كارين كنايسل... وزيرة «مستعربة» تدافع عن نهج اليمين النمسوي ضد اللاجئين

علاقتها بموسكو تثير حفيظة خصومها داخل البلاد وخارجها

كارين كنايسل... وزيرة «مستعربة» تدافع عن نهج اليمين النمسوي ضد اللاجئين
TT

كارين كنايسل... وزيرة «مستعربة» تدافع عن نهج اليمين النمسوي ضد اللاجئين

كارين كنايسل... وزيرة «مستعربة» تدافع عن نهج اليمين النمسوي ضد اللاجئين

بالكثير من الحميمية والقليل من الدبلوماسية، رقصت وزيرة الخارجية النمساوية كارين كنايسل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حفل زفافها. وتمايلت الوزيرة اليمينية بين ذراعي «سيد الكرملين» أمام عدسات الكاميرات و200 مدعو. ولم تتردد، في اختتام الرقصة التقليدية بالانحناء أمامه انحناءة عميقة وطويلة، في تقليد تؤديه عادة الراقصات في النمسا... متناسية أنها و«شريكها» ليسا مجرد راقصين. فهي وزيرة خارجية دولة في الاتحاد الأوروبي تشغل حالياً رئاسة الاتحاد، أي تمثل أوروبا، وهو رئيس دولة عزلتها أوروبا في السنوات الماضية بسبب «تصرفاتها العدائية» في أوكرانيا بشكل أساسي. وبالتالي، التقطت الكاميرا الانحناءة وترجمتها الصحافة، ومعها، المعارضة السياسية بأنها دليل على «خضوعها» لسياسات موسكو.
الصور التي خرجت أخيراً من حفل زفاف وزيرة الخارجية النمساوية اليمينية كارين كنايسل تسببت في ضجة كبيرة، وانتقادات قاسية، ليس فقط من الأحزاب المعارضة في النمسا، لكن من الصحافة المحلية والأوروبية أيضاً. أما أوكرانيا فقد علّقت فوراً بأن «أي وساطة قد تريد النمسا أن تلعبها، بينها وبين روسيا، قد انتهت قبل أن تبدأ؛ لأنها لم تعد دولة حيادية».
ما زاد من غرابة هذا الزفاف أن كنايسل ليست صديقة مقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ذلك أن علاقتها به فتية لا تتعدى الأشهر القليلة منذ تسلمها منصبها نهاية العام الماضي. وزفافها من المفترض أنه خاص وحميم. وهي لم تحوّله إلى «مهرجان سياسي»، ولم تدعُ من الزعماء الأجانب إلا بوتين، كما أن عدد المدعوين لم يتخط المائتين. فما سر هذه الحميمية مع بوتين؟ وما الضرر الذي تسببت فيه؟
الواقع، أن كنايسل لا تنتمي رسمياً إلى أي حزب سياسي، لكن حزب الحرية اليميني المتطرف، الشريك في الائتلاف الحكومي الحالي، هو الذي سماها لمنصب وزيرة الخارجية. قبول كنايسل هذه التسمية بدا للبعض بأنه يتناقض مع شخصيتها وتاريخها، فهي تعتبر نفسها «مستعربة»، تفهم العرب والمسلمين وتعرف تاريخهم جيداً. إذ عاشت الوزيرة طفولتها في الأردن، حيث كان والدها طياراً مع العاهل الراحل الملك حسين، ويقال إنه لعب دوراً بإنشاء الطيران الملكي الأردني. وهي تتحدث العربية بطلاقة، وسبق لها أن حاضرت لفترة في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في العاصمة اللبنانية بيروت. وهي تقول عن علاقتها بالشرق الأوسط، إنها «لم تكن لتصبح الشخص الذي هي عليه اليوم» لو لم تعش طفولتها هناك. ومن هنا، كان قبلوها تمثيل حزب متطرّف يعادي المسلمين واللاجئين السوريين ويرفض استقبالهم، أمراً مستغرباً عند كثيرين.

