هناك متاحف معاصرة يصعب الوصول إليها وتبدو أكثر عزلة عن غيرها، بما في ذلك متحف يقع على جزيرة منعزلة في اليابان وآخر داخل مدينة نائية بولاية تكساس الأميركية. وهناك متاحف لا يدخل إليها سوى من يحملون بطاقات دعوة وتعمل على نحو شبيه بالأندية الخاصة المنغلقة على مجموعة معينة من الأفراد. على الجانب الآخر، هناك الكثير من المؤسسات البارزة التي تركّز اهتمامها على مزج الثّقافة والطبيعة وتدعو الزائرين ليس للاطّلاع على الأعمال الفنية فقط، وإنّما أيضاً للاستمتاع بالمشهد العام المحيط بهذه الأعمال. إلا أنّه عندما يفتح متحف غلينستون مقرّه الجديد أمام الجمهور الشّهر المقبل في بوتوماك بولاية ماريلاند، فإنّ هذا الافتتاح يأتي متزامناً مع صعود ظاهرة جديدة في عالم الفن: شعور قوي بأنّ الكثير من المتاحف تحوّلت إلى ضحية لنجاحها وأصبحت هناك حاجة ملحّة لوضع نظام جديد للتّفاعل مع الأعمال الفنية.
جدير ذكره، أنّ متحف غلينستون صنيعة ميتش وإيميلي ريلز، وهما اثنان من هواة جمع الأعمال الفنية من الأثرياء واللذان افتتحا معرضاً داخل ضيعة يملكانها في ماريلاند عام 2006. وفي 4 أكتوبر (تشرين الأول)، من المقرّر أن يفتتح الزوجان مجمّعا فنّيّاً ضخماً تبلغ مساحة العرض في داخله خمسة أضعاف المساحة داخل مبنى يطلق عليه «بافيليونز»، وهو مجموعة من المعارض المترابطة بعضها البعض، بُنيت حول حمام سباحة أعلى أحد التلال.
ومن المقرّر أن يفتح مبنى غلينستون الجديد أبوابه بصورة أوسع عن المبنى القديم، بمعنى أنّه سيسمح لعدد أكبر من الأفراد بحجز مواعيد للزيارة من خلال نظام حجز إلكتروني عبر شبكة الإنترنت. وسيتمكن سعداء الحظ الذين سيزورون المبنى الجديد من معايشة الإنجاز الكامل لطموح آل ريلز، ببناء واحدة من أكبر وأثرى المؤسسات الثّقافية على مستوى العالم. إلا أنّ الملاحظ أن مجمع غلينستون القائم على مساحة 230 فداناً ويضم مقهى وصالة دخول ومعارض دوارة ومعروضات فنية في الهواء الطّلق، صمم وبُني بالتركيز على تجربة الزائر في الأساس، وليس السّعي للوصول بأعداد الزائرين لأكبر عدد ممكن. وقد استوحى المتحف إلهامه من حركة «الفن البطيء» الناشئة التي تعتبر بمثابة رد فعل لقوى أكبر داخل السّوق الفنّية والثّقافة الديمقراطية وعصر طرح الأعمال الفنية عبر «إنستغرام». من ناحيتها تتوقّع إيميلي ريلز أن يستقبل غلينستون نحو 400 زائر يومياً من دون أن يؤثّر ذلك على صورته العامة كملاذ للهروب بعيداً عن العالم، وهي فكرة تشكّل عنصراً محورياً في رؤية مؤسسي المتحف.
على النّقيض نجد أنّ مجموعة فيليبس القائمة داخل موقع صغير مغلق على نفسه بقلب واشنطن، يستقبل أكثر عن 500 زائر يومياً في المتوسط، بينما يستقبل متحف «هيرشهورن» الذي يوجد في موقع مركزي، ما يقرب من 2500 زائر يومياً.
من جهته شرح توماس بيفر، المهندس المعماري الذي تعاون مع آل ريلز لتصميم مبنى «بافيليونز» على مساحة 204.000 قدم مربع قائلاً: «لقد عايشنا جميعاً ما يمكن وصفه بـ(لحظة الموناليزا)». ويشير مصطلح «لحظة الموناليزا» إلى شعور باليأس تجاه معارض متحف «اللوفر» في باريس، حيث تعجّ القاعة المخصّصة لعرض لوحة الموناليزا بحالة من الفوضى مع دخول المرشدين السياحيين الذين يقودون مجموعات من الزائرين في مشاحنات ومنافسات للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من اللوحة من أجل التقاط صورة بالهاتف المحمول لأشهر لوحة فنية في العالم. وأضاف بيفر: «تدخل إلى تلك القاعة وحولك 400 من أصدقائك المقرّبين وكلّ ما تحصل عليه ربما مجرد لمحة من الموناليزا» وذلك في إشارة إلى تجربة مثيرة للشّعور بالإحباط أصبحت أكثر شيوعاً يوماً بعد آخر داخل المتاحف على مستوى العالم.
