{تل أبيب على نار} فيلم فلسطيني ـ إسرائيلي

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي: {مولد نجمة}... قنبلة انفجرت اسمها غاغا

لقطة من «سوسبيريا»: سوزي سترقص
لقطة من «سوسبيريا»: سوزي سترقص
TT

{تل أبيب على نار} فيلم فلسطيني ـ إسرائيلي

لقطة من «سوسبيريا»: سوزي سترقص
لقطة من «سوسبيريا»: سوزي سترقص

لا يمكن الوصول إلى ليدي غاغا وإجراء حديث معها. يمكن وضع اسمك على قائمة الصحافيين الذين يريدون مقابلتها، لكن بالنظر إلى أعداد الراغبين بإجراء مقابلة وقبول بعضهم بأن ينخرطوا في حلقات تتألف من خمسة إلى ستة أشخاص، فإن الاحتمال بمقابلة (منفردة) قليل جداً... «هذا إذا ما عادت عن قرارها السابق بعدم إجراء أي مقابلة» كما تخبرني المسؤولة الصحافية لدى الشركة المنتجة أمازون، من ثم تعد خيراً بابتسامة عريضة وتمضي.
إنها حديث اليومين الماضيين لكونها امرأة بالغة الشهرة، كما بسبب عرض فيلم «مولد نجمة» الذي تؤدي دور البطولة فيه، وهو الفيلم الأول لبرادلي كوبر مخرجاً مع سام إليوت وديف شابيل وبوني سومرفيل من بين آخرين.
غاغا تتلألأ على الشاشة. لديها موهبة الحضور وموهبة التمثيل. ليس التمثيل الذي أجادته جانيت غاينور في النسخة الأولى من الفيلم سنة 1937، لكن على نحو ينتمي إلى عصرنا الحالي حيث الجمال يطغى على ما سواه.
بعد نسخة 1937 التي أخرجها ويليام أ. ولمان حُققت نسختان أخريان قبل النسخة الحالية. هناك نُسخ أخرى غير هوليوودية كون الحبكة لا تحتاج إلى كثير من الجهد للعب عليها: فنان ناجح يتعرف على فنانة ناشئة. يقعان في الحب. لكن، تبعاً لظروف مختلفة، هو يتراجع وينضوي وهي ترتفع وتصبح نجمة.
الفيلم الجديد يلتصق بالأصل: برادلي كوبر يلعب دور الآفل وغاغا تؤدي دور المولودة نجمة. والفيلم مجير لها بينما ينزوي هو في أحد جوانبه، مما يمنحه فرصة أفضل على تحقيق ذاته مخرجاً. وهو يحقق عملاً جيد الصنعة والتنفيذ على أكثر من صعيد ومحدود النتائج في جوانب أخرى.
ما طغى، بطبيعة حال العروض، هو الأفلام الأخرى المنافسة لينتقل الحديث من غاغا إلى آخرين بينهم المخرج البريطاني مايك لي الذي قدم هنا فيلمه الجديد «بيترلو».
أمازون وفيلم فور تعاونا معاً على رصف هذا الفيلم المختلف عن أعمال مايك لي ذات الغالبية الجادة والاجتماعية درامية كانت أو كوميدية. يتعامل هنا مع أحداث وقعت في مانشستر في عام 1819، عندما أدى فساد الحكومة وارتفاع نسبة الضرائب وتجاهل مطالب المزارعين والفقراء عموماً إلى مظاهرة حاشدة واجهتها الحكومة المركزية والبرلمان البريطاني بأوامر صارمة للقوى الأمنية بتفريقها بالقوة.
يبدأ مايك لي فيلمه بموقعة ووترلو سنة 1815. المعركة دائرة. قصف وقنص وقتال وهناك جندي مذهول بما شاهده (ديفيد مورست)، يترك الموقع ويمشي عائداً إلى بيت والدته منهكاً.
يوجه لي اهتمامه للشخصيات التي قادت التمرد وتلك التي في المعسكر المقابل من رئيس الوزراء إلى القائد العسكري وإلى رئيس البرلمان وصولاً إلى أصحاب المصالح السياسية والمالية المناهضة للثورة التي تأخذ وقتها قبل أن تنضج.
ينتقل المخرج بين الموقفين أكثر من مرة، لكنه يصرف معظمه، ولسبب وجيه، على دعاة الثورة ضد الفساد الحكومي وبينهم من يؤمن بحمل السلاح لمواجهة استعداد الأمن لمجابهة المظاهرات بالقوة ومن يؤمن بأن تبقى المظاهرات سلمية من دون حتى عصا أو حجارة. في مقدمة هؤلاء الخطيب الآتي من لندن هنري هنت (روري كينير) الذي يبدو شخصاً نافذاً وخطيباً جهورياً لكن بعيدا عن التعامل مع الواقع.
