حفل تخريج طلاب الماجستير من مدرسة الأمير تشارلز للفنون التقليدية هو موعد سنوي ينتظره طلاب المدرسة وذووهم، وينتظره مسؤولو المدرسة، لعرض نتاج عامين من الدراسة المكثفة في شتى أنواع الفنون التقليدية، من الحفر على الخشب والأرابيسك، إلى الرسم على القماش ورسم المنمنمات والفخاريات، وغيرها من الفنون التراثية التي غابت عن الساحة وتراجع ما بقي منها إلى المتاحف بينما اختفى حرفيوها. المدهش في حفل التخرج السنوي هو الحماسة التي تنتاب الجميع من خريجين ومدرسين وزائرين لرؤية مشاريع التخرج بعد عامين من الانغماس في الهندسة والتصميم وإعداد الألوان والعمل اليدوي.
ووقف كل خريج إلى جانب مشروع التخرج الخاص به استعدادا لزيارة ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز، الذي يحرص على حضور حفل التخرج كل عام والتوقف للحديث مع كل خريج والتعرف على مشروعه وأعماله.
وبعد أن قام الأمير تشارلز بجولة بين المعروضات حرص خلالها على التوقف أمام كل عمل والسؤال حول تفاصيله، أبدى إعجابه بما رآه وقال لمن حوله «هؤلاء أشخاص رائعون»، وبعدها ألقى كلمة أشار فيها إلى أن المدرسة التي أكملت عامها العاشر كانت لها بداية أبكر من ذلك. وأضاف «أعجبت كثيرا بما رأيت اليوم هنا، وبالحديث مع البعض منكم في جولتي. لقد منحني هذا أملا في أن قواعد الطبيعة التي كانت أساسا للفنون التراثية لم تمت، وذلك بفضل أناس رائعين وآخرين مثلهم حول العالم، بعضهم تخرجوا في هذه المدرسة وغيرها. لقد حافظو على تلك التقاليد والتراث حيا. أقدم تهنئة قلبية لكل فرد منكم ولكل ما حققتموه، وأتمنى أن يتذكر كل واحد وهو يعمل في مجاله للمستقبل أن يظل إلهامكم، كما كان الحال بالنسبة لي، مستمدا من الحكمة الموجودة في نظام الطبيعة».
التجول بين مشاريع التخرج يبعث بالتفاؤل وبالأمل في أن يسهم الخريجون في إحياء الاهتمام بالحرف والفنون التراثية.
الفنانة السعودية الشابة سارة العبدلي، التي كانت لها مشاركات في معارض مختلفة في السعودية وفينيسيا ولندن، اختارت أن تدرس أصول وأسس الفنون التراثية في لندن. تعرض نموذجا مصنوعا من الجبس لباب خشبي عتيق، وتكمل النموذج الجبس بعرض رسومات تبين تصميم الباب وتفصيل زخارفه. الباب بالتأكيد يبدو مألوفا للعين، وهذا ما تؤكده لنا سارة، فهو مستوحى من باب أحد البيوت القديمة في مدينة جدة. لكن سارة عثرت على إلهامها وعلى ذلك الباب العتيق ليس في أحد شوارع جدة القديمة، بل في متحف الأشموليان بمدينة أكسفورد. تقول في حديثها مع «الشرق الأوسط» إن التحاقها بمدرسة الأمير تشارلز للفنون التراثية كان نتاجا لاهتمامها بالطراز المعماري في منطقة الحجاز. وتشير إلى مجسم الباب الذي صنعته قائلة «عندما فكرت في المشروع بحثت عن العناصر التي فقدناها في الطراز المعماري عندنا. وبالصدفة رأيت هذا الباب الذي ينتمي لمعمار مدينة جدة القديمة عندما كنت في زيارة لمتحف الأشموليان في أكسفورد، وعرفت وقتها أن لورنس العرب قد حمله معه إلى بريطانيا. قمت بتصويره بالجوال واعتمدت على الصورة بشكل كبير». تقول سارة إن دراسة الهندسة والتكوينات الهندسية كانت من النقاط المهمة لها خلال الدراسة في المدرسة «حسب ما تعلمناه هنا فإن الهندسة هي الأساس في الزخارف الإسلامية والتقليدية، ولذلك حاولت فهم كل الموتيفات المبنية على رسومات هندسية، وبعد ذلك أعددت الرسومات وانتقلت إلى التصميم».
أتساءل ما الذي أضافته لها دراسة الحرف التقليدية؟ تقول «التعرف على مختلف الحرف التقليدية في العالم الإسلامي مكسب كبير خاصة أنه لا يوجد مكان لممارسة هذه المهن التي في طريقها للاندثار. كان شرفا كبيرا لي أن أتعرف على تلك المهن وأن أزاولها بنفسي وأن أتعمق في فلسفة الفن الإسلامي».
بعد حصولها على الماجستير تنوي سارة أن تعود إلى جدة، وأن تستمر في مجال الفنون الحرفية، خاصة فن السيراميك والجبس الذي بدأته خلال دراستها، وتقول إنها تنوي تأسيس مكان خاص بها تؤثثه بلوازم الحرفة مثل الأفران الخاصة.
