توافق لبناني على «خروج السوريين» وانقسام حول الشروط

TT

توافق لبناني على «خروج السوريين» وانقسام حول الشروط

في خضم الانقسام السياسي اللبناني حول ملف عودة النازحين السوريين الذي كثيراً ما شكل مادة للانقسام السياسي بين من يطالب بـ«عودة طوعية»، ويشترط عدم التنسيق أو التطبيع مع النظام السوري وبين من يتحدث عن «عودة آمنة»، ويرى ضرورة التنسيق مع الجانب السوري، جاءت المبادرة الروسية التي تقترح تشكيل لجنة ثلاثية من لبنان وسوريا وروسيا لتلاقي ترحيباً من مختلف الأوساط السياسية اللبنانية، ولا سيما أنها تحظى بمباركة دولية ولا تشترط التواصل السياسي مع النظام السوري، بحسب مصدر مطلع ومتابع لتشكيل هذه اللجنة لـ«الشرق الأوسط».
اللجنة، التي توجه جورج شعبان، مستشار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري للشؤون الروسية، إلى موسكو من أجل الاطلاع على آخر مستجداتها، وتحديداً في موضوع المفاوضات الروسية - الأوروبية بشأن إعادة إعمار سوريا، ستكون لجنة أمنية لوجيستية كما بات معروفاً، ولن يرتبط تشكيلها بتشكيل الحكومة؛ إذ يكفي الاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري.
في هذا الإطار، أوضح المصدر أنه في حال تشكيل اللجنة سيكون التنسيق السياسي مع الجانب الروسي فقط، وهذا ما يتمسك به الرئيس الحريري ولن يتنازل عنه، وأضاف، أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم ينسق أمنياً مع السوريين بطبيعة لحال.
وتشكل المبادرة الروسية بصيص أمل بإمكانية حل ملف النازحين السوريين في لبنان، ولا سيما أنه من المعروف أن هذا الملف لم يكن يوماً لبنانياً، كما يؤكد وزير الدولة لشؤون النازحين في حكومة تصريف الأعمال، معين المرعبي، مذكّراً بأن الدولة اللبنانية كانت ولا تزال تتعامل مع الموضوع من منطلق أخلاقي إنساني؛ إذ لا يمكن أن تتحمل عودة هؤلاء ووجودهم تحت رحمة نظام استخدم شتى أنواع الأسلحة ضدهم.
ويشرح المرعبي، أن الدولة اللبنانية تريد إنهاء هذا الملف، لكن من دون التطبيع مع النظام السوري، ومن دون إجبار الناس على العودة، وبالطبع عبر التواصل مع الأطراف القادرة على إعطاء الضمانات، ومن هنا يرى أن المبادرة الروسية لتشكيل لجنة ثلاثية في هذا الشأن قد تعمل؛ وذلك لأسباب عدة، أولها أن التفاوض سيكون مع الجانب الروسي باعتبار وجود الطرف السوري لا يخرج عن إطار حفظ ماء الوجه، ولأن روسيا قادرة على إعطاء الضمانات التي تريدها الدولة لسلامة هؤلاء النازحين في حال عودتهم، انطلاقاً من الحقيقة التي تقول إن الروس يسيطرون على معظم المناطق السورية.
ويرى المرعبي الوجود الروسي في سوريا حالياً مثلما كان وجود «قوات الردع» في لبنان؛ فروسيا الآمر الناهي، متمنياً أن تقوم الولايات المتحدة أيضاً بمبادرة مشابهة في المناطق التي تسيطر عليها داخل سوريا، قائلاً «كل ما نريده هو مناطق آمنة وضمانات لإعادة السوريين».
وعلى الرغم من الآمال المعقودة على هذه المبادرة وترحيب الجانب اللبناني فيها، فإن الأمر يتطلب دعماً دولياً وتحديداً أوروبياً، كما يقول المرعبي، ولا سيما أن روسيا تقول للأوروبيين «أنا الضامن لحل ملف اللاجئين والعودة الآمنة لهؤلاء، لكن مقابل إعادة إعمار سوريا، أي عودة النازحين مقابل تمويل عملية إعادة الإعمار التي سيتولاها الروسي؛ لذلك لا يمكن نجاح هذه المبادرة من دون دعم الأوروبيين».
ولبنانياً، يرتبط تشكيل اللجنة الثلاثية بتشكيل الحكومة؛ إذ لا يمكن أن نرى هذه اللجنة قبل تشكيل الحكومة كما يقول مرعبي، موضحاً أن «التطبيع مع دمشق هو أيضاً من أحد أسباب تأخر تشكيل الحكومة، ولا سيما أن الفريق الذي نال أغلبية في الانتخابات النيابية بسبب طبيعة قانون الانتخاب يجنح ويصر على التطبيع مع هذا النظام الذي ترفض الحكومة اللبنانية التواصل معه».
وفي حين يعيد المرعبي التذكير بأن الحكومة اللبنانية لم ولن تعطي أي غطاء رسمي لأي سياسي زار دمشق أو تفاوض في هذا الصدد، ينتقد اللجان «غير القانونية والدستورية» التي ظهرت مؤخراً، في إشارة إلى تشكيل «حزب الله» والتيار الوطني الحر لجنتين منفصلتين لتنسيق عودة النازحين، معتبراً أنها وبعد المبادرة الروسية لم يعد لها وجود، قائلاً «روسيا القوة المهيمنة في سوريا حالياً ومبادرتها جمدت كل المبادرات؛ لأن الروسي يقول أنا الضمانة أنا الموجود، وعندما يتكلم الروسي ينتفي دور الأحزاب أو يبقى فقط في الإطار الذي يسمح به الروسي»، مشيراً إلى أن الروس يقومون حالياً ببناء سواتر على الجهة السورية من الحدود اللبنانية - السورية لمنع دخول أو خروج السوريين من وإلى لبنان؛ الأمر الذي يجعل إعادة هؤلاء حتى بطريقة غير شرعية أمراً صعباً.
