التنظيم السري للإخوان المسلمين... صكوك للعنف وتصفية الخصوم

4 من أعضاء مجلس قيادة ثورة 52 كانوا منتمين للجماعة

حسن البنا - غلاف الكتاب
حسن البنا - غلاف الكتاب
TT

التنظيم السري للإخوان المسلمين... صكوك للعنف وتصفية الخصوم

حسن البنا - غلاف الكتاب
حسن البنا - غلاف الكتاب

صدر حديثاً عن دار «ميريت» للنشر، بالقاهرة، كتاب «النظام الخاص ودولة الإخوان المسلمين»، من تأليف الباحثة الإعلامية المصرية سوزان حرفي، التي سعت من خلال صفحاته التي تضم 4 أبواب و12 فصلاً لعرض أفكار الجماعة وتوجهها منذ النشأة، وعقيدتها ورؤيتها للذات وللآخر، وحقيقة وجود عقيدتين ورؤيتين أو تيارين داخلها.
الكتاب صدر بمقدمة ضافية للدكتور كمال الهلباوي، القيادي البارز في الإخوان، الذي انشق عنها لاحقاً. وقد ذكر الهلباوي أن الجماعة ضمت كلاً من النقيب آنذاك جمال عبد الناصر، والملازم أول حسين أحمد حمودة، والملازم كمال الدين حسين، وكذلك عبد المنعم عبد الرؤوف، وكلهم كانوا أعضاء بمجلس قيادة ثورة يوليو 1952، التي انقلبت على الإخوان وأطاحت بهم، وحلت الجماعة.
شرعت سوزان حرفي في إنجاز كتابها بداية عام 2013، عندما كانت جماعة الإخوان قد أخذت طريقها كحزب الأغلبية داخل البرلمان المصري. واهتمت الباحثة بتقصي وتدقيق الأحداث التي شاركت الجماعة فيها، أو كانت أحد أطرافها، وحللت علاقتها وموقفها من الدولة والسلطة القائمة والمجتمع، وحدود التغير الذي تسعى الجماعة لإحداثه في المحيط العام، وكذلك في محيطها الخاص.
وذكرت حرفي أن الجهاز الخاص هو أكثر المناطق ضبابية في تاريخ الجماعة، سواء في ما ارتبط به من نشأة وأهداف، أو عضوية وعقيدة ونشاط وأفعال، فكل هذه الأشياء تقع غالباً في المساحة المظلمة التي يتجنب تنظيم الإخوان على مدار تاريخه السابق الاقتراب منها، إلا لماماً.
هذا الصمت، حسب وجهة نظر الباحثة، قد يكون نتيجة لطبيعة النظام الذي تغطيه السرية، فهو «النظام السري» أو «التنظيم السري»، وكان معظم أعضائه غير معروفين لرجال «النظام العام» داخل جماعة الإخوان نفسها، كما أن الصمت جاء التزاماً من أعضاء النظام الخاص أنفسهم بقسم الانضمام، أو البيعة، فالسرية جزء من عقيدة النظام وعقيدة أعضائه. وما زاد من مساحة الصمت ربما ارتباط هذا النظام بعدة جرائم كشفت منهج الجماعة، مثل قتل القاضي أحمد الخازندار وكيل محكمة الاستئناف، واغتيال أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا، رئيسي وزراء مصر، وغيرهما من المسؤولين، إضافة للقيام بعدد من التفجيرات والعمليات المسلحة التي راح ضحيتها كثير من المصريين.
ولفتت حرفي إلى أن سعي مؤسس الجماعة (حسن البنا)، من خلال التنظيم الخاص، كان لإنشاء «جيش بديل» عن الجيش المصري، هو «جيش المسلمين»، طبقاً لما أكده جمال البنا، وكذلك محمود الصباغ أحد قيادات هذا الجيش في أربعينات القرن العشرين.
وقد ذكر حسن البنا في إحدى رسائله الموجهة للتنظيم الخاص، وهي رسالة «المنهج» التي رسم فيها مراحل العمل وتكوين الكتائب ونموها، أن العدد المستهدف لهذا الجيش في مرحلته هذه هو اثنا عشر ألفاً، مضيفاً: «ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة».
فكرة «الجيش البديل» هذه أسرت محمود الصباغ، طالب كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول، عندما التقى حسن البنا لأول مرة عام 1939م، في لقاء للتعارف رتبه زميله بالكلية مصطفي مشهور في دار الإخوان التي كانت تقع بمنطقة الحلمية الجديدة، بالقاهرة، حيث كان البنا يشرح الإسلام ودعوته لعدد لا يزيد على العشرة من طلاب الجامعة.
