نايبول... المثقف مُستلباً

أنموذج مثالي لحال الكاتب العالمثالثي الذي أنتجته الكولونيالية

الرّوائي فيديادار سوراجبراساد نايبول
الرّوائي فيديادار سوراجبراساد نايبول
TT

نايبول... المثقف مُستلباً

الرّوائي فيديادار سوراجبراساد نايبول
الرّوائي فيديادار سوراجبراساد نايبول

يصعب تصنيف الرّوائي فيديادار سوراجبراساد نايبول (1932 – 2018)، الذي رحل في بيته بلندن السبت الماضي، تحت أية هويات قومية. فهو المُنحدر من أصول هندية، لم يتماهَ يوماً مع ثقافة أسلافه، وكان يرى في تيرنيداد وتوباغو (حيث وُلد وعاش حتى الثامنة عشرة) تجربة سجن خانقة يودّ لو يُسقطها من تاريخه، بينما قضى معظم عمره في بريطانيا، وصنع مجده الأدبي فيها، دون تجاوزه يوماً عقدة اغترابه وإحساسه المقيم بأنه ليس من تلك البقعة الجغرافية. هذا الحُضور الدائم التوتر، وشعور اللانتماء المزمن، يمكن أن يقرأ دائماً في حالة نايبول، كأنموذج لحال المثقف العالمثالثي المُستلب الذي أنتجته الكولونياليّة الأوروبيّة - بنسختها البريطانيّة - فحرمته هويّة أجداده، واجتثته من أرضه، لتطلقه في عالم شديد التناقض رسمته الإمبراطوريّة على هواها، فلا يجد في مواجهته سوى الشعور بالذّنب وعقدة النقصان لأنه ليس أبيض بما فيه الكفاية، ويصرفُ أيامه بكآبة مقيتة ومشاعر كراهيّة للذات بسبب لونه الغامق الذي يظلّ يطارده حتى في أحلامه، كما لو كان وصمة عار أبديّة لا فُكاك منها.
الغرب احتفى بموهبة نايبول الأدبيّة المبهرة، وتمكنه الاستثنائي من صنعة السّرد، فمنحه أرفع جوائزه (بوكر للرواية 1971، ونوبل للآداب 2001)، وقرّظ نقّاد غربيّون كثيرون أعماله بوصفها نوافذ تسمح للغربيين بالإطلال على آلام ناس العالم الثالث، في الوقت الذي تمنح فيه لهؤلاء الأخيرين صوتاً لهم ليحكوا، لكن حظّه التّعس أن شهرته بدأت تعم الآفاق في الوقت ذاته الذي توسعت فيه دراسات ما بعد الكولونياليّة، فأصبح هدفاً مكشوفاً لإدوارد سعيد، وتلامذة فرانتز فانون الآخرين، الذين كشفوا عن انفصامه الثقافي وسلوكه المستلب، واتهموه بأنه مجرد مزود آخر للنصوص الملتبسة التي تكتب العالم الثالث وفق ما يراه المستعمِر، لا سيما أنّه كان دائم السلبيّة في رؤيته للمشاريع التحرريّة والثوريّة، وصوّرها وَبالاً على ناسها العاديين. ومع ذلك، فإن أحداً لم ينكر على نايبول امتلاكه لحروف اللّغة، ينحتها صوراً من كلمات، فتطيعه وتصطف كما تطيع الجواري مولاهن الغاضب.
بعد فوزه بنوبل الآداب عام 2001، تعاون نايبول مع فرانس فرينش لكتابة سيرته التي صدرت 2008، تحت عنوان «العالم هو كما هو»، ومنها نعرف الكثير عن بداياته التي شكلت وعيه بالعالم: كان والده عاملاً هندياً انتقل إلى الكاريبي للعمل في حقول السكر البريطانيّة هناك، لكنه (أي الأب) كان يكتب بالإنجليزيّة بشكل ممتاز، وانتهى مراسلاً لصحيفة «ذي غارديان» البريطانية المرموقة من ترينيداد، لكنه بقي دائماً بائساً فقيراً، ولولا المنحة الدراسيّة التي حصل عليها نايبول عند بلوغه الثامنة عشرة، لانتهى كمدرس في ثانوية بحد أقصى، لكنه وجد نفسه ودون مقدمات طالباً في جامعة أكسفورد العريقة، فعانى مشكلات نفسيّة وعصبيّة، لكنه ما لبث أن تشبع بمظاهر الثقافة البريطانيّة، وبدأ يتقمص الشخصيّة الإنجليزية في شكلها الأرستقراطي المغرور.
أعماله الروائيّة الأولى، التي كانت مشحونة بالطاقة والفضول، لفتت الغربيين بقدرتها على رسم صور مفعمة بالحياة لأفراد مجتمعات أطراف الإمبراطوريّة المحالة على التقاعد، لكن مواقفه السياسيّة وحبكاته الروائية كليهما اتخذتا مواقف محافظة، شككت بمشاريع التحرر الوطني، وبشرت بفساد الثورات المحتّم، حتى من قبل لحظات انتصارها. انطفأت تلك الطاقة في الأعمال الروائيّة اللاحقة، على أن النقاد، ومنهم مارتن إيمس، وجدوا أن جملته وصياغته لسياق الكلمات فيها أصبحت أفضل سبكة واحترافاً. وقد نشر نايبول عبر ستة عقود من الكتابة أكثر من ثلاثين رواية، إضافة إلى عشرين كتاباً آخر، عن ملاحظاته عن البلدان التي زارها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة، وتحليلاته عن صعود الأصوليّات في العالم الإسلامي. على أنّه لا تكفي قراءة مجمل النّتاج الأدبي الغزير له في فهم الحالة النايبوليّة، ناهيك عن أي من أعماله بمفردها. فالكاتب - وتلك كانت نظرته دائماً - أكبر من نصّه، وما النصّ سوى تلميح عن أسطورة الكاتب ذاته. لكن كل عمل له تقريباً - سواء أعماله الروائيّة أو غيرها - كان قطعة من تجربته الشخصيّة، وتعبيراً عن إحساسه الذاتي الملتبس بالعالم.
