توافق لبناني على «خروج السوريين» وانقسام حول الشروط

TT

توافق لبناني على «خروج السوريين» وانقسام حول الشروط

في خضم الانقسام السياسي اللبناني حول ملف عودة النازحين السوريين الذي كثيراً ما شكل مادة للانقسام السياسي بين من يطالب بـ«عودة طوعية»، ويشترط عدم التنسيق أو التطبيع مع النظام السوري وبين من يتحدث عن «عودة آمنة»، ويرى ضرورة التنسيق مع الجانب السوري، جاءت المبادرة الروسية التي تقترح تشكيل لجنة ثلاثية من لبنان وسوريا وروسيا لتلاقي ترحيباً من مختلف الأوساط السياسية اللبنانية، ولا سيما أنها تحظى بمباركة دولية ولا تشترط التواصل السياسي مع النظام السوري، بحسب مصدر مطلع ومتابع لتشكيل هذه اللجنة لـ«الشرق الأوسط».
اللجنة، التي توجه جورج شعبان، مستشار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري للشؤون الروسية، إلى موسكو من أجل الاطلاع على آخر مستجداتها، وتحديداً في موضوع المفاوضات الروسية - الأوروبية بشأن إعادة إعمار سوريا، ستكون لجنة أمنية لوجيستية كما بات معروفاً، ولن يرتبط تشكيلها بتشكيل الحكومة؛ إذ يكفي الاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري.
في هذا الإطار، أوضح المصدر أنه في حال تشكيل اللجنة سيكون التنسيق السياسي مع الجانب الروسي فقط، وهذا ما يتمسك به الرئيس الحريري ولن يتنازل عنه، وأضاف، أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم ينسق أمنياً مع السوريين بطبيعة لحال.
وتشكل المبادرة الروسية بصيص أمل بإمكانية حل ملف النازحين السوريين في لبنان، ولا سيما أنه من المعروف أن هذا الملف لم يكن يوماً لبنانياً، كما يؤكد وزير الدولة لشؤون النازحين في حكومة تصريف الأعمال، معين المرعبي، مذكّراً بأن الدولة اللبنانية كانت ولا تزال تتعامل مع الموضوع من منطلق أخلاقي إنساني؛ إذ لا يمكن أن تتحمل عودة هؤلاء ووجودهم تحت رحمة نظام استخدم شتى أنواع الأسلحة ضدهم.
ويشرح المرعبي، أن الدولة اللبنانية تريد إنهاء هذا الملف، لكن من دون التطبيع مع النظام السوري، ومن دون إجبار الناس على العودة، وبالطبع عبر التواصل مع الأطراف القادرة على إعطاء الضمانات، ومن هنا يرى أن المبادرة الروسية لتشكيل لجنة ثلاثية في هذا الشأن قد تعمل؛ وذلك لأسباب عدة، أولها أن التفاوض سيكون مع الجانب الروسي باعتبار وجود الطرف السوري لا يخرج عن إطار حفظ ماء الوجه، ولأن روسيا قادرة على إعطاء الضمانات التي تريدها الدولة لسلامة هؤلاء النازحين في حال عودتهم، انطلاقاً من الحقيقة التي تقول إن الروس يسيطرون على معظم المناطق السورية.
ويرى المرعبي الوجود الروسي في سوريا حالياً مثلما كان وجود «قوات الردع» في لبنان؛ فروسيا الآمر الناهي، متمنياً أن تقوم الولايات المتحدة أيضاً بمبادرة مشابهة في المناطق التي تسيطر عليها داخل سوريا، قائلاً «كل ما نريده هو مناطق آمنة وضمانات لإعادة السوريين».
وعلى الرغم من الآمال المعقودة على هذه المبادرة وترحيب الجانب اللبناني فيها، فإن الأمر يتطلب دعماً دولياً وتحديداً أوروبياً، كما يقول المرعبي، ولا سيما أن روسيا تقول للأوروبيين «أنا الضامن لحل ملف اللاجئين والعودة الآمنة لهؤلاء، لكن مقابل إعادة إعمار سوريا، أي عودة النازحين مقابل تمويل عملية إعادة الإعمار التي سيتولاها الروسي؛ لذلك لا يمكن نجاح هذه المبادرة من دون دعم الأوروبيين».
ولبنانياً، يرتبط تشكيل اللجنة الثلاثية بتشكيل الحكومة؛ إذ لا يمكن أن نرى هذه اللجنة قبل تشكيل الحكومة كما يقول مرعبي، موضحاً أن «التطبيع مع دمشق هو أيضاً من أحد أسباب تأخر تشكيل الحكومة، ولا سيما أن الفريق الذي نال أغلبية في الانتخابات النيابية بسبب طبيعة قانون الانتخاب يجنح ويصر على التطبيع مع هذا النظام الذي ترفض الحكومة اللبنانية التواصل معه».
وفي حين يعيد المرعبي التذكير بأن الحكومة اللبنانية لم ولن تعطي أي غطاء رسمي لأي سياسي زار دمشق أو تفاوض في هذا الصدد، ينتقد اللجان «غير القانونية والدستورية» التي ظهرت مؤخراً، في إشارة إلى تشكيل «حزب الله» والتيار الوطني الحر لجنتين منفصلتين لتنسيق عودة النازحين، معتبراً أنها وبعد المبادرة الروسية لم يعد لها وجود، قائلاً «روسيا القوة المهيمنة في سوريا حالياً ومبادرتها جمدت كل المبادرات؛ لأن الروسي يقول أنا الضمانة أنا الموجود، وعندما يتكلم الروسي ينتفي دور الأحزاب أو يبقى فقط في الإطار الذي يسمح به الروسي»، مشيراً إلى أن الروس يقومون حالياً ببناء سواتر على الجهة السورية من الحدود اللبنانية - السورية لمنع دخول أو خروج السوريين من وإلى لبنان؛ الأمر الذي يجعل إعادة هؤلاء حتى بطريقة غير شرعية أمراً صعباً.