يقول الصباغ: «رأيت أن كل ما يسوقه من آيات بينات رسمها الله للمسلمين شرعة ومنهاجاً في هذه الحياة تعالج ما نحن فيه في زماننا الحالي، فخرجت وأنا أقول: ولماذا التباطؤ في التنفيذ؟ خرجت مسلماً صحيح الإسلام، عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، دون أن أكتب استمارة عضوية، أو أدفع اشتراكاً شهرياً أو سنوياً، أبحث مع مصطفى وسيلة لتنفيذ ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، التي تجلت واضحة في مقاتلة العدو من خلال (جيش مسلم) سيتحقق له نصر مؤكد، لو صدق ما عاهد الله عليه»، ثم يضيف في كتابه «حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين»، الصادر عن «دار الاعتصام» عام 1989: «همست بما يجول بخاطري لمصطفي مشهور، فعرفني على أخي في الله المرحوم الأستاذ عبد الرحمن السندي، بصفته المسؤول عن إعداد (جيش المسلمين) في تنظيم الإخوان المسلمين».
المهم أن مشاركة هذا الجيش الإخواني في فلسطين لم تكن كما يروجون، فإنهم - حسب ما ذكرته حرفي - لم يدخلوا إلا معارك قليلة جداً فيها، فقد صدرت من الشيخ محمد فرغلي، وهو المسؤول العام للمقاتلين الإخوان في فلسطين، الأوامر بعدم الدخول في مزيد من المعارك، بحجة أن هناك مؤامرة لتصفية المجاهدين، وظل الإخوان في معسكرهم لا يحاربون إلى أن عادوا من فلسطين.
الحكاية إذن لم تكن محاربة الصهاينة في فلسطين، كما روجوا، لكن هدف إنشاء النظام الخاص الحقيقي أوضحته حرفي وهي تستشهد بما كتبه عبد الرحمن الساعاتي، شقيق حسن البنا، المراقب العام للجماعة: «استعدوا يا جنود، وليأخذ كل منكم أهبته، ويعد سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، وامضوا إلى حيث تؤمرون، خذوا هذه الأمة برفق، وصفوا لها الدواء، فكم على ضفاف النيل من قلب يعاني وجسم عليل. فإذا الأمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة. وإن وجدتم في جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه، أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر، وفي عيونهم عمى».
أما عن المكانة التي كان يتمتع بها هؤلاء الذين اختارهم البنا لهذه المهمة، فقد كانت أعلى من غيرهم من المنتمين للجماعة، طبقاً لما أكده الشيخ أحمد حسن الباقوري، في كتابه «بقايا ذكريات»، الصادر عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر» عام 1988، حيث أفاد الباقوري بأنه تم توجيه هذا الشباب الذي انضم للتنظيم الخاص على أنهم هم أعضاء الجماعة الحقيقيون، وأن إخوانهم المشتغلين في الدعوة العامة مع البنا هم أقل منهم درجة، فهم كانوا يحملون صفة تربوية، عرفها حسن البنا لهم بـ«الأخ المجاهد»، بينما المشتغلون مع البنا في الدعوة العامة كانوا يعرفوا بـ«الأخ العامل».
تابعت حرفي في كتابها قصة نهاية عقد الثلاثينات وبداية الأربعينات، وما ساقه بعض ممن ساهم في تأسيس خلايا وكتائب داخل النظام الخاص في تلك الفترة، كما كشفت أن فكرة الاغتيالات كانت مرحباً بها بين أعضاء الجماعة، وهو ما ظهر جلياً في ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي، عضو تنظيم الإخوان سابقاً، بمذكراته «ابن القرية والكُتاب.. ملامح سيرة ومسيرة»، عن «دار الشروق»، الجزء الأول، إصدار 2002: «قابلنا، نحن الشباب والطلاب، اغتيال النقراشي بارتياح واستبشار، فقد شفى غليلنا ورد اعتبارنا».