طفولة في عمّان
لكن الحقيقة، أن كنايسل، رغم أنها تربّت في الأردن وتنقّلت بين عمّان وبيروت والقدس لسنوات طويلة، وتتحدث العربية بطلاقة من بين لغات أخرى، تحمل أفكاراً قريبة جداً من أفكار اليمين المتطرّف.
وبعد قبولها تولي حقيبة الخارجية في حكومة المستشار النمساوي اليميني سيباستيان كورتز، أجرت معها مجلة «در شبيغل» الألمانية مقابلة في فبراير (شباط) من العام الحالي، وسألتها عن سبب قبولها تمثيل حزب متطرّف. فردّت بأن قرارها لم يكن سهلاً. لكن قلقها وتردّدها، أو تفكيرها الطويل قبل قبول المنصب، لم يكن له علاقة بسياسة الحزب، بل بعملها الذي كانت تؤديها. وأضافت إنها «تحب ما تفعله»، أي الصحافة والتعليم، ولم تكن تريد التغيير.
وعندما سألتها «در شبيغل» عن رأيها بالهجرة، وتقاربها في ذلك من موقف حزب الحرية، قالت «في خريف عام 2015 عندما كان الجميع في أوروبا يتكلّم عن سياسة الترحيب (باللاجئين) عبّرت أنا عن آراء مختلفة، وقلت حينذاك أن انتبهوا لأن الأمر أكثر تعقيداً!». وأضافت تروي، أنها هي شخصياً أوت عائلات سورية لاجئة، وساعدت أفرادها على الانتقال إلى ملجأ. وتابعت تقول «الواقع أن هناك كماً كبيراً من الشبان الغاضبين تركوا بلادهم لعجزهم عن إيجاد وظائف ومن دون أي رؤية لمستقبلهم». وبهذا حذفت كنايسل الهدف الأساسي الذي دفع مئات آلاف السوريين إلى المخاطرة بحياتهم وعبور البحار والغابات للوصول إلى أوروبا طلباً للحماية من نظام يقتلهم ويدمّر منازلهم.
لكن لعل تصريحاتها تلك في عام 2015 كانت مفتاح دخولها إلى الحكومة. إذ اتصل بها حزب الحرية الذي أعجبته أفكارها المعادية للمهاجرين على الرغم من خلفيتها الشرق أوسطية، وطلب منها إلقاء محاضرات. وهكذا بدأت علاقتها بالحزب المتطرّف، ومن ثم توثّقت، لتنتهي بأن يطلب منها تمثيله في الحكومة.

العرب واللاجئون
في مقابلة كنايسل مع «در شبيغل» تفصح الوزيرة النمساوية أكثر من ذلك عن طريقة تفكيرها ورأيها بالعرب واللاجئين. إذ بدأت بأنها تدعو لاستقبال مهاجرين «يحملون الأموال» وليس من هم في حاجة إلى حماية. وقالت عندما سُئلت إذا ما كانت تريد إغلاق حدود النمسا كما فعلت المجر لمنع دخول اللاجئين «بالطبع، أوروبا في حاجة إلى مهاجرين يغطّون النقص في سوق العمل. لكن مهندس برامج كومبيوتر هندياً لن يأتي إلى النمسا؛ لأنه يفضل الذهاب إلى دول تتكلم الإنجليزية. إضافة إلى ذلك، فإن هناك أشخاصاً من الشرق الأوسط أعرفهم يقولون لي إن البيروقراطية والقوانين الزائدة تضيف علينا عبئاً، وتجعل من الصعب نقل أعمالنا إلى دولتكم. إنهم يفضلون الذهاب إلى أماكن أخرى. خذوا مثلاً الملياردير (المكسيكي) كارلوس سليم: إنه من قرية في جنوب لبنان وذهب إلى المكسيك مع عائلته حاملين بضعة أكياس بلاستيكية. بالتأكيد علينا أن نغير شيئاً ما في أوروبا…».
إجابتها هذه تخلط بين اللاجئين والمهاجرين، وهو ما سارع محدّثها الصحافي إلى لفت نظرها إليه، فقال لها «لكننا في الوقت الحالي نتحدث عن لاجئين لا عن مهاجرين يبحثون عن فرص عمل». فكان ردها «النمسا لطالما كانت دولة مرحبة. لكن علينا أن نسأل أنفسنا أي أشخاص نرحب بهم!».
وتابعت «أذكر عندما تم إعلان حالة الطوارئ في بولندا وجدنا في صفنا بالمدرسة فجأة 5 تلاميذ من بولندا أتوا بمفردهم. وصلوا إلى النمسا من دون ذويهم... أعرف أيضاً الأمر نفسه حصل مع أشخاص من تشيكوسلوفاكيا والمجر... حافلات محمّلة بأشخاص من كل الأعمار، كبار السن... أطفال... مرضى... ليس فقط رجال يعانون الكبت الجنسي (!). بل أشخاص من دول مجاورة يشاركونا ثقافتنا!».
وبعدما انتقدت سياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لقرارها السماح بدخول ما يزيد على مليون لاجئ سوري، أنهت كنايسل حديثها بالإجابة عن سؤال أثار ضجة كبيرة في ألمانيا حول ما إذا كان الإسلام ينتمي للنمسا، فقالت «ليس الإسلام، لكن المسلمين النمساويين هم جزء من النمسا».

سوريا والكيماوي
آراء وزيرة الخارجية النمساوية حول الحرب في سوريا متقاربة أيضاً من الموقف الروسي. إذ كتب فلوريان ماركل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيينا سابقاً ومدير معهد «مينا ووتش» في النمسا، في معرض انتقاده لاختيارها وزيرة للخارجية «بعد أسبوع من الاعتداء الكيماوي المدمّر على ضواحي دمشق، في أغسطس (آب) 2013، أجرت كنايسل مقابلة مع قناة (أو آر أف) تشرح فيها لماذا قرّر (الرئيس الأميركي حينها) أوباما توجيه (تهديد) للنظام السوري. ولم تقتنع كنايسل بأن الاعتداء بالغاز السام الذي وقع ضحيته أكثر من ألف مدني… كان هو السبب». وأضاف أن كنايسل راحت تتحدث «بنظرية بعيدة كل البعد عما حصل، وتقول إن الولايات المتحدة تريد أن تنشط في سوريا لأن هذا سيرفع أسعار النفط وهذا سيفيدها…». وتابع ماركل مستهزئاً برأيها «إذا كان (اعتداء الغوطة) عملية اخترعت لمصالح أميركية… وبهذا التحليل تكون كنايسل قد برّأت الأسد الديكتاتور من أي مسؤولية».
وأضاف ماركل أن وزيرة الخارجية اعتمدت أيضاً موقفاً شبيهاً بعدما رفضت تحميل الأسد مسؤولية اعتداء كيماوي ثانٍ وقع في أبريل (نيسان) 2017، فكتب «نقلت كنايسل في حوار تلفزيوني عن صحافي تركي اسمه كان دوندار عن وجود أدلة تشير إلى أن الاستخبارات التركية هي وراء الاعتداء، وأنها زوّدت (جبهة النصرة) بالأسلحة، وهي التي نفذت الهجوم الكيماوي». وأضاف أن «المثير في رواية كنايسل أن الصحافي دوندار نفسه نفى ما نقل عنه، ووصف الرواية بأنها هراء تام». ورأى الكاتب بأن كنايسل متأثرة بالبروباغندا الروسية - السورية التي تحاول إخفاء الحقيقة.
بطاقة تعريف

- ولدت كارين كنايسل في فيينا عام 1965، وعاشت جزءاً من طفولتها في عمّان، حيث كان والدها يعمل طياراً خاصاً للملك حسين.
- عام 1982 سكنت لفترة لدى عائلة فرنسية أثناء دراستها تساعد في الاهتمام بالأطفال، وكانت تتابع أخبار الحرب اللبنانية بتفاصيلها. ويقال أنها كتبت رسالة للرئيس – آنذاك – أمين الجميل وأنه رد عليها.
- درست القانون واللغة العربية في جامعة فيينا بين عامي 1983 و1987.
- درست العلاقات الدولية في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة وفي الجامعة الأردنية في عمّان.
- حصلت على دكتوراه في شؤون الشرق الأوسط بعدما أجرت أبحاثها في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون بواشنطن.
- تتحدث إلى جانب الألمانية الإنجليزية والفرنسية والعربية والعبرية والإيطالية والإسبانية والمجرية.
- درّست في جامعة القديس يوسف في بيروت، وجامعة فيينا من بين جامعات أخرى، وعلمت صحافية لفترة، وكتبت لعدد من الصحف النمساوية.
- بين عامي 1990 و1998 عملت في مكتب القانون الدولي لمجلس الوزراء النمساوي قبل أن تترك السياسة وتنتقل إلى التعليم والصحافة.
- عادت إلى السياسة عام 2005 عضواً مستقلاً في مجلس بلدية سيبرسدورف.
- بين عامي 2011 و2015 كانت نائباً لرئيس الجمعية النمساوية للدراسات السياسية العسكرية.
- عام 2015 قالت في مقابلة تلفزيونية إن موجة اللجوء التي تشهدها أوروبا أسبابها اقتصادية.
- انتقدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بشدة بسبب سياستها الإيجابية إزاء اللجوء، ووصفت صورها «السيلفي» مع اللاجئين بأنها «إهمال فظيع».
- عام 2016 كان زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف هاينز كريستيان شتراخا على وشك أن يسميها مرشحته للرئاسة، لكنه عاد فاختار نوربرت هوفر الذي خسر أمام البيئي اليساري الكسندر فان دير بيلين.
- وجهت انتقادات لاذعة للرئيس النمساوي فان دير بيلين تتعلق بشخصية، ومشككة بذكائه. وانتقدت أيضاً البابا فرنسيس لتشبيهه معسكرات اللجوء بمعسكرات الاعتقال النازية.
- عُينت وزيرة للخارجية النمساوية في ديسمبر (كانون الأول) 2017 بعدما سماها حزب الحرية اليميني المتطرف لتمثله.
- تزوجت أخيراً رجل الأعمال وولفغاغ ميلينغر (54 سنة) في حفل في قرية صغيرة على الحدود مع سلوفينيا.


مقالات ذات صلة

يهود يمنعون رئيس البرلمان النمسوي من تكريم ضحايا الهولوكوست

أوروبا رئيس البرلمان النمسوي فالتر روزنكرانتس (أ.ف.ب)

يهود يمنعون رئيس البرلمان النمسوي من تكريم ضحايا الهولوكوست

منع طلاب يهود، الجمعة، أول رئيس للبرلمان النمسوي من اليمين المتطرف، من وضع إكليل من الزهور على نصب تذكاري لضحايا الهولوكوست، واتهموه بـ«البصق في وجوه أسلافنا».

«الشرق الأوسط» (فيينا)
يوميات الشرق المغنية الأميركية تايلور سويفت (أ.ب)

تايلور سويفت شعرت بـ«الخوف والذنب» بعد إحباط خطة لتفجير بإحدى حفلاتها

قالت المغنية الأميركية تايلور سويفت إنها شعرت بـ«الخوف» و«الذنب»، أمس (الأربعاء)، بعد إلغاء حفلاتها الثلاث في فيينا بسبب اكتشاف خطة لتفجير انتحاري خلال إحداها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا أعلنت السلطات النمسوية توقيف رجل ثالث بعد الكشف عن خطة لتنفيذ هجوم انتحاري خلال إحدى حفلات سويفت في فيينا (ا.ب)

واشنطن تؤكد تزويد النمسا بمعلومات استخبارية لإحباط هجوم ضد حفلات سويفت

أعلن البيت الأبيض، الجمعة، أن الولايات المتحدة زودت النمسا معلومات استخبارية للمساعدة في إحباط هجوم جهادي» كان سيستهدف حفلات لنجمة البوب الأميركية تايلور سويفت.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا المغنية تايلور سويفت في نيو جيرسي بالولايات المتحدة في 28 أغسطس 2022 (رويترز)

الشرطة النمساوية: المشتبه به الرئيسي في «المؤامرة الإرهابية» لعروض تايلور سويفت أدلى باعترافات كاملة

أفادت الشرطة النمساوية بأن المشتبه به الرئيسي في المؤامرة الإرهابية المزعومة التي كانت تستهدف عروضاً للمغنية تايلور سويفت في فيينا، أدلى باعترافات كاملة.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
أوروبا تايلور سويفت خلال حفل بفرنسا في 2 يونيو 2024 (أ.ب)

إلغاء حفلات تايلور سويفت في فيينا بعد كشف مخطط هجوم إرهابي

ألغيت ثلاث حفلات للنجمة الأميركية تايلور سويفت كانت مقرّرة في فيينا هذا الأسبوع، وفق ما أعلن المنظمون الأربعاء، بعد إعلان الشرطة كشف مخطط لهجوم إرهابي.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.