توهان عقلي واضطهاد «ما بعد حداثي»

رواية بول أوستر «رحلات في حجرة الكتابة» بترجمة عربية

بول أوستر
بول أوستر
TT

توهان عقلي واضطهاد «ما بعد حداثي»

بول أوستر
بول أوستر

عن «منشورات المتوسط» بميلانو، إيطاليا، صدرت ترجمة عربية لرواية «رحلات في حجرة الكتابة» للروائي والشاعر الأميركي بول أوستر، ترجمها اللبناني سامر أبو هواش ترجمة تخلو من شوائب الترجمة الحرفية. ويُعَد أوستر واحداً من علامات الأدب الأميركي المعاصر، وكثيراً ما تتصدر رواياته قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في العالم الغربي، رغم أن أعماله تتناول غالباً شخصيات مركبة، مفرطة في الغرابة، تعاني من العزلة والغبن.
نزيل «حجرة الكتابة» شيخ منزوٍ يُدعى السيد «بلانك» (وتعني «فارغاً»، والأرجح أن المقصود هو توهان العقل، وليس فراغه). تبدو غرفته كعنبر في سجن أو مستشفى. وسرعان ما يتكشف لنا أن الرجل جاهلٌ بتاريخه ومآله، ويختلط عليه زمانه ومكانه: مَن هو؟ وماذا يفعل هنا؟ متى جاء؟ وإلى متى سيبقى في هذه الحالة؟ إنها أسئلة وجودية حتمية لرجل معزول، بعقل كما المتاهة، وذاكرة معيبة حتى إنه يخْلق خريطة لغوية للغرفة من خلال وضع ملصقات تعريفية على أثاثها كيلا يخلط بين قطعه.
لا تطأ قدما بلانك عتبة الحجرة، فيتساءل إن كان بابها موصداً من الخارج أم الداخل. وبكسل العجوز منطفئ الذاكرة والراضي برهاب الاحتجاز، لا يستطيع تبين حقيقة الأمر!
والحقيقة، إن أغلب روايات أوستر تمس، بطريقة أو بأخرى، غرفة موحشة ما. كانت «الغرفة الموصدة» عنوانَ الجزء الأخير من سلسلته الشهيرة «ثلاثية نيويورك». وفي هذا العمل، يكتشف السارد أن الغرفة موجودة «داخل جمجمته!» بطل آخر اسمه بلو يشعر وكأن قدَراً حكم عليه بالمكوث في حجرة وقراءة كتاب حتى نهاية حياته، «كيف يخْرج من غرفة ما هي إلا كتاب ستتواصل كتابتُه طيلة بقائه في هذه الغرفة؟!».
يرتاب بلانك، بطل «رحلات في غرفة الكتابة»، في محل إقامته. يتصور أنه هو في بلد آخر غير أميركا، «خطفه عملاء سريون يعملون لدى دولة أجنبية». وفي انتهاك أخلاقي واضح، ثُبِّتت في السقف الشبيه «بصفحة خالية من الورق» كاميرات مراقبة لتمسي بديلاً بوليسياً عن الراوي العليم في الأدب التقليدي.
حتى أنفاسه تسمعها آلة تسجيل وتوثِّق كل ما يقع. وانسجاماً مع ما يقر به بلانك من إحساس عاتٍ بالذنب، يتضح لنا أن جميع زواره ناجون من مؤامراته ضدهم. لم يكن السيد بلانك ملاكاً أو ضحية، بل أقرب إلى مجرم حرب أو جاسوس خائن. ولعل كيفية معاملة السلطات لأمثاله السؤال الأخلاقي الأوحد الذي تطرحه هذه الرواية. يقول، «أعرف مدى سهولة تشويه الحقائق بكلمة واحدة، تهمس للأذن الخطأ. اطعن في شخصية رجل، وكل شيء يفعله هذا الرجل يبدو خفياً، مشكوكاً به، مزيّفاً، وله دوافع مزدوجة».\
ولأن الرواية تنتمي إلى أحاجي ما بعد الحداثة، لا أحد من الزوار يفضي بسر حبس بلانك أو بمخرَج لأزمته، «سوف يفصح الوقت عن كل شيء!»، وهكذا يلقي الراوي بالتلميحات هنا وهناك، فلا يتبقى لنا إلا تخمين قصده كواجب منزلي مفروض علينا. وفي المقابل، يفرد لنفسه مهمة واحدة يلخصها في التالي: دارسة الصور بدقة والامتناع عن التوصل إلى أي استنتاجات!