ولفتت حرفي إلى أن الأهداف التي استدعت تشكيل النظام الخاص، بما فيها الدفاع عن «الدعوة»، وحماية ظهرها من الأعداء، كان بينها ضرب الخصوم. فالنظام الخاص أو التنظيم السري يعتبر تنظيماً عسكرياً هرمياً سرياً، هدفه ضرب الخصوم، والخارجين حتى عن الطاعة من داخل الجماعة نفسها.
وذكرت حرفي أن البنا كان يؤيد العنف بكل أشكاله، وقد اتضح ذلك في المؤتمر الخامس للإخوان، الذي انعقد عام 1938، عندما وجه بأن «القوة شعار الإسلام، وأول درجاتها قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، وإن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها». وقد بدا ذلك تحولاً في نهج الإخوان من الاكتفاء بنهج التربية والدعوة إلى السعي للتغيير بالقوة، وتدشيناً لمرحلة جديدة من طور نمو التنظيم، بعد مرحلة «التعريف»، بالانتقال للمرحلة الثانية، وهي مرحلة «التكوين»، وصولاً لـ«التمكين»، لإقامة دولة «الخلافة الإسلامية» التي تقترب من دولة الخلفاء الراشدين الأربعة، ولا سبيل لتحقيق تلك الغاية إلا بالجهاد المسلح، وهو ما أعلنه عدد من القيادات البارزة داخل تنظيم الإخوان، على رأسهم اثنان من مكتب الإرشاد، وهما محمود أبو زيد عثمان، صاحب امتياز مجلة «النذير»، ومحمد المغلاوي مسؤول قسم الطلبة والعمال، ومعهما محمد عطية خميس، والدكتور علي النشار، والشيخ حافظ سلامة، كما انضم لهم عدد كبير من كوادر الجماعة. وجاء هذا بوضوح في مجلة «النذير»، لسان حالهم بعد الانشقاق.
اللافت أن البنا لم يهاجمهم، ولم يقف رافضاً لما قاموا به، بل تبرع لهم للمساعدة في إنشاء مقرات، كما أن بعض قيادات الجماعة وقفوا الموقف نفسه، ووصفوهم بأنهم «شباب استعجلوا النصر».
وكشفت حرفي أن البنا أصدر توجيهاته بأن يكون هناك لقاء أسبوعي «يوم المعسكر»، هدفه تسهيل إمداد النظام الخاص بعناصر جديدة تعوض الخسائر التي فقدوها بخروج مجموعة «محمد عزت» و«شباب محمد».
وكشفت أيضاً أن استعراضات الجوالة لم تكن مقصودة لذاتها دائماً، وإنما كانت ذريعة لإظهار قوة الجماعة ومظهرها العسكري، والإيحاء بأنها هي القوة العسكرية للجماعة، وصرف النظر عن التنظيم الذي يتم إعداده سراً، وفي كتمان تام بعيداً عن مظهريات الجماعة. وقد تطرقت المؤلفة لطريقة تكوينه، وبيعة أعضائه، وتشكيله العنقودي، وسريته التامة حتى داخل أعضائه أنفسهم.
وأشارت حرفي إلى أن «القيادة» كانت تضم عشرة أشخاص، خمسة من بينهم لا يتصل أحد منهم اتصالاً مباشراً بأي من أعضاء النظام، وتم تحديد مهام «قيادة الجيش» بدراسة طرق التنفيذ لما يصل من خطط صادرة من الأركان، وإصدار بيانات يشترك فيها جميع الأعضاء، كذلك الإشراف على أحوال الجند، والاطمئنان على دوام قوتهم المعنوية، كما تقوم القيادة بالاتصال بالإدارة العليا، وتبليغ الأركان بكل ما يحتاج إليه من إرشاداتها، ويجب أن يكون كل فرد من الأفراد العشرة المكونين لمجلس القيادة على استعداد لتولي القيادة في أي لحظة. أما «الأركان» فهي مجلس مكون من خمسة أشخاص، ويمكن أن يزيد عدده كلما احتاج الأمر، ومهماته وضع خطط لتنظيم القوات في كل من أوقات السلم والحرب، ودراسة المعدات عملياً، وتحديد ما يصلح منها لاستعمال الجيش، وإصدار بيانات بمميزاتها وطرق استعمالها وحفظها، كذلك تحديد الأهداف التي سيتم التعامل معها، ورسم خطة التنفيذ، من زمان ومكان والقوات المطلوبة، ودراسة كل ما يصل إليها عن طريق مجلس القيادة، من صعوبات ومشكلات عملية، ومطالب مستجدة، وإصدار بيانات بنتيجة الدراسة ترسل إلى مجلس القيادة، وبالنسبة لـ«الجنود» فمهمتهم الاستعداد الروحي والعقلي والطاعة والتنفيذ.
وهكذا، ظل العنف شريعة لدى الجماعة، رغم إعلانهم الدائم عن رفضه.