ويمكن للمرء معايشة «لحظة الموناليزا» تلك داخل المعارض التابعة لمتحف الفن الحديث في نيويورك الذي أصبح على درجة من الازدحام الشّديد جعلت الجّادين من عاشقي الفنون يتجنبونه، أو المعارض الخاصة مثل «معرض كوساما» الذي نُظّم العام الماضي في هيشهورن وقد نال درجة كبيرة من الشّعبية والشّهرة لدرجة دفعت القائمين عليه بمراقبة الزائرين عبر ساعة ميقاتية وسمحت لكل زائر ببضعة ثوان داخل كل غرفة من غرف المعرض الخاصة بأعمال الفنان الياباني.
ولا تقتصر المشكلة على الازدحام أو الضوضاء أو تشتت الانتباه، وإنّما كذلك القضاء على واحدة من العناصر الأساسية لتجربة معاينة الأعمال الفنية وهي التأمل الفردي.
من ناحية أخرى فإنّ مسألة إعادة بناء التصميم الهندسي للمتاحف بهدف الحفاظ على تجربة فنية ذات معنى، تنطوي على تعقيد كبير وتجبر مصممي المتاحف ومن يتولون رعايتها مثل آل ريلز، على مواجهة قضايا ثقافية عميقة ترتبط بقيمة التجارب الفنية واتهامات بالانحياز للنّخب الضيقة. يذكر أنّه في أواخر القرن الـ19 وعلى امتداد جزء كبير من القرن الـ20. عملت المتاحف كمعاهد للفن وقدّمت دروسا في نشر قيمة الثّقافة. في منتصف القرن الماضي بدأت أجيال جديدة من رؤساء المتاحف التأكيد بصورة أكبر على أفكار أكثر شعبوية تتعلّق بالانفتاح ومساواة الفرص المتعلقة بمعايشة تجربة المعارض الفنية.
إلا أنّ هذا الجيل الثاني من المتاحف الأميركية الذي أطلق عليه «عصر الوصول»، غرس بذور دماره لأنّه خلق تجربة ثقافية جذبت حشوداً ضخمة من الجماهير، ولكن من دون أن يوفّر لهم أي فرصة للتّفاعل الحقيقي مع التعقيد الفنّي أو الثّقافي للعمل المعروض.
وحمل «عصر الوصول» معه، مقاه وارتباط بالإنترنت وتجمعات اجتماعية. وحرصت هذه المتاحف على تقييم مستوى نجاحها تبعاً لأعداد الزائرين. وفي كتاب نشره عام 2017. بعنوان «الفن البطيء»، اقترح النّاقد الفني أردين ريد النّظر إلى تاريخ بديل للفن يتعارض مع مفاهيم السّرعة والتجارة والاستهلاك. وأوضح أنّ الفن البطيء يقصد به ممارسة أو علاقة ما، أو منظور تاريخي للنّظر إلى العمل الفني الذي تتعارض مع الكثير من القيم التي تجسّدها متاحف الفن الحديث. وشرح أنّه: «مع تنامي سرعة الحركة الثّقافية وانحسار الممارسات الجمالية المقدسة، تأتي فكرة الفن البطيء لتشبع حاجتنا إلى وقت مستقطع عبر إنتاج أعمال تستلزم اهتماما مستمرا كي يتمكّن المرء من معايشتها».
من جانبها، قالت إيميل ريلز عن المتحف الجديد إنّ: «المقر بأكمله مصمم حول فكرة أنّ المرء بحاجة إلى تجربة هادئة لمعايشة العمل الفني».
وأثناء تفكيرهما في مبنى «بافيليونز» الجديد، زارت إيميلي وزوجها الكثير من المتاحف وقاما بدراستها، بما في ذلك متاحف تشهد حركة ازدحام شديدة من جانب الزّوار. وأشارت إلى أنّه داخل متحف غوغينهايم في نيويورك، يوجد لدى كل زائر مساحة حركة تعادل في المتوسط نحو 32 قدماً مربعاً، ما يعني أنّ المكان متكدّس للغاية. لذا فقد حرص الزوجان على تصميم «غلينستون» لتوفير مساحة تقارب 300 قدم مربع للزائر. أيضاً لن توجد حواجز بين الأعمال الفنية والمشاهدين، ولكنّ هذا يعني السّيطرة على تدفق حركة الزّوار على نحو يضمن سلامة الأعمال الفنية.
- خدمة: {واشنطن بوست}