الفنان التشكيلي قادر عطية يستوحي قصبة الجزائر في العاصمة اللبنانية

«صراع الطبيعة» له وجوه وحكايات في مركز بيروت للفن

آلة وترية أم خوذة عسكرية؟
آلة وترية أم خوذة عسكرية؟
TT

الفنان التشكيلي قادر عطية يستوحي قصبة الجزائر في العاصمة اللبنانية

آلة وترية أم خوذة عسكرية؟
آلة وترية أم خوذة عسكرية؟

الشرط الأساسي لزيارة معرض الفنان قادر عطية، الفرنسي الذي أصبح عالميا، ويتحدر من أصول جزائرية، هو لبس حذاء رياضي لحماية النفس من الانزلاق. فعلى طول عدة أمتار، سد الفنان معبرا، يؤدي إلى بقية أعمال معرضه القائم حاليا في «بيروت أرت سنتر» بمخلفات التنك والكاوتشوك والخردة والصحون اللاقطة، كما قطع من أبواب مخلعة، وضعها جميعها على أرضية المكان، بحيث يتوجب على الزائر قطع رحلة الآلام هذه كي يصل إلى بقية المعروضات. ورغم صعوبة المهمة إلا أن العاملين في «الغاليري» يجدون أن قطع هذه المسافة، مهمة لا غنى عنها، لفهم روحية الأعمال، وهو ما سيضطرك لأن تفكر طويلا وتتريث تكرارا، وأنت تختار المكان الذي تجعل منه موطأ قدمك في كل مرة، قبل أن تفلح في اجتياز المعبر المفخخ بالصعوبات. هذا التجهيز الطويل والعريض من حيث المساحة، لا بد أن يكون الزائر جزءا منه كي تكتمل التجربة. وقد أطلق عليه الفنان اسم «القصبة - بيروت» أو «القدر العمراني» وهو مستوحى من قصبة الجزائر العاصمة التي رممها الاستعمار الفرنسي، لتصبح على هيئتها التي هي عليها اليوم. وبالتالي فإن القصبة القديمة الواقعة في وسط العاصمة، لم تعد قائمة حاليا. أما المخلفات الموجودة في المعرض، والتي تشكل قصبة من نوع آخر، فقد جرى جمعها من أحد المخيمات الفلسطينية بشكل أساسي، لتشكل هذه المنحوتة الغرائبية. نوعا من التذكير بخراب الحرب وضرورة لملمة الأشلاء وإعادة التدوير والتنظيم والسير على مرحلة سابقة للانتقال إلى واقع آخر.
الواقع الذي ينقلك إليه هذا الممر الخطر بالمعنى الفيزيائي للكلمة إذ قد تكسر رجلك أو يدك تزحلقا على مواده غير الممهدة، يفضي بك إلى صالة رصينة ومضاءة جيدا، فيها معروضات لها نفس روح التجهيز السابق، من حيث رغبتها في إبراز ازدواجية الوجوه للشيء الواحد. آلة وترية عادية استبدل غطاؤها ذو الاستدارة الرحمية، بخوذة حربية، صور فوتوغرافية لمنازل قديمة وأخرى شاهقة شديدة الحداثة، ملصقات لصحف، رسوم كاريكاتورية لمنشورات غربية. الكولاج هو التقنية الأقرب إلى قلب الفنان، ربما لإبراز التناقضات وعمليات الترميم التي يريد إبرازها، حيث تظهر نساء شرقيات تقليديات، وأخريات بمظهر غربي، مبنى جديد أمامه تنتشر مبان تقليدية عتيقة وفقيرة، وكأنما يريد أحدهم أن يحتضنها. معروضات تفتقد لخيط يوضح تماسك فكرتها. قادر عطية الذي درس الفلسفة يسبح في إبداعاته إلى حد الضبابية.
أحد التجهيزات الأكثر لفتا للنظر هو ذاك الذي تصطف فيه أرجل اصطناعية على شكل دائري كالشمس ذات أشكال متعددة، تعيدنا إلى عنف الحروب والأعضاء المبتورة والمرممة. هناك أيضا الدائرة المحاطة بمسامير على شكل متعرج توحي بالوحشية وروح التعذيب.
الاستعمار ونظرياته، كما رؤيته للشعوب التي احتلها، وتحكم بمسارها، حاضرة في المعرض. قادر عطية هو جزائري قبل أي شيء آخر، إقامته في الغرب، ربما دفعته لمزيد من البحث حول الإثنيات، سواء منازل الشعوب التقليدية، الملابس، سحن الوجوه، الآلات وسبل العيش كما الملامح، وحب المقارنة بين الوجه الشرقي أو الأفريقي والوجه الغربي الاستعماري الذي أدخل تحولاته عنوة على ثقافات لم يعشها بقدر ما حاول تغييرها.
شاشتان تعرضان وجوها من إثنيات مختلفة تتوالى وتتداخل وكأن الوجه يطلع من الذي مر على الشاشة قبله. الإنسان هو الإنسان لكن الأنف والفم والعين، والشعر كلها تتكلم وتشي بالأصول والبيئات.
المعرض الذي يحمل اسم «صراع الطبيعة» والمستمر حتى 22 من أغسطس (آب) المقبل، يبدأ بغرفة فيها شاشة تعرض فيديو يظهر فيه طائر «القيثارة» الذي له مهارة تقليد أصوات غير موجودة في الطبيعة. الطير في الشريط يحاول تقليد صوت آلات نشر الخشب، وصوت الكاميرات. هذه البداية تبدو وكأنها لا تمت بصلة فعلية إلى ما تبقى من المعروضات.
محاولة إعطاء الأعمال أبعادا بعيدة الغور، بالاعتماد على نظريات ونصوص أدبية، وترك المتفرج يربط بينها دون دعمه بخيط بصري أو سمعي غير الشروحات الموجودة إلى جانب أعمال المعرض، تكسر قليلا من حيوية الانفعال الذي يمكن أن يتولد لدى الزائر.
أفكار كثيرة انبثقت منها الأعمال المعروضة، وتساؤلات عدة، حول الكولونيالية وما حملته للإنسانية من تصدعات، الهوية وما طرأ عليها، العنف وانعكاساته، الثنائيات المتقابلة ومعناها في حياة الشعوب، الحضارات وامتداداتها وتحولاتها، المساكن البشرية من الكوخ إلى ناطحة السحاب، الأثواب والملابس البشرية، كل ما يختلج في هذا المعرض يبدو متداخلا، وأكبر من قدرة المعروضات على الإفصاح عن ذاتها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)