مقالات ذات صلة

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الخليج يوضح المعرض أهمية الفنون في مصاحبة كتابة المصاحف ونَسْخها عبر العصور (مكتبة الملك عبد العزيز)

معرض في الرياض لنوادر المصاحف المذهّبة

افتُتح، في الرياض، أول من أمس، معرض المصاحف الشريفة المذهَّبة والمزخرفة، الذي تقيمه مكتبةُ الملك عبد العزيز العامة بفرعها في «مركز المؤسس التاريخي» بالرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
آسيا في هذه الصورة التي التُقطت في 6 فبراير 2024 رجل يدلّ على ضريح الصوفي الحاج روزبيه المهدم في نيودلهي (أ.ف.ب)

هدم ضريح ولي صوفي في إطار برنامج «للتنمية» في دلهي

في أوائل فبراير (شباط)، صار ضريح صوفي أحدث ضحايا «برنامج الهدم» الذي تنفذه هيئة تنمية دلهي لإزالة «المباني الدينية غير القانونية» في الهند.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
يوميات الشرق مصلون يشاركون في جلسة للياقة البدنية بعد الصلاة في مسجد منطقة باغجلار في إسطنبول في 8 فبراير 2024 (أ.ف.ب)

حصص رياضة داخل مساجد تركية تساعد المصلين على تحسين لياقتهم

يشارك مصلّون في حصة تدريبات رياضية في مساجد بمدينة إسطنبول التركية بعد انتهاء صلاة العصر، ويوجد معهم مدرّب لياقة بدنية.

«الشرق الأوسط» (إسطنبول)
شؤون إقليمية سيجري تدريب زهاء 100 إمام في ألمانيا كل عام بموجب اتفاق بين ألمانيا وتركيا (أ.ف.ب)

تركيا توقف إرسال أئمة إلى المساجد في ألمانيا

قالت وزارة الداخلية الألمانية، اليوم الخميس، إن ألمانيا اتفقت مع تركيا على الإلغاء التدريجي لبرنامج مثير للجدل يجري بموجبه إرسال أئمة أتراك للمساجد في ألمانيا.

«الشرق الأوسط» (برلين)

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات
TT

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

نقرأ في بعض تفاصيل سيرة ويلارد غبس (Willard Gibbs)، الفيزيائي الأميركي الذي حقّق منجزات كبرى في حقل الفيزياء الإحصائية، وإليه يُعزى مفهوم «الإنتروبيا» (Entropy) ذائع الشهرة، أنّه سُئل - عندما كان أستاذاً للفيزياء في جامعة ييل الأميركية بدايات القرن العشرين - عن رأيه في تخفيض عدد دروس الرياضيات لصالح زيادة دروس اللغة؛ فأجاب غِبس باقتضاب مفرط: «الرياضيات لغة».