أجل، لا يلهي الرجل إلا أكداس من الصور والأوراق التي تضمر متاهة من القصص والشخصيات. ورغم ابتذال هذا الأسلوب المطروق بكثرة في «تعشيش» الحكايات، يطوي النصُ سلسلة شيقة من الألاعيب المحيرة في شبكة لا نهائية من أسماء الكتاب وهوياتهم. ثمة مخطوطة على المكتب بقلم «ن.ر.فانشاو»، وهو اسم المؤلف في رواية أوستر «الغرفة الموصدة»، وأرملته كانت واحدة من زوار بلانك. هل السيد بلانك هو «فانشاو» بعد أن أفقدته السلطات ذاكرته؟ هل توحي الرواية بأن «فانشو» هو في الحقيقة مصدر إلهام بول أوستر؟
يطرح بلانك مخطوطة الرواية أرضاً، وملامحه تشي بالتقزز، لإحساسه بالإحباط من رداءة حبكتها، وربما لجمود لغتها وموضوعيتها أيضاً. ولا عجب، فقد وصفها السرد بـ«التقرير» في نهاية المطاف. تتناول المخطوطة سيرة سيغموند غراف الذي سُرِّح برتبة ملازم بعد أن عمل في المخابرات العسكرية. عاني صنوفاً غير مبررة من التعذيب بتهمة خيانة الوطن.
يتساءل بلانك، «هل غراف هو أنا؟» والرد حاضر على الورق، «لا، هي مجرد قصة من نسخ خيال كاتب اسمه جون تراوز». وتراوز يستدعي شخصية تحْمل الاسم نفسه برواية أوستر «ليلة التنبؤ». كذلك يعترف بلانك لآنا بلوم، حبيبته السابقة: «لقد اقترفتُ بحقكِ شيئاً فظيعاً، لا أعرف ما هو، لكنه فظيع». وفي الذهن تتردد أصداء رواية أوستر «في بلاد الأشياء الأخيرة»، وبطلتها الفتاة البرجوازية آنا بلوم.
أين هي الرحلات إذن في تلك الغرفة الشبيهة بالسجن؟ لا يحط بلانك شرقاً أو غرباً. الرحلة خاضها في الخيال على الورق، وإن انغلقت على ذاتها دون مساس بالواقع، في أكوان غرائبية احتجزها في عقله أو بين إِشارات مرجعية إلى شخصيات أوستر الأدبية الذي يتوقع منا في نرجسية خالصة أن نكون على علم بها.
أهو حب للذات من أوستر ينم عن استعراض؟ أم إفلاس ينكفئ على الماضي؟ أم ربما استرجاع حميد يشفع له إثراء النص عبر تردد الشخوص الأدبية بين الحاضر والماضي، تقاطعها حيناً وتجاورها حيناً آخر؟ قد يفسر لنا الكاتب كوين من رواية أوستر «مدينة الزجاج» طوية المؤلف، «لم تكن علاقة القصص التي يكتبها بالعالم هي ما يثير اهتمامه، وإنما علاقتها بالقصص الأخرى».
تنتهي الرواية ببلانك وهو يفتح تقريراً آخر عنوانه «رحلات في حجرة الكتابة» ثم يطالع الصفحات نفسها التي قرأناها في بداية روايتنا هذه. وعندئذ فقط، تكتمل دائرة تعشُّقنا في حياة السيد بلانك، «نحن الأخيلة الملفقة لعقل آخر».
أخيلة تنبع أبديتها من تقيُّدها بسطور وخطوط حبر. كتبها صاحب تكنيك لعوب لتغدو نهائية في ذاتها رغم ما قد يشوب ابتكارها من مصادفات. ولكن بمجرد إبداعها، لا خلاص لها ولا مهرب، «تُروى قصصها دوماً حتى بعد موتها».
قصص لم تتشكل \ في غرفة عادية، وإنما كتبها جسدٌ ينفر من الاقتراب من المخرج الوحيد لمحبسه، يحمل عقلاً مضطرباً في غرفة بأحد الأديرة، عقل يصبو إلى كتابات بيكيت وكافكا ما بعد الحداثية.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.