خلال المواجهة بين أكثر من 80 ألف متظاهر في أحد ميادين مدينة مانشستر وبين البوليس مع هتافات معادية للمتظاهرين من أعضاء الحكومة المطلين على المتظاهرين من نوافذ آمنة، يُلقى القبض على هنت أولاً ويساق بعيداً. إثر ذلك يأمر القائد جنوده فيهاجمون المتظاهرين العزل ويفتكون بهم. في أواخر المعركة ينجح بعض المتظاهرين بضرب بعض الجنود ثم ينجلي الأمر عن جثث مرمية لنساء ورجال وأطفال وينتهي الفيلم عند هذا الحد.
يقول مايك لي إنه يتوقع أن تحدث مظاهرات أوروبية كتلك المظاهرة التي جوبهت بالقوة المفرطة، وذلك نتيجة للأوضاع السائدة حالياً، ولكن هذا كان يحتاج إلى إيحاءات داخل الفيلم وليس خارجه.
هناك قضية أخرى ما زالت حاضرة منذ عقود طويلة موضوعها الهوية الفلسطينية. هذا الموضوع يرد في فيلم سامح الزعبي في فيلمه «تل أبيب على نار» أو «تل أبيت ع نار» كما يرد داخل الفيلم).
إنه تمويل إسرائيلي لفيلم ذي ناصية كوميدية خفيفة، تتحدث عن ذلك المساعد سلام في إنتاج تقوم بتصوير مسلسل تلفزيوني بالعنوان ذاته. قيس ناشف في هذا الدور ولبنة الزبال في دور الممثلة التي عليها أن تلعب شخصية الفلسطينية التي تجيد العبرية وتتقرب عاطفياً من شخصية الضابط الكبير يهودا (الفلسطيني يوسف سويد)، بغاية استحواذ ملفاته والتجسس عليه من ثم قتله في نهاية الحلقات المسلسلة.
يبدأ سلام بالتدخل لضبط الكلمات التي لا يراها مناسبة، مما يدفع بالكاتبة إلى الاستقالة وتعيينه هو بدلاً عنها. هذا رائع بالنسبة إليه، لكن سلام لا يملك موهبة الكتابة أساساً. هو ليس أكثر من شخص يعرف العبرية بالدرجة التي يستطيع فيها استبدال كلمة خطأ بكلمة صائبة. الآن بات عليه استراق السمع لمن حوله حيناً أو أن ينقل العبارات التي تُقال له حيناً آخر لكي يكتب حوارات وشخصيات وأحداث أفلامه. ذات يوم، وبينما كان يجتاز الحاجز العسكري بين القدس ورام الله يلتقي بالضابط آسي (يانيف بيتون) الذي يطلب منه صحن حمص لكي يساعده في كتابة الحوار من وجهة نظر الضابط الذي في الفيلم. بالتدريج يندفع الضابط آسي للسيطرة على كتابة سلام وفرض المشاهد التي توافقه سياسياً أو عاطفياً وهو يقوم بحجز هوية سلام مقابل أن ينفذ ما يكتبه هو.
هذا التعقيد يساهم في رفع الدراما إلى حد جيد وإن كان تنفيذ المخرج سامح زعبي لا يرتفع، بدوره عن التقليد التام. تقليد نظيف لسرد خفيف وممتع، لكنه يبتعد عن العمق ولا يؤدي إلى فيلم يؤرخ.
إلى ذلك، هناك إيحاءات كثيرة حول الهوية المسروقة للكيان الفلسطيني ومشهد مهم جداً لسلام وهو يسير بجانب الحائط الذي بنته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية ذاتها. مشهد يحمل دلالاته جيداً ويقع في الوقت الذي يواجه فيه سلام ذلك الموقف الحرج: تفادي تعديل طلبه المنتج (خاله ويقوم به نديم صوالحة) على السيناريو متعارض مع رغبة الضابط آسي، مما سيعرضه للخطر بعدما امتنع الضابط عن إعادة هويته إليه.
قيس ناشف ولبنى الزبال سبق لهما أن التقيا في فيلم هاني أبو أسعد «الجنة الآن» سنة 2005 لكن هذا لا يلقي بظلاله على هذا الفيلم ولو أنه يتحدث (كالفيلم السابق) عن احتمال تفجير انتحاري. يقضي على عميلة المخابرات الفلسطينية والضابط يهودا ولو في إطار المسلسل الذي تجتمع على مشاهدته العائلات الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء.
أحداث الفيلم تقع في الزمن الراهن (يتساءل بطله سلام عن قيمة التاريخ في القضية الفلسطينية، فيرد عليه خاله بأن اتفاق أوسلو لم يكن إلا لتبديد هذا التاريخ)، لكن أحداث المسلسل تقع ثلاثة أشهر قبل حرب العرب الخاسرة ضد إسرائيل سنة 1967. كلا الواقعتين، الماضي الموجود في المسلسل والحاضر الذي ينتمي إليه فيلمنا، تتداولان الوضع العام بقدر المستطاع.