أما شاهين قاسماني، وهي شابة من لندن، فتقول إن رغبتها في دراسة الرسم على القماش جعلتها تترك وظيفتها كمعلمة لغة إنجليزية لبعض الوقت حتى تلتحق بمدرسة الأمير تشارلز. تعرض قاسماني مشروع التخرج الخاص بها، على هيئة باب مصنوع من القماش محمل بالزخارف الإسلامية، ونرى تصورها عبر رسومات ورقية معروضة على الحائط المقابل. وتشرح لنا فكرة المشروع بقولها «هذا التصميم من أحد أبواب جامعة القرويين في فاس التي أسستها فاطمة بنت محمد الفهري، حيث أردت أن يكون لمشروعي جانب نسائي وجانب يتعلق بالتعليم». ننتقل من الرسومات إلى العمل النهائي ونرى الباب تحول إلى قطع من الحرير تنسدل في طبقات تحمل نقوشا إسلامية بديعة لونت باليد، وهو ما استغرق أشهرا من العمل كما تذكر شاهين. إلى جانب القطعة الرئيسة تعرض شاهين عددا آخر من الأعمال التي نفذتها، منها لوحات تحمل أقوالا لشخصيات مؤثرة، ولوحات تحمل تصميمات هندسية إسلامية لأغلفة كتب. تقول «أردت أن أقدم تنويعات على فكرة التعليم والكتب والعلم، وكل الأعمال مصنوعة باليد وبأصباغ مصنوعة يدويا».
تشير إلى لوحة صغيرة منفذة بالقماش تحمل رسومات لماكينات خياطة تقليدية وتقول إن خطوتها القادمة ستكون في مشروع تعبر من خلاله عن معاناة عمال مصانع الملابس في بنغلاديش وإندونيسيا وغيرهما «هذه اللوحة تحية مني للعمال الذي قضوا حياتهم يعملون في تلك الظروف الصعبة».
الفنان السعودي أحمد عنقاوي معروف بحبه للتراث والمعمار القديم، خاصة في مدينته جدة، وظهر ذلك العشق في عدد من أعماله التي عرضت في عدد من دول العالم. عنقاوي أيضا يعمل كمصمم، وربما كان ذلك التزاوج بين الفن والتصميم هو الذي أغراه بالانضمام لبرنامج الماجستير في مدرسة الأمير تشارلز للفنون التراثية، وجاءت هذه الخطوة أثناء وجوده في لندن للمشاركة في معرض فني. يقول «كنت في زيارة لمدة ثلاثة أيام لكنها امتدت إلى عامين. أردت أن أتعلم الهندسة والحرف التي أهتم بها. قررت أن أوثق وأحلل وأبدع وأن أربط بين الفن والتصميم والعمارة». يشير إلى قطعة خشبية وضعها في إطار على الحائط، يشرح لنا «هذه القطعة وجدتها ملقاة على الأرض في منطقة البلد بجدة، كانت جزءا من أحد البيوت القديمة والذي تهدم. احتفظت بها وكتبت إلى جانبها بعض المعلومات عنها وطريقة عملها وأين وجدت».
وفي الوقت الذي ينعى فيه الكثيرون اندثار وتهدم الأحياء القديمة يختار أحمد عنقاوي أن يكون دوره أكثر إيجابية «أسهل شيء أن نشير إلى الخطأ، لكني أريد أن أكون جزءا من الحل. ركزت على حرفة بسيطة ووجدت فيها جوانب جميلة، فمثلا (يمسك بقطعة خشبية طويلة) هذه قطعة محفورة بشكل يحتاج لإضافة جزء مكمل لها في منظومة يطلق عليها (العاشق والمعشوق)، وهو وصف جميل، القطعة المنفردة ضعيفة لكنها تصبح قوية ومتماسكة إذا ضمت إلى القطعة المكملة لها.. هي رمزية جميلة نراها في النوافذ الخشبية (الرواشين) في جدة القديمة ولا ندري عنها الكثير. تعلمت هنا أشياء كثيرة وهناك أشياء أكثر أعتبرها تحديات بالنسبة لي». وعن المحطة التالية له يقول «أريد أن أعود إلى جدة وأن أركز على حرفة حجازية واحدة. أريد أن أصنع بيدي أعمالي الفنية. لديّ ورشة صغيرة في البلد في جدة، وسأعود إلى العيش في المنطقة التاريخية، فلا يجب أن نتعامل معها على أنها جانب فلكلوري للفرجة فقط، فلا بد أن تنتعش حرفها أيضا وتضج بالحياة».
أما شورش صالح، من كردستان، فيستقبل زوار ركنه في المعرض بابتسامة عريضة وبزي كردي تراثي، ويبادرنا بالقول إنه سعيد للغاية لأن الأمير تشارلز أعجب بسجادة من تصميمه وقرر شراءها. يضيف «تحدث معي حول كردستان والوضع في العراق، وتحدث عن الفنون وخلفيتي الكردية، وشرحت له مشروعي والسجادة المستوحاة رسوماتها من وصف الجنة وأنهارها وطيورها، وأعجب بها، وطلب مني زيارة حديقته لأصمم سجادة على شاكلتها».
الفنون التراثية تتألق في معرض خريجي مدرسة الأمير تشارلز
منها الرسم على الحرير والفخاريات وتصميم السجاد
الأمير تشارلز يستمع لشرح أحمد عنقاوي حول أعماله («الشرق الأوسط»)
الفنون التراثية تتألق في معرض خريجي مدرسة الأمير تشارلز
الأمير تشارلز يستمع لشرح أحمد عنقاوي حول أعماله («الشرق الأوسط»)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