خذ مثلاً روايته (في بلاد حرّة - 1971)، التي مُنح عليها جائزة بوكر مان للرّواية، وتحكي قصة هندي يهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، ويفني حياته فيها دون التمكن يوماً من الإحساس بأن أحداً بين الأميركيين يأخذه على محمل الجد. روايته الأهم ربما (انعطافة النهر - 1979)، عن هندي مهاجر آخر فشل في اختراق أسوار المجتمع الغربي اللامرئيّة، فانتهى به الحال في أفريقيا، ليلتقي هندياً آخر سبقه إلى الهجرة، وأنفق عمره عند بقعة جغرافيّة ليس فيها إلا انعطاف النهر. كذلك روايته التي أطلقته إلى عالم الشهرة (منزل للسيّد بسواس - 1961)، التي كأنها سرديّة تروي سيرة والده المهجّر من الهند إلى الكاريبي، وأيضا ً(شارع موغيل - 1959)، التي رسم فيها يوميات العيش البائس في ترينيداد. لكن الأهم من ذلك كلّه أن هذه القطع الكثيرة من نايبول لا تكفي عند تجميعها معاً لمنح صورة مكتملة عنه، حيث إن تعاليه وعنصريته ضد الملونين جميعاً على اختلاف تدرجات ألوان بشرتهم، والصراعات العلنيّة التي خاضها مع زملاء المهنة، ومقابلاته المتخمة بالمراوغة واللّعب على المعاني كلّها، وكراهيته المعلنة وهجاؤه المرير لكل الأماكن التي أقام فيها، ونظرته السلبيّة تجاه المسلمين، هي بشكل أو بآخر أجزاء تكمل الصورة، وتُكسبها وضوحاً.
لنايبول، المثقف الغاضب أبداً الذي يعيش شيزوفرينا التّماهي مع المستعمِر، وجه آخر أشد إظلاماً في ما يتعلق بعلاقاته بالنساء، فهو عُموماً يعتبرهن أقل من الرجال، ودونه هو تحديداً، ولا يخفي ازدراءه لما يُسمى «أدب المرأة». لكن تصرفه الشخصي مع زوجته الأولى الإنجليزيّة باتريشيا هيل، التي اقترن بها بعد لقائهما في جامعة أكسفورد، يبدو كما لو أنّه جريمة يستحق من أجلها العقاب. فهذه السيّدة التي منحته جنسيتها، وقبلته أيام تشرده الأولى بلا عمل، وعملت لعقود كما سكرتيرة مخلصة كان يوقظها في ليالٍ كثيرة بعد منتصف الليل لتكتب ما يمليه عليها من أفكار، وبقيت مخلصة له تدافع عنه، لكنها لم تجد منه سوى كل نكران للجميل وسوء أخلاق. لم ينجب منها، وقضى أوقاتاً كثيرة بعيداً عنها، يتسكع مع بائعات الهوى، واحتفظ له بعشيقة لربع قرن، حتى لم يبق أحد في لندن لم يعلم بها. وتظهر رسائله (المنشورة) إليها بروداً عاطفياً لا يمكن إخفاؤه منذ وقت مبكر من زواجهما. ويبدو أن كل ذلك تجاوز قدرتها على الاحتمال، فهزمت كامرأة، وخانته مع مرض السرطان الذي لم يمهلها طويلاً، ليتقدم بعد أيام من نثر رمادها بطلب الزواج من سيدة مطلقة تصغره بعشرين عاماً على الأقل. وقد تحدث نايبول لاحقاً عن أنه يحس أحياناً وكأنه «قتل» السيدة هيل بمعاملته لها، وتسبب لها بأحزان حطمتها، ومن ثم قضت عليها. الحقيقة أن زوجته الأولى لم تكن وحيدة في تجرعها لعقده النفسيّة المستعصية تلك، حيث إن معارفه في لندن يعلمون بأن عشيقته ذات الأصول الأرجنتينية تلقت ضرباً مبرحاً في مناسبة واحدة على الأقل، وأن سلوكه الشديد التهذيب أمام النساء في الأماكن العامة إن هو إلا قشرة يتجمل بها أمام معارفه من أثرياء لندن وطبقة مثقفيها المرفهين.
نايبول، الذي تصوّر في (منزل للسيّد بسواس) كيف قضى والده مختنقاً باغترابه، معدماً داخل منزل حقير ليس فيه من الرفاهيّة سوى نسخة من كتاب (تأملات ماركوس أوريليوس)، مات هو الآخر مختنقاً بالاغتراب ذاته، وإن في منزل لندني فاخر جدرانه مشبعة باللوحات. لقد قضت عليهما في جغرافيات وأزمنة متباعدة مؤسسة لا تشبع من الضحايا: الإمبراطورية.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.