لا يكاد رأي غبس يختلف عن رأي كثيرين من المختصين بالفيزياء والرياضيات بشأن طبيعة الرياضيات؛ فهم يرونها لغة مثل باقي اللغات مع خصوصيتها المميزة في كينونتها الغارقة في الرمزية والقواعد المنطقية الصارمة؛ هذا أولاً، وثانياً تمثل الرياضيات لغة عالمية لم تبلغها أي لغة متداولة، وربما في هذا الشأن تتماثل الرياضيات مع الموسيقى، وثمة من يراها «موسيقى كونية مكثفة». حتى الفوضى (Chaos) محكومة بقانون رياضياتي!!

الرياضيات في جوهرها أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان، وهي إحدى الخصائص اللصيقة بكلّ مجتمع متقدّم تقنياً في وقتنا الحاضر. كلّ مجتمع متقدّم من هذه المجتمعات لا بدّ أن تكون له «مدرسته الخاصة في التفكير الرياضياتي»، تماماً مثل حقول الأدب والموسيقى والتقنية والعمارة. يبدو هذا الأمر أقرب لقانون حتمي؛ لذا كانت دراسة الرياضيات من كلّ أوجهها (التعليمية والفلسفية والتطبيقية) ضرورة لازمة.

حتى نفهم أهمية الرياضيات بعيداً عن الأمثلة التقليدية السائدة سأقدّمُ شاهدة واحدة نعيشها ونختبرها كل آن. لو دققنا في طبيعة التقنيات عبر العصور لرأينا زيادة نسبة العنصر الرمزي في هذه التقنيات مع الزمن. يمكن القول إنّ مركز الاهتمام والتطوير التقني صار يبتعد عن المشخصات المادية الصلبة ويقترب من التشكيلات الرمزية المعقّدة. الهندسة (Engineering) مثلاً: كانت الهندسة المدنية بكلّ تفريعاتها (الهندسة الإنشائية وهندسة السدود والطرق والهندسة الجيوتقنية وهندسة الموارد المائية) هي اللون الطاغي على الهندسة في القرن التاسع عشر، ثم انحرف الاهتمام الأكبر نحو الهندسة الكهربائية في النصف الأول من القرن العشرين. أما مع بدايات الألفية الثالثة وما بعدها، فقد صار الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة والروبوتات وتعلّم الآلة هي العناوين الكبيرة للهندسات السائدة؛ تعليماً جامعياً، وتطبيقات صناعية، واستثمارات مليارية تنفق عليها الدول الكبرى بسخاء، وترى فيها بعض مفاتيح تفوقها الجيوستراتيجي. وليس خافياً أنّ هذه الهندسات تتأسس على أنماط خاصة من الرياضيات جوهرها البرمجيات والخوارزميات. هذه بعض الأسباب التي تدفع اليوم حكومات العالم المتقدّم لمراجعة خططها التعليمية، فيما يخص الرياضيات على كل المستويات (ما قبل الجامعية والجامعية والدراسات العليا وحتى مرحلة ما بعد الدكتوراه)؛ لأنّ أي نكوص أو تخلف ستترتب عليهما أثمانٌ باهظة التكاليف.

يتطلب الاهتمام بالرياضيات ترغيباً بدراستها من قبل الحكومات، ومن بعض جوانب هذا الترغيب نشرُ كتب تعريفية بالرياضيات، بعيداً عن الطريقة البيداغوجية (التلقينية) المدرسية الرتيبة التي دفعت كثيرين من الطلبة إلى تطوير رؤية غير محببة تجاه الرياضيات، واعتبارها مادة صارمة لا تقبل سوى الإجابات اليقينية الصارمة (صح أم خطأ) بعيداً عن روح المغامرة والاستكشاف. أحد هذه الكتب التي تخدم هذا الغرض بكيفية ممتازة هو الكتاب الذي ألّفته إيوجينيا تشينغ (Eugenia Cheng) ونشرته أواخر عام 2023، الكتاب بعنوان: «هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات» (Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths).

الأستاذة إيوجينيا تشينغ بروفيسورة رياضيات بريطانية مولودة في هونغ كونغ عام 1976، معروفٌ عنها اهتمامها بالسياسات التعليمية، فضلاً عن كونها عازفة بيانو في الحفلات الموسيقية، وهي تقود جهوداً عالميةً لمكافحة الخوف من الرياضيات، كما تكرّس جزءاً كبيراً من جهودها لتعليم الرياضيات لغير المختصين بها. لها كتب عديدة حول طبيعة الرياضيات وتعليمها وفلسفتها.