دار رقص بغرف تعذيب
«تل أبيب على نار» يبقى فيلما صغيراً لا يترك وراءه الكثير من الأثر جيداً كان أو عادياً (يعتمد ذلك على رؤية المشاهد والناقد الخاصة)، وهو عرض في قسم «آفاق» المدرجة كتظاهرة جانبية أولى في عداد هذا المهرجان.
بالعودة إلى المسابقة يطالعنا فيلم للإيطالي لوكا غوداغنينو «سوبيريا»، الفيلم الذي اختار بعض النقاد في شأن ترجمة عنوانه فمنهم من سماه «مناخات» ومنهم من أطلق عليه اسم «علامات» أو «دلالات». الصواب هو أنه «تنهدات» وهذه نسمعها في معظم مشاهد الفيلم من باب تأكيد عنوانه، وخصوصاً في مشاهد رقص الباليه التي ترتفع فيه هذه التنهيدات الأقرب إلى الشهقات حتى من قبل أن ينقطع نفس الراقصات في الفيلم.
إنه أيضاً الفيلم الذي اقتبسه صاحب «نادني باسمك» من فيلم داريو أرجنتو بالعنوان ذاته، ذلك الذي تم تحقيقه سنة 1977 على يدي مخرج أفلام الرعب الإيطالي داريو أرجنتو. ما فعله غوداغنينو هو أنه شاهد الفيلم ثم تجاهله مستوحياً فقط موضوعه. هذا لا بأس به بحد ذاته، لكن حين المقارنة (وقد أعدت مشاهدة فيلم أرجنتو قبل يوم من عرض فيلم غوداغنينو) فإن فيلم أرجنتو، على هناته، يبقى الأفضل ليس لأنه مبني على سياق أفلام الرعب وبذلك هو فيلم نوع محدد، بل أيضاً لأنه داخل جو محكم على عكس فيلم غوداغنينو في معظم أنحائه فالت من عقال سينما الرعب ولاجئ إلى سينما الفن، لكن من دون شغف أو كثير من الفن.
المحتوى في الفيلمين واحد: أميركية (جسيكا هاربر في الفيلم السابق وداكوتا جونسون) تصل إلى برلين الغربية (حين كانت المدينة منشطرة بين شرق وغرب) لتنضم إلى مدرسة باليه تقع في منزل كبير بالمدينة. دار رحبة فيها قاعات رقص كبيرة، لكنها أيضاً تحتوي على غرف سرية تمارس فيها مناسك وشعائر شيطانية. سوزي الأميركية لم تكن تعلم ذلك ومعظم المنتميات إلى المدرسة كن جاهلات بما يقع، لكن الفحوى هو أنه مع اختفاء زميلة لها تدعى سارا (ستيفانيا كاسيني في فيلم أرجنتو وميا غوث في فيلم غوداغنينو) تبدأ سوزي إدراك أن شيئاً خطأ في هذه التركيبة وأن المدرسة هي أقرب إلى فخ من العناكب تسيطر عليه أرواح شريرة تعيش على القتل والتنكيل.
التنهدات التي يحملها الفيلم عنواناً له هي تلك الحالة من شهيق وزفير الأرواح التي تسطو على الضحايا الأبرياء. إما تقضي عليهم حين يتمردون أو يختارون الانصياع والانضمام إلى المجموعة التي تدير المؤسسة. هذا ما تختار سوزي أن تفعله في نهاية الساعتين والنصف التي يتطلبهما فيلم غوداغنينو لسرد قصته. والتوقيت مهم.
في فيلم أرجنتو تصل بعد أربع دقائق من بداية حابسة للأنفاس. ما يسطو على اهتمام غوداغنينو هو تقديم فيلم فني الوجهة لحكاية هي في الأصل رائعة كحكاية مرعبة وردت في السبعينات المشبعة بمثل هذه الأفلام الجريئة. فيلم أرجنتو كان ممتعاً لهواة النوع وأقل من ذلك كعمل سينمائي محض كونه كان منصرفاً لجذب جماهيري أكثر مما كان في حسبانه تقديم فن في جوانب العمل المختلفة. لكن الفيلم الحالي يخلو من الرعب وليس الفيلم الفني في الوقت ذاته.
في نسخة أرجنتو استخدام رائع للموسيقى والمؤثرات. ومشاهد القتل أو الموت أفضل صنعاً وانسياباً مع كنه الفيلم. كذلك تأليف الأجواء الداكنة أكثر ملاءمة.
عند المخرج غوداغنينو تتبلور استحالة تمنع قصة مثل قصة «سوسبيريا» من التحول إلى دراسة فلسفية وإنسانية وفكرية كما يحاول هذا الفيلم الوصول إليه من دون معالجة مختلفة تامة.
حين يصور غوداغنينو بطلته وهي ترقص مصراً على استخدام الشهقات على نحو منفر، من ثم يقطع عنها لمشهد مطول لكيف يتم قتل إحدى زميلاتها بحركات بدنية عنيفة تحتوي على لوي أقدام وكسر أذرع وتحطيم عظام، فإن المنساب إلى المشاهد هو استماتة للعبة مكشوفة قوامها الربط بين حركتين، واحدة باسم الفن والأخرى باسم العنف، لعلها تمنح الفيلم بعض ذرائعه. لكن لا شيء يمضي حسب المخطط له سوى هبوط مستوى الفيلم من شبه الجودة إلى شبه الرداءة المطلقة.


مقالات ذات صلة

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)