صورة الأب الإنجليزي كما ترسمها ابنته نصف العراقية

رافق قوات بلاده البريطانية إلى العراق بعيد الحرب العالمية الأولى

صورة الأب الإنجليزي كما ترسمها ابنته نصف العراقية
TT

صورة الأب الإنجليزي كما ترسمها ابنته نصف العراقية

صورة الأب الإنجليزي كما ترسمها ابنته نصف العراقية

في كتابها «تلك البلاد... العراق في رسائل ما بين الحربين العالميتين»، الذي صدرت أخيراً طبعته الثالثة عن دار «شهريار»، البصرة، تقتفي الباحثة، نصف العراقية، إميلي (أو أمل) بورتر، خطوات أبيها الضابط الإنجليزي المهندس سيرل بورتر، الذي رافق قوات بلاده البريطانية وهي تحتل العراق بُعيد الحرب العالمية الأولى، عبر البصرة، لترسم صورته، بعد بحث أرشيفي مضنٍ، عبر رسائله التي تبادلها مع شقيقته دورا، المقيمة في الهند، وهو ينقل لها تفاصيل حياته العراقية، بين البصرة وبغداد والموصل وكركوك، ملامساً حياة السكان المحليين بديلاً عن أبناء جلدته وزملائه البريطانيين، معبراً عن محبة دافئة للعراقيين، متعلماً لغتهم حتى الإتقان، إضافة للغتين الأردية والكردية، من دون أن يخفي ولعه بالنساء والطعام، ناقلاً بعين الآخر، المختلف، وحساسيته المدهشة إزاء ما يراه ويلمسه ويحسه في حياة سكان البلد الغريب، ملتقطاً أصغر الصور والأشياء وأدقها، التي قد تغيب حتى عن المواطن العراقي نفسه.
إذا كانت رسائل الأب إلى شقيقته، وهي بمثابة أمه، تكشف الكثير عن «بطل» ذاك الزمان، فإن مقدمة الابنة المترجمة لكتاب الرسائل جاءت لتضفي على تلك الرسائل حرارة البحث والتشويق وأسئلة الابنة عن والدها «الغامض» و«المتناقض» الدؤوب والمتفاني في عمله (شق الطرق وصناعة الكهرباء ورسام خرائط مع الجيش البريطاني) لتمهيد الطريق «لقواتنا» كما يذكر في أكثر من موضع، وهو المعارض، في الوقت نفسه، لسياسة بلاده الخارجية في الهند والشرق الأوسط، بل المتبرم بالسياسة برمتها! ويقول، في مكان آخر، من رسائله: «كرهت عملي وقدمت استقالتي». وهو المتردد أيضاً: «عرض عليَّ عمل في معسكر لقواتنا في الحبانية ولا أدري إن كنت سأقبله أم لا».
في إحدى رسائله يخبر شقيقته دورا: «بمساعدة العوامة التي طورناها استطعنا التقدم بهذه السرعة، وربما أشارك مع مجموعة الضباط الآخرين في خلق فكرة هندسية جديدة تكون عاملاً لكسب الحرب».
في رسالة سابقة، ومثلها أخريات، يعلن موقفه ضد الحرب، وبرمه بالسياسة ورفضه لتدخلات بلاده في مناطق بعيدة، هو القائل أيضاً: «هذه الأمة (يقصد العراق) هل ستولد بكامل نضجها، وهل سندعها تنمو وتقف على أقدامها أم إننا سنظل عكازاتها».
في أوائل سطور مقدمتها تقول الابنة المترجمة: «شخصية والدي وموقعه الفريد في بلد غريب وكل ظروف حياته، كانت دائماً تثير في العجب والاستغراب. لم أفهمه، أبداً، رغم أنني كنت المقربة منه. كان دائماً لغزاً محيّراً لي رغم بساطته (…) مظهره الوسيم، إتقانه لعدة لغات آسيوية، صمته المطبق عند التساؤلات الحرجة وثرثرته التي لا حدود لها في أوقات البهجة والفرح».
بورتر، الابنة المترجمة، كتبت بأسلوب السهل الممتنع، وكأنها تجاري أسلوب أبيها، المركز والدقيق والبعيد عن البلاغة والزخرفة اللغويتين. مع أنها اقتفت آثار أبيها الموشكة على الاندراس، والبحث عن ذلك «الأب الغامض»، إلا أنها كانت تبحث عن نفسها، أيضاً، في الأوراق شبه التالفة. (ثمة سطور في الرسائل لا تمكن قراءتها)، كما تقول.
