أعلن الرئيسان الروسي والصيني، فلاديمير بوتين وشي جينبينغ، أن بلديهما ينويان استخدام عملتيهما في عمليات التبادل التجاري والاستثماري بينهما. وقال بوتين، على هامش اجتماعات عقدها مع نظيره الصيني في فلاديفوستوك أول من أمس، إن ذلك سيساعد على استقرار خدمات النظام المصرفي الخاصة بالاستيراد والتصدير بين البلدين في مواجهة حالة اللااستقرار والمخاطر التي تسود الأسواق العالمية حالياً، لا سيما النزاعات الناشئة عن سياسات الحمائية التجارية التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية.
وذكر بوتين أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين بلغ 87 مليار دولار في 2017، ويتوقع أن يصل إلى 100 مليار دولار في 2018، علما بأن ذلك لا يشكل أكثر من 0.4 في المائة من التجارة الدولية التي يسعر نصفها بالدولار الأميركي. أما الرئيس الصيني فقال إن على البلدين العمل معاً لمواجهة الحمائية المستجدة والوقوف بوجه المقاربات الأحادية للمشكلات العالمية.
يأتي ذلك الإعلان في وقت تتوسع فيه دوائر وقوع استخدام الدولار خارج الولايات المتحدة تحت طائلة القوانين الأميركية، لا سيما منها الخاصة بتطبيق العقوبات. فأي جهة أو شركة أجنبية تستخدم الدولار معرضة لمساءلة أو محاسبة إذا لم تحترم القانون الأميركي، خاصة العقوبات التي تقر بين الحين والآخر ضد هذا الطرف أو ذاك. فهناك عقوبات أميركية وأوروبية قاسية ضد روسيا بدأ تطبيقها منذ عام 2014 عندما انفجرت الأزمة مع الجارة أوكرانيا، وأخرى ضد إيران، فضلاً عن الأزمة الناشئة بين أميركا وتركيا، وغيرها من النزاعات التي تدخل فيها الولايات المتحدة طرفاً بقوة لـ«تأديب» المخالفين من وجهة نظرها.
ويذكر أن هناك دولاً عديدة تحاول هي الأخرى وضع حد لـ«سلطة» الدولار في عملياتها التجارية. وهذا ما أعلنته تركيا بداية سبتمبر (أيلول) الحالي عندما طرحت مع روسيا التخلي عن العملة الأميركية في المعاملات التجارية بينهما. وعبرت إيران عن رغبة مماثلة مؤخراً للمبادلات التجارية بينها وبين العراق ودول أخرى. وكانت روسيا أشارت في مايو (أيار) الماضي إلى أنها تدرس اعتماد اليورو في معاملاتها التجارية الخارجية إذا وقف الاتحاد الأوروبي معها لمواجهة العقوبات الأميركية التي تتعرض لها موسكو.
لكن المحاولات الجدية لنزع صفة الهيمنة عن الدولار تأتي من الصين وروسيا، بدليل مواصلتهما الاستثمار بشكل كثيف في شراء الذهب لمراكمته كبديل محتمل عن الاحتياطيات بالدولار، فالبلدان الآن يستحوذان لوحدهما على 10 في المائة من إجمالي الذهب المتاح في العالم.
وأكدت مصادر مصرفية دولية أن خيارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاقتصادية على المستوى العالمي سيكون لها «تداعيات ما» على الدولار، لا سيما خيار الحرب التجارية مع الصين فضلاً عن التوسع في فرض عقوبات ذات اليمين وذات الشمال. فالصين كثاني قوة اقتصادية عالمية بعد الولايات المتحدة والراغبة في الوصول إلى المركز الأول، ولو بعد حين، باتت مصممة أكثر على عدم الانصياع، وستواصل البحث عن كيفية الخروج من عباءة الدولار في تعاملاتها التجارية العالمية كما في استثماراتها الدولية.
وتشير المصادر عينها إلى أن السياسات العدائية التي يعتمدها ترمب يمكن أن تؤثر سلباً في الدولار في المديين المتوسط والطويل، لأن دولاً ستفتش عن بدائل. فالصين أقنعت روسيا سابقا بأن تدفع لها ثمن الغاز المستورد منها باليوان، كما تحاول بكين ربط شراء النفط بعملتها الوطنية، إذ أطلقت بداية عام 2018 سوقاً آجلة لتجارة النفط في شنغهاي على أن يبدأ التسعير باليوان. وإذا نجحت هذه المحاولة ستنسحب على تجارة مواد أولية أخرى.
إلى ذلك تضاف محاولات دول أخرى للالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، مثل الهند التي تتجه لاستيراد النفط الإيراني مقابل سلع أخرى.
- لماذا يظل الدولار قويا؟
ورغم كل تلك الإرهاصات، يبقى الدولار مهيمناً على نحو 64 في المائة من احتياطيات البنوك المركزية حول العالم من العملات الأجنبية، مقابل 20 في المائة باليورو و4.5 في المائة بالين و4.4 في المائة بالجنيه الإسترليني و7.5 في المائة بالفرنك السويسري والدولار الأسترالي والدولار الكندي واليوان الصيني وعملات أخرى. لذا ترغب معظم الدول في التعامل بالعملة الأميركية لأن ذلك يؤمن لها احتياطيات تحتاجها للدفاع عن عملاتها الوطنية ولتغطية صادراتها حتى باتت 50 في المائة من التجارة الدولية تتم بالعملة الخضراء. وهناك دول مثل كوريا الجنوبية تسعر 80 في المائة من صادراتها بالدولار، علماً بأن الولايات المتحدة لا تشكل أكثر من 20 في المائة من صادراتها.
وحول العالم حالياً نحو 580 مليار دولار خارج الولايات المتحدة، وهذا يمثل 65 في المائة من الإجمالي المطبوع والمتداول، لأن الدولار يشكل العملة الأساسية للاستيراد والتصدير لا سيما النفط الذي هو العصب الرئيس للاقتصاد العالمي، ومن هنا أتى تعبير البترودولار، وينسحب ذلك على القطن والذرة والمعادن الثمينة، مرورا بمعظم السلع والمواد الأخرى. وأدى ذلك إلى ربط عملات عدد كبير من الدول المصدرة للنفط والمواد الأولية بالصرف الأميركي، ويبلغ ناتج تلك الدول ثلث الناتج العالمي.
أما على صعيد الصرف وتداول العملات دولياً، فيشكل الدولار بشكل مباشر وغير مباشر 85 في المائة من الإجمالي. إلى ذلك فإن 40 في المائة من الديون العالمية مصدرة بالدولار، ما يعني أن البنوك الدولية تطلب الدولار دائما لتسيير أعمالها وتسويق خدماتها.
ويلفت المصرفيون إلى ما يشبه «الطرفة» في هيمنة الدولار حتى على التعاملات غير المشروعة التي يحصل معظمها بالعملة الخضراء، مثل تجارة المخدرات، والتهريب من كل نوع، وتمويل المافيات والإرهاب وغسل الأموال، وطلب الفديات والأتاوات يحصل بالدولار أيضاً، وفي ذلك أكبر دليل برأي المصرفيين على أنها العملة الأكثر أماناً في العالم، ليس بنظر العالم النظيف؛ بل حتى العصابات والمجرمين أيضاً!!. كما أن هيمنة الدولار انعكست على مجالات أخرى مثل شيوع استخدام اللغة الإنجليزية في عالم البيزنس أولاً، ثم في عوالم الاستهلاك والثقافة ومعظم المناحي الأخرى.
وحده اليوان قد يشكل بديلاً بعد حين، لأن الاقتصاد الصيني ينافس الأميركي بقوة، لذا بدأت بعض البنوك المركزية أخذ العملة الصينية كجزء ولو يسير في احتياطياتها، لكن يبقى اليوان الصيني صغيرا جدا أمام الدولار على الرغم من قوة وحجم الاقتصاد الصيني وانفتاحه على العالم والتأثير فيه.
- من أين تأتي قوة العملة؟
ويشرح اقتصاديون كيف تصبح العملة قوية ومطلوبة عالمياً، إذ هناك عدة شروط. أولاً أن يكون الاقتصاد قوياً وكبيراً، وهذا حال الاقتصاد الصيني. ويجب أن يوحي الثقة، وهذا ما يسعى الرئيس شي جينبينغ إلى ترسيخه، ويقدم للعالم أصولاً يتداولها بعملته وديوناً للاكتتاب في إصداراتها. فالاحتياطيات ليست من دولارات أو يوروهات صافية بل هي عملياً ديون بالدولار واليورو.
فإذا كانت بكين اتخذت إجراءات لتسهيل شراء الأجانب من إصدارات ديونها، إلا أن العرض يبقى قليلا ومحدودا في هذا المجال، ولا يساوي إجماليه العام والخاص أكثر من 60 في المائة من الناتج، وهو ممسوك في معظمه من صينيين. لذا فإن عملية تحول اليوان إلى احتياطي عالمي مسألة تحتاج إلى وقت طويل جدا بنظر الاقتصاديين.
