الموضة الأخلاقية... بين مسؤولية الصنّاع ووعي المستهلك

بعد أن تخلت عن استعمال الفرو، مثلها مثل كثير من بيوت الأزياء مؤخرا، أعلنت دار «رالف لورين» تخليها عن استعمال صوف الأنغورا في كل منتجاتها. جاء هذا بعد أن نشرت منظمة «بيتا» تقريرا تصف فيه الطرق غير «الرحيمة» التي تستعمل في قتل الماعز للحصول على صوفه المعروف بالموهير. وقد نجحت المنظمة المدافعة عن حقوق الحيوانات، إلى الآن، في إقناع «أيتش أند إم» و«زارا» و«توب شوب» إلى جانب نحو 270 علامة تجارية أخرى. كان آخرهم «رالف لورين»، بوقف استعمال الموهير بحلول 2020، وصرحت الدار باسم متحدثها الرسمي بأنها «في غياب طرق أخلاقية ورحيمة للحصول على هذا الصوف، فإننا لن نستعمله في منتجاتنا بعد الآن». هذه الحركة النشطة في عدم استعمال جلود طبيعية تأخذنا إلى نحو عقد من الزمن عندما كان الأمر مختلفا تماما.
ففي عام 2001 وعندما وعدت ستيلا ماكارتني بعدم استعمال جلود الحيوانات الطبيعية لم يأخذها كثيرون على محمل الجد، ولا سيما أنها كانت تخطو أولى خطواتها في عالم الموضة. واعتقدوا أنها مجرد مصممة مدللة تنحدر من أسرة غنية ومشهورة، بينما كان أغلبهم يؤمن أن الموضة لا يمكن أن تستغني عن هذه الجلود، فمن دونها لا يمكن أن تكتمل الأناقة والترف. وهكذا لم يتوقع أحد استمرار المصممة، فما البال بنجاحها؟! في المقابل ظلت هي متمسكة برأيها ألا تقتل أي حيوان باسم الموضة. وأوفت بوعدها طوال هذه السنوات رغم أن الأمر كلفها وظيفة مهمة في دار «سان لوران» في عهد توم فورد وهي في بدايتها. ولم تكتف بعدم استعمال الفرو والجلود، بل رفضت رفضا باتا استعمال أي مواد تدخل فيها مكونات حيوانية، فمثلا استغنت عن استعمال «بي في سي» بعد أن أخبرتها شركة «أديداس» عن كمية المواد الكيمياوية التي تدخل فيه وتشكل خطرا على صحة العاملين على صناعته، كما أنها لا تستعمل أي مواد كيماوية في عطورها.
لقد مر أكثر من عقد من الزمن ولم تتغير النظرة إلى الموضة فحسب، بل تغير العالم بأكمله. زاد عدد النباتيين إلى حد القول: إن الأمر أصبح موضة قائمة بذاتها، كما زاد الاهتمام بالبيئة وبالعزوف عن استعمال الجلود الطبيعية، مع ظهور جيل جديد من الزبائن لهم اهتمامات واسعة. وكان رفضهم وجيها، يتخلص في أن صناعة الموضة وتقنياتها تطورت بشكل أصبح يساعد على صُنع منتجات لا تقل فخامة وأناقة من دون الحاجة إلى قتل كائنات حية من أجل جلودها أو أنيابها وما شابه من أمور، وربما يكون الفرو أكثر ما يتعرض للاتهام والرفض مؤخرا. الأمر الذي دفع كثيراً من بيوت الأزياء العالمية مثل «غوتشي» و«تومي هيلفيغر» و«شانيل» و«رالف لورين» وغيرها للانضمام لحملة رفض استعماله. وإلى الآن قد تكون دار «فندي» هي الوحيدة من بين بيوت الأزياء الكبيرة التي لا تستطيع الاستغناء عنه بحكم أنها تقوم عليه وكذا ماركتها المسجلة منذ بدايتها إلى اليوم.
ورغم أن «الموضة الأخلاقية» اكتسبت شعبية بعد أن تبناها النجوم والمشاهير، فلا تُخفي ماكارتني أن هذا التوجه وضعها في «عزلة» ولم يكن مريحا في بداية مشوارها، فقد كانت تتمنى لو أن صناع الموضة ساندوها بالبحث عن خيارات مستدامة عوض تخبطها وحدها لسنوات، قبل أن تنجح في الترويج لشعار أن «أي استثمار في البيئة هو استثمار في حياة أفضل».
هذا العام، نجحت أخيرا في شراء الحصة التي كانت مجموعة «كيرينغ» الفرنسية قد استحوذت عليها منذ أكثر من عقد من الزمن. ولا شك أن المجموعة، التي تمتلك بيوت أزياء أخرى لا تقل أهمية مثل «بوتيغا فينيتا» و«ألكسندر ماكوين» وغيرها، وتبنت أيضا مفهوم الاستدامة في طرق إنتاجها ومبانيها وحرفييها، ساهمت بشكل كبير في التوسع العالمي الذي شهدته علامة «ستيلا ماكارتني»، لكن هذا لا يمنع من القول: إن أي مصمم يرغب في الاستقلالية، أقل ما يجب عليه أن تكون له الكلمة الأولى والأخيرة فيما يُقدمه، مهما كانت المجموعة التي ينضوي تحتها متفهمة.