تؤكّد المؤلفة في مقدمتها للكتاب أنّ كتابها هذا ليس كتاباً عن تقنية رياضياتية أو تاريخ الرياضيات؛ بل هو عن المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات. تمضي في توضيح مشاعرها الشخصية فتكتب أنها حزينةٌ حقاً، لأنّ الرياضيات موضوعٌ صار مبعث هذا القدر العظيم من الاستقطاب المتنافر: البعضُ يرى الموضوع قريباً منه إلى حدّ أن يسمّي أعضاء هذا البعض أنفسهم «شعب الرياضيات» (Math People)، وفي المقابل ثمّة بعضٌ آخر مسكون بقناعة يقينية ثابتة بأنّ أعضاءه سيئون في الرياضيات. يجب علينا في هذا الموضع ألا نتناسى حقيقة جوهرية: القليلُ - والقليل للغاية فحسب - من خصائص السلوك البشري يمكن توصيفها بتوصيفات قاطعة على شاكلة أبيض أو أسود. قدراتنا البشرية غالباً ما تقعُ في نطاق طيف مستمر (Continuum)، لكنّ الشيء الأكثر أهمية فيما يخصُّ قدراتنا البشرية هو أنّ كل قدرة من هذه القدرات يمكن أن تصبح أفضل لو تلقّى المرء تدريباً جاداً بطريقة صحيحة. ليس من الضروري أن يدع المرء منّا ندوبَ ذاكرته الناجمة عن تجاربه المدرسية المؤلمة هي ما يشكّلُ رؤيته المستقبلية تجاه أي حقل معرفي وليس الرياضيات فحسب. تكتب المؤلفة في هذا الشأن:

«من جانبي أعلمُ من خبرتي التعليمية المتواترة أنني عندما مارستُ تجربة تعليم الرياضيات لأطفال بعمر الخامسة أو السادسة، فإنّهم أغلب الأحيان كانوا يتقافزون بهجة وفرحاً وإثارة، ولم يعرفوا تجربة الخوف من الرياضيات إلا في سنوات لاحقة. المعضلة الأساسية، كما أحسبُ، تكمنُ في تعجّلنا لنقل المحتوى التقني للرياضيات إلى الدارسين. نحن في العادة لا نمنحُ مشاعر الدارسين كفايتها من الاهتمام بمثل ما نفعلُ مع المحتوى التقني. المناهج التعليمية للرياضيات تفشلُ في تحبيب الأطفال بالرياضيات وزرع حبها فيهم. ليست هذه المثلبة مخصوصة على معلّمي الرياضيات فحسب؛ إذ لا يمكن تبرئة المنظومة التعليمية منها».

المنظومة التعليمية تقيسُ مقدرة الدارسين على أساس الإنجاز التقني وليس بهجة التعلّم؛ لكن في كلّ الأحوال فإنّنا لو اتخذنا مبدأ التركيز على المحتوى التقني على حساب المشاعر فليس من المحتمل أن تفوز مشاعر البهجة في سباق الأفضلية التعليمية على أساس قياس النتائج المتحققة من الفاعلية التعليمية كلها. الأسوأ من فقدان بهجة التعلّم هو أن تنتج لنا العملية التعليمية أناساً يخافون الرياضيات ويُشكّكون بقيمتها الفاعلة إلى حدّ يجعلهم غير قادرين على تطبيق تقنيات القواعد المنطقية والكمّية في العالم الواقعي.