في المقابل، فإن الدين الأميركي العام فقط، أي سندات الخزانة، حجمه 15 تريليون دولار، علماً بأن البنك المركزي الصيني هو أكبر مكتتب عالمي بالسندات الأميركية (نحو 1.2 تريليون دولار) التي تعتبر آمنة وسهلة التسييل في الأسواق وتتمتع بطلب دائم عليها. واليابان التي هي ثالث قوة اقتصادية عالمية تؤمن بالدولار أيضاً وتكتتب في السندات الأميركية بأكثر من تريليون دولار.
أما اليورو، وبعد 17 سنة على وجوده، فلم يستطع بعد زحزحة الدولار عن عرشه، فمقابل سوق الدولار وديونه هناك 17 سوقاً أوروبية للديون على الأقل بجودة متفاوتة تنعكس اختلافا كبيرا في الفوائد والمخاطر، وتستمر تداعيات أزمة الديون السيادية الأوروبية التي اندلعت في 2011 حتى اليوم، بعدما أضعفت الثقة باليورو كعملة عالمية بديلة عن الدولار. فبعدما كان اليورو يشكل 26 في المائة من الاحتياطيات العالمية، هبط في 2014 إلى 19 في المائة، وعاد منذ ذلك الحين ليرتفع قليلاً وببطء شديد. في حين أن الأزمة العالمية التي اندلعت مع الرهون العقارية الأميركية وإفلاس بنك «ليمان برازرذ» الأميركي لم تؤثر في مكانة الدولار من حيث الطلب عليه، لا سيما لتكوين احتياطيات في البنوك المركزية واستخدامه في المعاملات التجارية الدولية.
- متى تتغير قواعد القوة؟
هل ما سبق يعني أن العملة الأميركية ستبقى مهيمنة إلى الأبد؟ الإجابة تكمن في سرعة تطور وانفتاح الصين، وخصوصا تقدم التنين ليكون أول قوة اقتصادية في العالم، لكن هيمنة عملة ما على الاحتياطيات الدولية والتجارة العالمية قد لا تناسب دولة اقتصادها موجه مثل الصين، التي تحرص دائما على مراقبة التدفقات المالية منها وإليها وفقا لمنظور خاص بطبيعة اقتصادها، علاوة على أن سعر الصرف سيتأثر بعوامل غير داخلية أحياناً خصوصا بقرارات بنوك مركزية أجنبية، كما سيتعلق الصرف بصدمات الثقة التي تنشأ من أزمات اقتصادية وجيوسياسية قد تندلع هنا وهناك، وهذا ما قد لا تقبله لنفسها بكين بعد حالياً.
أما في المديين المتوسط والطويل، فيؤكد المصرفيون أن الأمر ممكن.. خصوصا إذا نجح مشروع الحزام والطريق الذي يربط الصين بنحو 60 بلداً، وبذلك المشروع قد تنجح الصين في فرض نموذج عولمة مختلفاً عن ذلك الذي أنتجته السياسات الغربية عموماً والأميركية خصوصاً منذ القرن الماضي.
ويذكر أن مسيرة صعود الدولار إلى السدة العالمية بدأت منذ مرحلة الحرب العالمية الأولى، وترسخ ذلك منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا منذ اتفاق «برايتن وودز» في 1944، عندما اجتمعت الدول المتقدمة لربط عملاتها كليا أو جزئيا بالعملة الأميركية التي كانت مدعومة ومغطاة بالذهب الذي تملك منه الولايات المتحدة أكبر مخزون عالمي، وبدلاً من مراكمة الذهب، فضلت تلك الدول اعتماد الدولار كسند ظهر آمن. ثم تأسس صندوق النقد والبنك الدوليين لرعاية هذا النظام، وظهرت الولايات المتحدة كأكبر قوة داعمة وراء هاتين المؤسستين.
وفي بداية السبعينات من القرن الماضي، ومع اشتعال التضخم حول العالم، عادت الدول لطلب الذهب للتغطية. وخوفاً من استنفاد المخزون، قرر الرئيس الأميركي آنذاك فك ارتباط الدولار بالمعدن الأصفر، وهو يعلم أن العملة الأميركية باتت العملة المهيمنة على الاحتياطي العالمي والتجارة الدولية، وأن باستطاعة الولايات المتحدة طباعة الدولار كما تشاء من دون خوف من هبوط قيمته، لأن الولايات المتحدة كرست تفوقها العسكري والاقتصادي والثقافي - وحتى الحضاري - في العالم الذي انبرت لقيادته بعمل حثيث كان بدأ منذ مائة عام، وقد يستمر مائة عام أخرى بحسب تقديرات المؤيدين بقوة للقيم الأميركية.. وما أكثرهم حول العالم.