أزمة قلبية تغيّب مطرب «الراي» الجزائري رشيد طه

استفز العنصريين حين غنى لـ«فرنسا الناعمة» التي نشأ فيها

من إحدى حفلاته في باريس عام 1999 (غيتي)
من إحدى حفلاته في باريس عام 1999 (غيتي)
TT

أزمة قلبية تغيّب مطرب «الراي» الجزائري رشيد طه

من إحدى حفلاته في باريس عام 1999 (غيتي)
من إحدى حفلاته في باريس عام 1999 (غيتي)

عن 59 عاماً، توقف قلب واحد من أكثر مطربي موسيقى «الراي» شعبية في فرنسا والمغرب العربي. وأودت أزمة مباغتة بحياة المغني الجزائري رشيد طه، في ساعة مبكرة من صباح أمس، حسبما أعلنت عائلته. وكان طه قد عرف الشهرة عندما استعاد أغنية المطرب العجوز شارل ترينيه: «فرنسا الناعمة بلد طفولتي» وأداها بأسلوب جديد مع فريق غنائي حمل اسم «بطاقة إقامة»، ضم مجموعة من أبناء المهاجرين في ثمانينات القرن الماضي. ونعت عائلة رشيد طه، المؤلفة من ولده إلياس وأقربائه، في بيان نشرته أمس، المغني المولود في بلدة قرب وهران، والذي فارق الحياة وهو نائم، في بيته بضاحية «ليلا» شرق باريس.
عرف طه بتأدية أنواع مختلفة من الموسيقى، منها «الراي» و«الروك» و«الشعبي» و«التكنو» و«البانك». وعرف كيف يمزج بين تراث البلد الذي جاء منه أبواه وبين الإيحاءات الجديدة التي تشبع بها في بلد الهجرة وبرع في استلهامها. ورغم أنه ترك الجزائر في سن مبكرة ونشأ في مقاطعة الألزاس، شرق فرنسا، ودرس في مدرسة للراهبات، فإنه حرص على تعلم اللغة العربية الفصحى قراءة وكتابة، وكان في صباه مغرماً بالموسيقى المشرقية الطربية وبأغنيات السيدة أم كلثوم.
درس الشاب المهاجر المحاسبة وتنقل بين وظائف كثيرة صغيرة قبل أن يستقر في مدينة ليون حيث أصبح عاملاً في مصنع «تيرمكس». وفي تلك المدينة الجنوبية تعرف على شقيقين يتحدران مثله من أسرة مهاجرة، هما محمد ومختار أميني، ونجح الثلاثة في تأليف فريق غنائي اكتمل، عام 1981، بانضمام الفرنسي جيروم سافي إليهم.
ولفتت أغاني الفريق اهتمام وسائل الإعلام لأنها كانت ذات روح إيجابية، تدعو للتسامح وللتصالح مع المجتمع الجديد. وشارك رشيد طه في «مسيرة المساواة»، وهي مبادرة شهيرة قام بها آلاف الشبان والفتيات للدعوة للسلام ونبذ العنصرية، وانطلقت من باريس في اتجاه مرسيليا، سيراً على الأقدام، ونالت تغطية إعلامية واسعة. وفي تلك الفترة افتتح المغني الصاعد نادياً ليلياً في ليون، وكان هناك من الزبائن من يقصده للاستماع إلى أغنية «فرنسا الناعمة» التي ظهرت عام 1943، لأول مرة، بصوت شارل ترينيه وعُدّت نشيداً يرفع معنويات الفرنسيين الواقعين تحت الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية. وقد رأى بعضهم أن استعارة الشاب «الغريب» تلك الأغنية نوع من الاستفزاز، في حين عدّها آخرون تحية للبلد الذي استقبلهم.
بعد حلّ الفريق، واصل رشيد طه مسيرته مطرباً منفرداً، وأصدر عام 1991 أول أسطوانة له بعنوان «باربيس»، وهو اسم أشهر حي للمهاجرين العرب والأفارقة في باريس. ثم جاءت أسطوانته الثانية «ديوان» التي قدم فيها أغنيته «يا رايح وين مسافر»، وهي من تراث المغني الشعبي دحمان الحراشي، وكانت كفيلة بأن تحقق له شهرة عالمية. كما أعاد تقديم أغنيات معروفة لمطربين جزائريين قدماء ولفريق «ناس الغيوان» المغربي. وتكلل نجاحه بتصديه لتقديم أغنيات للمطربة الشيخة الرميتي التي عدّها واحدة من أهم ملهميه. وفي العام ذاته، 1998، تشارك مع زميليه الشاب خالد وفوضيل في تقديم أسطوانة «1، 2، 3، سولاي»، وضمت أغنية «عبد القادر يا بو علام» التي تصدرت مبيعات الأغاني لفترة طويلة، وما زالت تقدم على المسارح وفي الأعراس ومن الإذاعات حتى اليوم.
الصوت الحنون للمغني الجزائري الأصل وصل حتى الولايات المتحدة الأميركية. وقد أعاد تقديم أغنية «روك القصبة» للمغني مايك جونز الذي أبدى إعجابه برشيد طه، وأعلن أنه أدى الأغنية أفضل منه. بعد ذلك نجح النجم التلفزيوني المصري الأصل، ناجي، في أن يجمع طه وجونز في إحدى حلقات برنامجه «تاراتاتا» كي يشتركا في تأدية الأغنية.
في 2008، ظهر رشيد طه على الشاشة بطلاً لفيلم قصير بعنوان: «هناك حيث يتجه تفكيري»، في سلسلة من الأفلام عن مشاهير المغنين، أنتجتها محطة «كانال بلوس» الخاصة. وهي السنة التي نشر فيها المغني مذكراته التي صدرت لدى «منشورات فلاماريون» ذائعة الصيت. وفي المذكرات كشف أنه متصالح مع فرنسا، بلد الهجرة، لكنه لم يرغب بطلب جنسيتها احتراماً لذكرى عمه الذي استشهد في حرب التحرير الجزائرية. وحتى سنواته الأخيرة ظل رشيد طه محتفظاً بجنسية وطنه الأم.
واصل المغني إطلاق أسطوانات تستلهم التراث الموسيقي العربي، لا سيما أغنيات أم كلثوم، كما أدى بعض أشهر أغنيات ملك «الروك» الأميركي ألفيس بريسلي، وأحاط نفسه بمجموعة جديدة من العازفين، وساهم في وضع الموسيقى لأفلام صديقه المخرج كنزي بوراس. في 2016 حصل على جائزة «فيكتوار» الموسيقية الرفيعة عن مجمل مسيرته الفنية. وفي السنة الماضية تشارك مع رفيقه رودلف برغر في تشكيل فريق غنائي جديد باسم «كوسكوس كلان» ومن خلاله قدم حفلاً خاصاً تحية لذكرى ملهمه ومعلمه دحمان الحراشي المتوفى سنة 1980.
يرحل رشيد طه قبل احتفاله بعيد مولده الستين، تاركاً أسطوانة كان يخطط لطرحها في العام المقبل، حسبما أعلن منتجه في شركة «بليف» للموسيقى، معرباً عن حزنه الكبير لانطفاء صديقه.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».