟
أقرب الأجوبة للصواب أن مقاومة الإرهاب والقضاء عليه يتطلبان منظومة متكاملة، لا توجه لجانب على حساب الآخر فحسب، فالعمليات العسكرية ضد المتمردين والإرهابيين هي أعمال أساسية ولا بد منها لإطفاء الحرائق المشتعلة، لكن الانتصار في الحرب على الإرهاب، هو فعل طويل المدى، والانتصار في معركة الأفكار هو المهدد الأول والحقيقي للإرهاب في حاضرات أيامنا.
مجابهة أيديولوجيات الإرهاب والتطرف تحتاج إلى حلول تقدم على أسس وركائز عقلانية وإيمانية واجتماعية، وتسعى لإحقاق العدالة، وإنصاف المظلومين، وإغلاق الملفات البكائية التاريخية، وهذا جهد جهيد، وأول ما يتطلب نوايا صادقة، لا تلاعب على المتناقضات، أي تسخير تلك الجماعات لخدمة الأهداف الاستراتيجية الكبرى لدول بعينها تترقب اللحظة الحاسمة لبسط سيادتها على الأرض ومن فيها.
الشرق والغرب مدعوان هذه الأيام للتفكير خارج الصندوق في المحددات والمهددات التي تجعل من الحياة البشرية رؤية غير يقينية ومسيرة غير آمنة، ولهذا إن لم يتركا وراءهما سوية نظريات الصدام، ويسعيان لعهود من الوفاق الأممي، سيبقى الإرهاب وحشاً أسطورياً، خلف الباب متشوقاً لالتهام المزيد من الضحايا الأبرياء.


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.