تقول الابنة المترجمة: «هجرتي القسرية الطوعية من العراق، والألم الذي كنت أعيشه، داخل العراق، خلال مراحل تقلباته السياسية والتناقضات الاجتماعية التي لا يوازيها تناقض، دفعاني إلى التقصي والبحث عن نفسي. إنها رحلة إلى الداخل، إلى أعماقي وأعماق البلد الذي نشأت فيه، وأخذت أسأل نفسي: أين هو ولائي؟ ثقافياً، أنا عربية إنجليزية، حضارياً، أنا عالمية أنتمي لكل حضارة على هذه المنبسطة، لكن هل في نفسي ميل إقليمي؟ ويا ترى ما الإقليمية؟ ولم كنت تعيسة في العراق وأنا محاطة بكل الحب والحنان العائلي؟ وهل أنا سعيدة هنا (في لندن) وأنا محرومة تماماً من ظلال العائلة الكبيرة؟ وماذا يعني لي المجتمع الذي أعيشه؟» وأسئلة كثيرة غيرها، بشأن مسقط الرأس والاغتراب والحنين وازدواج الهوية وحيرة الأزقة العراقية الضيقة والأمكنة المتشابكة. لكن، هل ترجمت الابنة المترجمة كلَّ ما جاء في رسائل والدها العائلية؟
لا شك في أن مثل هذه الرسائل تخضع لمقتضيات الخصوصية، وربما الأسرار العائلية، عدا ما مر عليها من زمن طويل اختلفت فيه الحياة ومفاهيمها وتقاليدها وسائر ما أحدثه التطور المذهل في تقنيات العلم والسياسة والأخلاق أيضاً ونسبية الصح والغلط.
تجيب الابنة المترجمة بوضوح وصراحة: «والدي يبوح بالكثير، لكنني تربيت على عدم البوح، لذا لم أترجم ما أخشى البوح به ولو بالترجمة، وعن والدي».
هذا أمر طبيعي، فنصف الابنة العراقي العربي يقف حاجزاً أمام طلاقة التعبير والبوح، على وفق نسبية الأخلاق، أو اختلاف الثقافة، مع الوالد الإنجليزي الذي تربى على شجاعة الشفافية في وطنه، إذا لم نقل إن ثمة اختلاف الثقافة برمتها، قبل كل شيء.
يشير السيد سيرل إلى مفارقات عديدة، منها أن خراف العراقيين تسير خلف الراعي بخلاف خرافهم الإنجليزية التي تسير أمام الراعي. هل مجرد مفارقة بريئة، أم إنها ذات معنى خاص وترميزي؟
حياة السيد سيرل تسير بشكل جيد رغم الأزمات، رغم حصار قواتهم في الكوت، حيث دفعوا أكثر من خمسة آلاف قتيل. الوضع السياسي مضطرب جداً لكن أمور السيد سيرل تسير على ما يرام حتى أنه يفكر في العمل كقطاع خاص. وفي الوقت ذلك، تعرف على عوائل عراقية مسيحية وتزوج منها. كتاب إيميلي بورتر مشوق كرواية ليست استشراقية، ذلك أن الضابط الإنجليزي المهندس، سيرل بورتر، لم يكن من هواة الآثار وغير معني بالماضي، أبداً، وليست له طموحات سياسية، فهو ضد السياسة برمتها، إنما هو كتاب يكشف حياة بلد اسمه «بين النهرين» قبل أن تترسم حدوده الدولية لاحقاً ليكون العراق، وإن كان هذا الكشف عبر رسائل عائلية يتبادلها ضابط إنجليزي، غامض ودرامي، مع شقيقته، بكل ما تضمنه من تناقضات شخصية في مواقفه من وظيفته وقوات بلده المحتلة وعواطفه الدافئة تجاه أهل العراق.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»
TT

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها «نص مخادع وذكي وكوميدي». ومنذ صدورها عام 1922 تحولت إلى أحد أكثر الكتب مبيعاً واقتُبست للمسرح والإذاعة والسينما مرات عديدة.