ويرى مرعبي أن أصحاب هذه المبادرات أو لجان إعادة اللاجئين وضعوا أنفسهم في منافسة مع الروس بعدما وضعوا أنفسهم بمواجه مع الدولة اللبنانية؛ فعلى سبيل المثال أعلن «حزب الله» وبعدما رأى أن الأمن العام قام بتسجيل 3 آلاف لاجئ، تشكيل لجنة تهدف إلى الأمر نفسه، وكأنه يضع نفسه بمنافسة مع الدولة. واليوم وبعد ظهور المبادرة الروسية بات أصحاب هذه اللجان بمنافسة مع الروس الذين كانوا صريحين عندما قالوا مؤخراً إنه لن يكون على الحدود اللبنانية - السورية غير الروس والنظام من الجهة السورية، والدولة اللبنانية من الجهة اللبنانية أي ليس الأحزاب؛ الأمر الذي يعتبر مؤشراً على عدم قبول لأي دور لـ«حزب الله» في هذا الملف.
وكان «حزب الله» أعلن على لسان أمينه العام حسن نصر الله نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي عن تشكيل لجنة تساهم بإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم انطلاقاً من العلاقة القائمة مع الحكومة السورية، وقال مسؤول «ملف النازحين السوريين في (حزب الله)» النائب السابق نوار الساحلي، في تصريحات صحافية سابقة، إن اللجنة ستعمل على إعادة النازحين السوريين الذين يرغبون بالعودة الطوعية إلى بلادهم، وأنه سيتم العمل على الأمر من خلال مراكز متخصصة افتتحت في بيروت والجنوب والبقاع، حيث يملأ النازحون استمارات تجمع وترسل إلى المعنيين في سوريا، وبعدها يتم الاتصال بالأمن العام اللبناني لإتمام الأمر. وبعد إعلان «حزب الله» عن إطلاق هذه اللجنة أعلن التيار الوطني الحر إطلاق اللجنة المركزية لعودة النازحين السوريين، وقوبل إطلاق هاتين اللجنتين بعدد من الانتقادات السياسية باعتبارهما تجاوزاً لدور الدولة وغير مقنعتين باعتبار أن «حزب الله» كان وعبر مشاركته في الحرب السورية سبباً من أسباب تهجير السوريين ونزوحهم إلى لبنان، وهنا يقول مرعبي «من المفارقة أن يتصرف (حزب الله) وكأنه جمعية إنسانية أو الصليب الأحمر في ملف إعادة النازحين وهو الذي وبمشاركته في الحرب السورية كان سبباً من أسباب النزوح».
ينظر تكتل لبنان القوي الذي يرأسه وزير الخارجية جبران باسيل إلى المبادرة الروسية حول تشكيل اللجنة الثلاثية بشكل إيجابي، ولا سيما أنها تتمتع بمباركة دولية؛ الأمر الذي يسهل عملها، ويؤكد دعمه هذه المبادرة انطلاقاً من أنها تهدف إلى ما يعمل عليه في ملف إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم.
في هذا الإطار، يؤكد النائب في التكتل جورج عطا الله، أن «لبنان القوي» والتيار الوطني الحر سيقومان بدعم هذه المبادرة لأن هدفهما الأول والأخير هو حل موضوع النازحين في لبنان. وأضاف عطا الله، أن اللجنة ستستكمل عملها طالما أن المقترح الروسي لم يوضع موضع التنفيذ ولم تشكل اللجنة بعد، مبدياً استعداد التيار الوطني الحر للتنسيق مع هذه اللجنة ودعمها والتعاون معها، وبخاصة أنها تتخذ غطاءً دولياً يسهل عملها ويسرع الوصول إلى النتائج المرجوة.
ولم يرفض عطا الله فكرة إيقاف عمل لجنة التيار في حال شُكلت اللجنة الثلاثية وكانت كافية. وفيما خص ما يقال عن موضوع العودة الطواعية قال: إن المصطلح الذي يجب استخدامه هو «العودة الآمنة»، وأن اللجنة من الأساس لم تشكل لإجبار أحد على العودة أو للمزايدة السياسية، بل انطلاقاً من واجب وطني يحتم ضرورة إيجاد حل للنازحين في لبنان، ولا سيما أن واقع الحال لم يعد يحتمل، معتبراً أن الجزء الأكبر من السوريين الموجودين في لبنان نازحون اقتصاديون، ولا سيما أن معظمهم يأتون من مناطق آمنة وليست على الحدود اللبنانية؛ فكان بإمكانهم الذهاب إلى الأردن أو تركيا، لكنهم أتوا إلى لبنان من أجل العمل بسبب التسهيلات التي قدمت من لبنان وعدم تعاطي الدولة بجدية مع هذا الموضوع.
ويتساءل عطا الله، كيف يمكن أن نصنف من يرسل المال إلى عائلته التي تقيم في سوريا آمنة بنازح لأسباب أمنية؟!... مضيفاً، أن الأرقام تؤكد أن أكثر من 400 ألف نازح غادروا لبنان خلال عيد الفطر ومن ثم عادوا إليه؛ الأمر الذي يوضح أن النزوح ليس أمنياً بل اقتصادياً، وأنه لا بد من إيجاد توجه وطني جامع لحل هذه المسألة نأمل أن تحمله المبادرة الروسية.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري