«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي: داكوتا جونسون: يهمني أولاً أن يكون دوري بمثابة فرصة لتأكيد موهبتي

واثقة من خطواتها وسعيدة بحضور المهرجان الإيطالي للمرة الأولى

داكوتا جونسون ممثّلة وعارضة أزياء أميركية
داكوتا جونسون ممثّلة وعارضة أزياء أميركية
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي: داكوتا جونسون: يهمني أولاً أن يكون دوري بمثابة فرصة لتأكيد موهبتي

داكوتا جونسون ممثّلة وعارضة أزياء أميركية
داكوتا جونسون ممثّلة وعارضة أزياء أميركية

دور داكوتا جونسون في فيلم «سوسبيريا» ليس دوراً هيّناً بالمرّة. ليس لأنّها لا تحبّ أفلام الرّعب كثيراً فقط، بل لأن مشاهد الرّقص كانت متعبة وطويلة. تؤدّي في هذا الفيلم المشترك بمسابقة مهرجان فنيسيا، دور فتاة أميركية بريئة تصل إلى أكاديمية لتعليم رقص الباليه في برلين المنقسمة على نفسها. تُقبل وتبدأ دورات التدريب وتنجح بالتدريج في تبوؤ القيادة بالنسبة لاستعراض سيجري تقديمه.
لكن الأكاديمية ليست سوى غطاء لما هو مخفي وما على القارئ إلّا أن يسعى لمشاهدة الفيلم لمعرفة ما هو. أمّا الآن فإن اللقاء مع بطلة الفيلم سيتشعب ما بين «سوسبيريا» و«ظلال من الرّمادي» ورأيها في مسيرتها الفنية وكيف نشأت وفي فمها ملعقة التمثيل.
ذلك أنّها ابنة الممثل دون جونسون والممثلة ميلاني غريفيث. جدتها ليست سوى تيبي هدرن، نجمة الستينات التي لعبت بطولة فيلم رعب آخر آنذاك هو «طيور» لسيد التشويق ألفرد هيتشكوك. داكوتا ولدت في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1989 ومثّلت مع والدتها لأول مرة في «مجنون في ألاباما». ثم توارت نحو عشر سنوات قبل أن تعود ممثلة محترفة بفيلم «سوشال نتوورك» سنة 2010.

> من السهل أن يتخيّل المرء صعوبة تنفيذ مشاهد رقص الباليه بالنسبة لأي ممثلة؟ هل كانت تلك المشاهد صعبة بالفعل؟
- لم تكن سهلة. اشتغلنا على تصميمها بعناية من ثمّ التدرب عليها لفترة شهرين تقريباً. كان هناك فنانون حقيقيون يعرفون تفاصيل رقص الباليه وساعدونا كثيراً. أقصد أنا والممثلات الأخريات أيضاً.
> لا بد أنّ نصيبك من هذه التدريبات كان أكبر، كونك بطلة الفيلم.
- صحيح. ومع الاعتراف بأنّ كل الاستعراضات التي قدّمناها كانت صعبة إلّا أنّ ما قمت به كان أساسيا. أخبرني لوكا (غواداغنينو المخرج) بأنّ ضبط التفاصيل ليس خياراً بل ضرورة، وسعيت بجدّية بالغة أن أنجح في هذا الدور لأنّني مؤمنة به وبالسيناريو وأحببت العمل مع لوكا كثيراً. أحياناً كنت أكمل التدريبات لوحدي، لكنّني شعرت بالثّقة أكثر مع وجود مدربين ومدربات.
> أعتقد أن خلفيتك الفنية لم تتضمن الرّقص. أي نوع من الرقص.
- لا. أتيت عبر فن مختلف لأنّني كنت عارضة أزياء، وهو أمر مختلف تماماً عن رقص الباليه أو أي رقص آخر.
> والداك ممثّلان معروفان، أي دور لهما في توجهك للتمثيل؟ هل اتخذت هذا القرار تبعاً لذلك؟
- لم أتخذ القرار تبعاً لرغبتهما في أن أصبح ممثلة. لقد تركا الخيار لي واتخذته من تلقاء نفسي. لكنّهما ساعداني في التوجيه الفني. كذلك في رفع معنوياتي في البداية. كنت أتخيّل، بسذاجة إلى حد كبير، أنّ الوصول إلى البطولة هو أمر سريع لأنّني ممثلة جيدة كما أخبرني كل من عملت معهم. لكنّ الفرص لا تتوالى من تلقاء نفسها. والدي أخبرني عن بداياته وكم كانت صعبة وكيف كان عليه التحلي بالصبر وانتظار كل فرصة على حدة ومحاولة بناء شيء على أساسها. ووالدتي لها حكايات شبيهة. ليس هناك شيء سهل في التمثيل أو في السينما عموماً. في أي حقل.
> عندما كنت صغيرة محاطة بأبوين ممثلين وجدتك هي تيبي هدرن، بطلة فيلم «الطيور» لألفرد هيتشكوك، هل شعرت بأنّك محاطة بعائلة من الفنانين أو أنّ ذلك الإدراك يأتي لاحقاً وأنت شابة؟
- نعم شعرت بذلك وأنا ما زلت صغيرة. كان مستحيلاً ألا يكون الجو في البيت غير مرتبط برغبتي المبكرة في أن أصبح ممثلة.
> هل زرت مواقع تصوير كثيرة؟
- بالطبع. معظم أوقات عطلتي قضيتها متنقلة إمّا مع والدتي أو مع والدي إلى مواقع التصوير. هذا زاد من رغبتي في أن أمثّل. وضعت ذلك نصب عيني منذ ذلك الحين.
> أعود إلى «سوسبيريا»... هل شاهدت الفيلم السابق؟
- نعم. شاهدته وأخافني لأنّي في الحقيقة لا أحبّ أفلام الرّعب ولا أشاهدها. أعرف عنها لكنّني لا أعرفها، إذا كنت تفهم ما أقصد. لكن كان علي أن أشاهد نسخة (داريو) أرجنتو لكي أتأكد من أن الفيلم الجديد مختلف.
> كيف تتأكدين من ذلك؟
- كنت قرأت سيناريو النسخة الحالية قبل أن أشاهد الفيلم السّابق وكنت أخشى أن يكون السيناريو الحالي مجرد اقتباس كامل للفيلم السابق، لكنّني لاحظت الاختلافات الكثيرة بين الفيلمين. حقيقة أنّ «سوسبيريا» أخافني، أعتقد أنّها شهادة على نجاحه، لكن كما أعرف أنّك رأيت، يختلف الفيلمان عن بعضهما البعض كثيراً.
> عندما تقولين ذلك يتراءى لي أنّك أشحت النظر عن بعض المشاهد التي وردت في الفيلم الأول مثل مشهد موت سارا عندما سقطت في وسط الأسلاك وكلّما حاولت الخلاص منها وجدت نفسها محاطة بها.
- هو بالفعل مشهد مخيف وخرجت من الفيلم معجبة به وبالمخرج وأنوي مشاهدة المزيد من أفلامه إذا ما سنحت لي الفرصة. لكن، وكما قلت لك، كانت سعادتي كبيرة في أنّي شخصياً لا أتعرض لمشاد عنيفة كالتي تتعرض لها شخصيات أخرى في الفيلم الحديث.
> لكن إذا ما كانت أفلام الرعب غير مريحة لك، لماذا قبلت تمثيل هذا الفيلم؟
- لأن «سوسبيريا» بالكاد فيلم رعب. نعم فيه أجواء من هذا النوع، لكنّه يدور حول شخصية فتاة تحبّ الرّقص وتكتشف نفسها من جديد في بيئة فنية. أعتبره فيلماً فنياً وليس فيلم رعب على الرّغم من وجود مشاهد مخيفة أو هكذا يمكن للبعض النظر إليها.
> مثلت ثلاث حلقات من فيلم Shades of Grey وهي ثلاثة أفلام ذات مشاهد عاطفية ساخنة. لكن أحد زملائي قال لي إنّك فتاة محافظة أساساً، وهذا ما أعتقد، يعني أنّ تمثيل تلك المشاهد كان أصعب مما يعتقد البعض. هل هذا صحيح؟
- نعم صحيح. أنا فتاة محافظة. ليس بالمعنى الصارم للكلمة لكني بمعنى أنني لست من النوع المتحرر كثيراً. لا أعتبر نفسي نموذجية لمثل هذه الأدوار ولا أنوي القيام بها لمجرد اللهو. لذلك كانت أصعب مما توقعت.
> من الصعب على الجمهور أن يعرف إذا ما كان تمثيل مثل هذه المشاهد أمرا صعبا…
- معظم المشاهدين يعتقدون أنّ هذه المشاهد سهلة وعادية. هي بالتأكيد ليست كذلك بالنسبة لي. وبعض المشاهد كانت أصعب من سواها. أفكّر في أحد مشاهد الجزء الثالث عندما رُبطت يداي وقدماي ووضعت عصبة على عينيّ. اكتشفت سريعاً أنّه مهما اعتقدت أنّي جاهزة لتمثيل هذا المشهد إلّا أنّ وقت التصوير هو شيء آخر غير سار بالمرة. طبعاً ليس هناك شيء حقيقي على الإطلاق بالنسبة للمشاهد الجنسية. كل شيء مفتعل ويجري بالتواري ولو بدا غير ذلك، لكنّ الصّعوبة تكمن في كيف يمكن أن تمثّل أنك مستمتع بينما أنت أبعد ما تكون مستمتعاً على الإطلاق.
> في زمن مضى كانت هذه الأفلام مقصداً لممثلات الإغراء، كما كانوا يسمون مارلين مونرو أو صوفيا لورين في إيطاليا أو جين مانفسيلد. لكن ما تقومين به مختلف.
- مختلف كثيراً. لكن هل ترى ممثلات جيّدات كاللواتي ذكرت أسماءهن؟ هذه الأدوار ليست لي لكنّي أقدر تلك الأفلام الكوميدية والعاطفية لأنّها كانت مسلية وهي بالفعل صنعت نجومها على أساس ما فيها من أدوار. قل لي إذا كنت على خطأ حين أقول إنها كانت للترفيه العام الذي لا يذهب إلى حدود قصوى.
> كانت كذلك بالفعل نتيجة اختلاف الأزمنة، كما أرى. هل تكترثين لنوعية الفيلم من نواح فنية معينة؟ أو هل تعتقدين أنّ هذه الثلاثية التي وجدت رواجاً كبيراً في السوق تحمل قيمة فنية ما؟
- لا. ليس هذا ما أفكر فيه عندما أشاهد فيلما انتهيت من تمثيله. لا أفكر فيما إذا كان عملاً فنياً كبيراً أو لا. أعتقد أنّني لم أمثل بعد فيلماً رديئاً، وهذا ربما ليس عن تخطيط مسبق بقدر ما هو ناتج عن ثقة بالمشاريع التي تعرض عليّ. أنا ممثلة وكممثلة يهمني أولاً أن يكون الدور الذي أقوم به بمثابة فرصة لتأكيد مهارتي وموهبتي. وأن يمنحني نافذة أطلّ منها على الجمهور.
لذلك نعم أكترث لنوعية الفيلم لكنّ ثقتي بالمشروع وبالدور الذي أقوم به تأتيان بالمرتبة الأولى.
> بعض الأفلام التي تقومين بها تؤثر عليك أكثر من سواها. هل هذا صحيح؟
- النجاح هو الذي يترك تأثيراً أكبر. إذا لم ينجح الفيلم بين المشاهدين لا أشعر بأنني أنجزت شيئا يذكر على الرّغم من إيماني بالعمل.
> هل تشاهدين أفلامك فيما بعد؟
- أشاهدها مرّة واحدة وأنساها بعد ذلك.
> هل تشاهدين أفلام سواك من الممثلين أو الممثلات؟
- أشاهد الكثير من الأفلام ولا أهتم بمن يقوم ببطولتها. الحقيقة هي أنّني في أيام كثيرة أعيش وحيدة. أنتهي من فيلم وأستعد لآخر، ولكن هناك شهر أو أكثر بين الفيلمين. خلال هذه الفترة أشاهد الكثير من الأفلام وأقرأ الكثير من الكتب أيضاً. أنا قارئة شغوفة.
> «سوسبيريا» يتيح لك حضور مهرجان عالمي أول مثل فنيسيا. أود لو أعرف منك كيف تنظرين إلى هذا الحدث مقارنة مع مهرجانات أميركية توجهت إليها؟ كيف تشعرين حيال جمهور عالمي وفي مواجهة نحو ألف صحافي وناقد؟
- سؤالك سهل وصعب. سهل، لأنّي أعرف تماماً كم أنا مستمتعة بوجودي في مهرجان فينيسيا وبعرض الفيلم واستقباله. أنظر إلى هذا المهرجان كما لو كان قمّة المناسبات، ربما لجانب الأوسكار أو الغولدن غلوبس أو على مسافة قريبة منهما. لكن من الصّعب وصف شعوري وأنا في هذا المحيط من الجمهور ومن النّقاد. في أميركا تعلم أنّك أمام أهل البيت وتقدر ترحيب الجمهور بك. في إيطاليا وربما في مهرجانات أخرى تجد نفسك أمام جمهور بثقافة مختلفة وإذا ما أحبّ الفيلم الذي تقوم بتمثيله وهو من ثقافة مختلفة، فإنّ ذلك يضاعف السّعادة التي تشعر بها. أنا الآن في وضع المستمتع بوجوده هنا، وسأحمل ذكريات عديدة حين أعود.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)