تتناول الرواية التي قامت بترجمتها إيناس التركي قصة 4 نساء بريطانيات مختلفات تماماً هربن من كآبة لندن بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى قلعة إيطالية ساحرة في الريفيرا الإيطالية ليقضين إجازة الربيع. وبعد أن تهدهن روح البحر الأبيض المتوسط يتغيرن تدريجياً ويكتشفن الانسجام الذي تاقت إليه كل منهن، ولكن لم يعرفنه قط.

وتجيب الرواية بشكل مقنع عن السؤال الأبدي حول كيفية تحقيق السعادة في الحياة من خلال مفارقات الصداقة بين النساء والتمكين والحب المتجدد والعشق غير المتوقع. وصفتها صحيفة «الديلي تلغراف» بأنها «على مستوى ما، قد تُعد الرواية هروباً من الواقع، ولكن على مستوى آخر فهي مثال لتحرر الروح»، بينما رأت صحيفة «ميل أون صنداي» أنها تتضمن «وصفاً حسياً حالماً لأمجاد الربيع الإيطالي».

وتُعد إليزابيث فون أرنيم (1866-1941) إحدى أبرز الكاتبات الإنجليزيات واسمها الحقيقي ماري أنيت بوشامب، وهي ابنة عم الكاتبة كاثرين مانسيفيلد. ولدت في أستراليا لعائلة ثرية وتزوجت أرستقراطياً ألمانياً حفيداً للملك فريدرش فيلهلم الأول، ملك بروسيا، واستقرت مع زوجها في عزبة عائلته في بوميرانيا حيث ربيا 5 أطفال.

بعد وفاة زوجها كانت على علاقة عاطفية مع الكاتب المعروف هـ. ج. ويلز لمدة 3 سنوات، لكنها تزوجت بعدها فرانك راسل الأخ الأكبر للفيلسوف الحائز جائزة نوبل برتراند راسل لمدة 3 سنوات ثم انفصلا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية انتقلت للإقامة في الولايات المتحدة حتى توفيت. زواجها الأول جعل لقبها «الكونتيسة فون أرنيم شلاجنتين»، أما زواجها الثاني فجعل اسمها إليزابيث راسل.

نشرت روايتها الأولى باسم مستعار ولكن مع النجاح الكبير لكتبها استخدمت اسم «إليزابيث فون أرنيم». أصدرت أكثر من 20 كتاباً وتُعد روايتها «أبريل الساحر» التي نُشرت عام 1922 من أكثر الكتب مبيعاً في كل من إنجلترا والولايات المتحدة ومن أحب أعمالها إلى القراء وأكثرها شهرة.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«بدأ الأمر في نادٍ نسائي في لندن بعد ظهيرة أحد أيام فبراير، نادٍ غير مريح وبعد ظهيرة بائسة عندما أتت السيدة ويلكنز من هامبستيد للتسوق وتناولت الغداء في ناديها. التقطت صحيفة (التايمز) من على الطاولة في غرفة التدخين وجرت بعينيها الخاملتين أسفل عمود مشكلات القراء ورأت الآتي:

(إلى أولئك الذين يقدرون الشمس المشرقة، قلعة إيطالية صغيرة من العصور الوسطى على شواطئ البحر الأبيض المتوسط للإيجار، مفروشة لشهر أبريل (نيسان) سوف يبقى الخدم الضروريون).

كانت هذه بداية الفكرة، ومع ذلك كما هو الحال بالنسبة إلى عديد من الأشخاص الآخرين، لم تكن صاحبتها على دراية بذلك في تلك اللحظة.

لم تكن السيدة ويلكنز مدركة قط أن كيفية قضائها شهر أبريل في ذلك العام قد تقررت في التو والحال إلى درجة أنها أسقطت الصحيفة بحركة غلب عليها الانزعاج والاستسلام في الوقت نفسه، وتوجهت نحو النافذة وحدقت في كآبة الشارع الذي تقطر به الأمطار».