الآن هناك أسماء كثيرة تتبنى المبادئ نفسها. ولا يقتصر الأمر على الموضة وحدها، بل على مجالات أخرى، مثل المطاعم والفنادق وغيرها، لأن الكل بات يعي أن كل ما هو «مستدام» أصبحت له رنة مثيرة لما يتضمنه من رسالة إنسانية.
أما التحدي الذي يعتقد البعض أنه لا يزال يحتاج إلى شرح، فهو كيف يتم استيراد القطن من الهند، وغزله في بنغلاديش، وصبغه في مكان آخر قبل أن توضع اللمسات الأخيرة عليه في إيطاليا أو فرنسا، ولا سيما أن المستهلك لا يريد أن يعرف كل هذه التفاصيل، بل النتيجة فقط، وهذا ما يحاول مصممون شباب إيصاله بلغتهم إلى أبناء جيلهم.
يقول بين ألون جونز، مؤسس علامة «أنمايد» UnMADe وخريج «ذي روايال كوليدج أوف آرت» بلندن، إن «كل ما هو مستدام ويحترم الآخر ومصلحته، مهم بالنسبة لي». ويضيف المصمم، الذي يتخصص في غزل الصوف بطرق صناعية جديدة، أن هناك إمكانية كبيرة لجعل الإنتاج مواكبا للعصر ومتطلباته الجديدة. فالمسألة «ليست صعبة بل تحتاج فقط إلى توعية ومعرفة بمصادر الخامات وطرق إنتاجها عوض التركيز على الخيارات الأرخص وتحقيق الربح» حسب قوله.
من جهته يرى ديفيد هيوت، مؤسس ماركة «هيوت دينم» بمنطقة وايلز، أن صناعة الموضة ككل تحتاج إلى إعادة نظر في مفهوم «الاستدامة»، قائلا: «كشركة نحن مسؤولون عن العاملين الذين يصنعون الجينز، وعن الأرض التي يُزرع فيها القطن، وعن التأكد من الجودة والنفايات التي نخلفها، أي أنه علينا أن ننظر إليها ككل وليس كجزء». وبرأيه أيضا، أنه كلما كانت بنطلونات الجينز جيدة وتدوم مدة أطول كان هذا جزءا من عملية الاستدامة بالنظر إلى أن الموضة الجاهزة والسريعة جزء كبير من المشكلة المطروحة.
عارضة الأزياء العالمية أمبر فاليتا صرحت في مؤتمر أقيم حول علاقة البيئة والموضة بأن «الموضة هي ثاني صناعة تؤثر سلبا على العالم». وأضافت بأنه رغم وجود كثير من العاملين في هذه الصناعة ممن يشاطرونها الرأي، فإنهم خائفون من اتخاذ أي قرارات حازمة والتصريح بها علانية، لأنها قد تؤثر عليهم وتثير الجدل حولهم. وهذا ما حصل فعلا مع دار «بيربري» التي كانت سباقة منذ نحو شهر في الإعلان بشفافية عن حجم البضاعة الفائضة التي تتخلص منها.
وفي المؤتمر نفسه، أشارت ستيلا ماكارتني، إلى أن المسؤولية تقع على المستهلك أيضا. فمن الصحيح أنه على صناع الموضة اتخاذ مواقف شجاعة «وعلى المصممين أن يراعوا الآخر، لكن على المستهلك أيضا أن يُقبل على ما نقدمه. فلئلا يتوقف النول عن النسج ولتحصل اليد العاملة على أجور محترمة، عليه أن يدرك مفهوم الاستدامة... حينها فقط نستطيع أن نقف يدا واحدة ونتقدم».
الملاحظ أن هناك توجها كبيرا، من المجموعات الضخمة مثل «كريينغ» لتبني مفهوم الموضة المسئوولة أو الأخلاقية كما يطلق عليها، الأمر الذي يدعو للتفاؤل بأنها ستكون موضة المستقبل، بدءاً استعمال خامات طبيعية مثل «القطن العضوي» بدل القطن العادي... إلى استعمال صبغات طبيعية وما شابه من أمور.
فقد تبين أن زراعة القطن من بين أكثر الزراعات استهلاكا للماء، إذ إن إنتاج كيلو من القطن يتطلّب 150 لترا من الماء، عدا أنه يستهلك قرابة 11 في المائة من الإنتاج العالمي للأسمدة الكيماوية و25 في المائة من الإنتاج العالمي لمبيدات الحشرات. لهذا فإن الأبحاث قائمة لإيجاد بدائل أخرى أقل تأثيرا، مثل الصوف والجلود النباتية بدل الحيوانية، وأيضا صباغة الأقمشة ودباغة الجلود بمواد مستخلصة من النباتات والأزهار بدل الصبغات الكيماوية.
ويعتقد صناع الموضة الموالون لهذا التوجه، أن المستهلك له دور كبير في إنجاح هذا التوجه، فهو متقبل له إلى الآن، بشرط عدم التنازل عن الأناقة، ليبقى التحدي الوحيد هو البحث عن تقنيات جديدة للحصول على هذه النتيجة، وتقنين الإنتاج.