إنّ فكرة كون أحدٍ ما سيئاً في الرياضيات - وكأن الطبيعة أرادته أن يكون سيئاً بطريقة قصدية مسبقة - هي فكرة بائسة إلى حدود بعيدة ولأسباب كثيرة؛ فهي توكلُ أمر التفوق الرياضياتي إلى الطبيعة بصورة كسولة، وتنكرُ في الوقت ذاته حجم الجهد الذي يتطلبه التفوق في الرياضيات. تعلّم الرياضيات يتطلب زمناً وجَلَداً ومطاولة بالتأكيد؛ لكنّ ذلك الجهد لا يتوجّب بالضرورة أن يكون حفلة تعذيب شاقة، وليس من مسوّغ مقبول ليكون كذلك؛ بل على العكس يمكن أن يكون تحدياً مقروناً بحس المغامرة، ومن ثمّ المكافأة اللذيذة بدلاً من حس الخذلان وفقدان رغبة الاستمرارية وبهجة التعلّم. المقاربة التعليمية المفتقدة لحس البهجة والمغامرة في تعلّم الرياضيات ستكون سبباً كافياً لدفع كثرةٍ من الدارسين للتوقف عن دراسة الرياضيات، وفي المقابل سيكون من اليسير على المنظومة التعليمية اعتبارُ هؤلاء غير مناسبين أو ممتلكين للوسائل المناسبة الكافية لدراسة الرياضيات. بعد كلّ هذا فإنّ الوسائل الرتيبة المُنفّرة في تعليم الرياضيات ستوفّرُ للمعلّمين وصانعي السياسات عذراً يجعلونه سبباً لعدم مراجعة سياساتهم التعليمية والارتقاء بها عبر جعلها أكثر مرونةً وإبداعاً، وكذلك لتصميم مقاربات تعليمية من شأنها إيقافُ هذا الهدر البشري الذي قد يجعل كثرة من الموهوبين كارهين للرياضيات بسبب سياسات التعليم المنفّرة.

بعد مقدمتها المسهبة للكتاب التي تحكي فيها المؤلفة عن جوانب من سيرتها الذاتية مع الرياضيات (حبها ونفورها ثم عودة حبها للرياضيات خلال أطوار مختلفة من مسيرتها التعليمية، مساعدة أمها لها في جعل الرياضيات موضوعاً محبباً، جوانب من دراستها الدكتوراه، كيف ساعدتها الرياضيات في عشق الموسيقى والفن بعامة) تمضي المؤلفة في متون كتابها الذي وضعته في ثمانية فصول: الفصول الأربعة جعلتها تنقيبات مفاهيمية وفلسفية في أسئلة قد تبدو ساذجة لكنها ذات طبيعة وجودية تأصيلية عميقة: من أين تأتي الرياضيات؟ لماذا تنجح الرياضيات في عملها؟ لماذا نمارس الرياضيات؟ ما الذي يجعل الرياضيات ممارسة مفيدة؟ بعد هذه الفصول التأسيسية للفلسفة الرياضياتية تقدّم المؤلفة أربعة فصول إضافية تتناول تفاصيل إضافية منها على سبيل المثال فصل تقدّمُ فيه حكايات رياضياتية، وهو فصل أجده عظيم الأهمية في تعشيق الحقول المعرفية بالممارسة السردية التي تُعدُّ خصيصةً جوهريةً للإنسان كيفما كان ولعه المعرفي واشتغاله المهني.

تؤكّد المؤلفة كخلاصة جوهرية لكتابها:

«إنّه لأمرٌ يوجع قلبي حقاً عندما أرى النظام التعليمي الحالي وهو يجعلُ من بهجة غامرة لأطفال بأعمار الخامسة، وهم يتعلّمون الرياضيات لأوّل مرة في حياتهم، تستحيلُ خوفاً ونفوراً من الرياضيات عندما يبلغون الثامنة عشرة. حقيقةٌ واحدةٌ أراها بكل الوضوح ولن أجادل أبداً بشأن مصداقيتها: لو كنتَ ترى نفسك تنتمي لجماعة (أنا سيئ في الرياضيات) فاعلم أنّ قناعتك هذه ليست لأنّك عجزت عن فهم الرياضيات، بل لأنّ تعليم الرياضيات لم ينجح في جعلك تتحسس جمال الرياضيات وعظمتها، وقبل هذا أهميتها العملية في عالمنا المعاصر».

هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات

Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths

المؤلفة: إيوجينيا تشينغ

Eugenia Cheng

الناشر: Basic Books

عدد الصفحات: 336

تاريخ النشر: 2023