ويرى مرعبي أن أصحاب هذه المبادرات أو لجان إعادة اللاجئين وضعوا أنفسهم في منافسة مع الروس بعدما وضعوا أنفسهم بمواجه مع الدولة اللبنانية؛ فعلى سبيل المثال أعلن «حزب الله» وبعدما رأى أن الأمن العام قام بتسجيل 3 آلاف لاجئ، تشكيل لجنة تهدف إلى الأمر نفسه، وكأنه يضع نفسه بمنافسة مع الدولة. واليوم وبعد ظهور المبادرة الروسية بات أصحاب هذه اللجان بمنافسة مع الروس الذين كانوا صريحين عندما قالوا مؤخراً إنه لن يكون على الحدود اللبنانية - السورية غير الروس والنظام من الجهة السورية، والدولة اللبنانية من الجهة اللبنانية أي ليس الأحزاب؛ الأمر الذي يعتبر مؤشراً على عدم قبول لأي دور لـ«حزب الله» في هذا الملف.
وكان «حزب الله» أعلن على لسان أمينه العام حسن نصر الله نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي عن تشكيل لجنة تساهم بإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم انطلاقاً من العلاقة القائمة مع الحكومة السورية، وقال مسؤول «ملف النازحين السوريين في (حزب الله)» النائب السابق نوار الساحلي، في تصريحات صحافية سابقة، إن اللجنة ستعمل على إعادة النازحين السوريين الذين يرغبون بالعودة الطوعية إلى بلادهم، وأنه سيتم العمل على الأمر من خلال مراكز متخصصة افتتحت في بيروت والجنوب والبقاع، حيث يملأ النازحون استمارات تجمع وترسل إلى المعنيين في سوريا، وبعدها يتم الاتصال بالأمن العام اللبناني لإتمام الأمر. وبعد إعلان «حزب الله» عن إطلاق هذه اللجنة أعلن التيار الوطني الحر إطلاق اللجنة المركزية لعودة النازحين السوريين، وقوبل إطلاق هاتين اللجنتين بعدد من الانتقادات السياسية باعتبارهما تجاوزاً لدور الدولة وغير مقنعتين باعتبار أن «حزب الله» كان وعبر مشاركته في الحرب السورية سبباً من أسباب تهجير السوريين ونزوحهم إلى لبنان، وهنا يقول مرعبي «من المفارقة أن يتصرف (حزب الله) وكأنه جمعية إنسانية أو الصليب الأحمر في ملف إعادة النازحين وهو الذي وبمشاركته في الحرب السورية كان سبباً من أسباب النزوح».
ينظر تكتل لبنان القوي الذي يرأسه وزير الخارجية جبران باسيل إلى المبادرة الروسية حول تشكيل اللجنة الثلاثية بشكل إيجابي، ولا سيما أنها تتمتع بمباركة دولية؛ الأمر الذي يسهل عملها، ويؤكد دعمه هذه المبادرة انطلاقاً من أنها تهدف إلى ما يعمل عليه في ملف إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم.
في هذا الإطار، يؤكد النائب في التكتل جورج عطا الله، أن «لبنان القوي» والتيار الوطني الحر سيقومان بدعم هذه المبادرة لأن هدفهما الأول والأخير هو حل موضوع النازحين في لبنان. وأضاف عطا الله، أن اللجنة ستستكمل عملها طالما أن المقترح الروسي لم يوضع موضع التنفيذ ولم تشكل اللجنة بعد، مبدياً استعداد التيار الوطني الحر للتنسيق مع هذه اللجنة ودعمها والتعاون معها، وبخاصة أنها تتخذ غطاءً دولياً يسهل عملها ويسرع الوصول إلى النتائج المرجوة.
ولم يرفض عطا الله فكرة إيقاف عمل لجنة التيار في حال شُكلت اللجنة الثلاثية وكانت كافية. وفيما خص ما يقال عن موضوع العودة الطواعية قال: إن المصطلح الذي يجب استخدامه هو «العودة الآمنة»، وأن اللجنة من الأساس لم تشكل لإجبار أحد على العودة أو للمزايدة السياسية، بل انطلاقاً من واجب وطني يحتم ضرورة إيجاد حل للنازحين في لبنان، ولا سيما أن واقع الحال لم يعد يحتمل، معتبراً أن الجزء الأكبر من السوريين الموجودين في لبنان نازحون اقتصاديون، ولا سيما أن معظمهم يأتون من مناطق آمنة وليست على الحدود اللبنانية؛ فكان بإمكانهم الذهاب إلى الأردن أو تركيا، لكنهم أتوا إلى لبنان من أجل العمل بسبب التسهيلات التي قدمت من لبنان وعدم تعاطي الدولة بجدية مع هذا الموضوع.
ويتساءل عطا الله، كيف يمكن أن نصنف من يرسل المال إلى عائلته التي تقيم في سوريا آمنة بنازح لأسباب أمنية؟!... مضيفاً، أن الأرقام تؤكد أن أكثر من 400 ألف نازح غادروا لبنان خلال عيد الفطر ومن ثم عادوا إليه؛ الأمر الذي يوضح أن النزوح ليس أمنياً بل اقتصادياً، وأنه لا بد من إيجاد توجه وطني جامع لحل هذه المسألة نأمل أن تحمله المبادرة الروسية.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.