الملك فيليب يكسب قلوب البلجيكيين من دون أبهة ولا عظمة

يحضر ما بين 200 إلى 300 حدث رسمي سنوياً

الملك فيليب مع أسرته
الملك فيليب مع أسرته
TT

الملك فيليب يكسب قلوب البلجيكيين من دون أبهة ولا عظمة

الملك فيليب مع أسرته
الملك فيليب مع أسرته

على مدى السنوات الخمس الماضية، يمكن أن يكون الخجل قوة، وكذلك التحفظ، كما أظهر الملك فيليب، عاهل بلجيكا.عندما اعتلى العرش في 21 يوليو (تموز) 2013، كان الكثير من البلجيكيين متشككين. على عكس والده، ألبرت الثاني، كان فيليب ينظر إليه على أنه جاف الطباع وأخرق، ويفتقد القدرة على التعبير عن مشاعره على الإطلاق. لكن في الوقت الذي يحتفظ فيه الملك (58 عاما)، ببعض من تلك السمعة، فقد تقبله البلجيكيون كما هو، كما تقول خبيرة الأرستقراطية البلجيكية بريجيت بالفورت. وتضيف: «مرت السنوات الخمس الأخيرة بسلاسة».
وهذا لا يرجع فقط إلى تعود البلجيكيين ببساطة على أسلوب فيليب، بل أيضا على تعامله البارع مع التحديات السياسية غير المتوقعة التي اضطرت البلاد إلى مواجهتها في السنوات الأخيرة. عندما قتلت التفجيرات الانتحارية أكثر من 30 شخصا في بلجيكا في مارس (آذار) 2016، أدان فيليب بشدة الهجمات ودعا رعاياه إلى مواجهة ذلك بـ«التصميم والهدوء والكرامة».
كان خطابه للأمة حدثا نادرا في بلجيكا، حيث أنه ليس من المعتاد أن يدلي الملوك بمثل هذه التصريحات عن الأحداث الجارية. بعد ذلك بعام، أثار فيليب إعجاب الكثيرين خلال مراسم تذكارية رسمية للضحايا، عندما قال: «دعونا نتعلم الاستماع لبعضنا البعض مرة أخرى، وأن نحترم نقاط ضعف بعضنا البعض وأن نصححها. وقبل كل شيء، دعونا نتحلى باللطف واللين». ويبدو أنه وجد النغمة الصحيحة، وتحفظه الذي كان محل انتقادات كثيرة بات الآن يفسر على أنه تلطف وتفكر.
وكتبت الصحافية صوفي لاجيس في مجلة «سوار ماج» في أوائل يوليو 2018 «فيليب موجود بتحفظه المعتاد ولكن بحساسية تظهر بوضوح في كل إيماءاته».
وقالت لاجيس إن فيليب الذي يحضر ما بين 200 إلى 300 حدث رسمي سنويا، موجود هناك من أجل شعبه، واصفة عهده بأنه «واحد من أكثر العهود إيجابية». وقد أظهر فيليب بالفعل القدرة على التعامل بلباقة مع الأوضاع الصعبة بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت منذ أربعة أعوام. يحتفظ الملك البلجيكي بالقليل من السلطة، لكنه يلعب دورا مهما كوسيط عندما يتم تشكيل الحكومات.لم يشارك فيليب في النقاشات السياسية العامة، بل عمل مع مستشاريه من وراء الكواليس لمنع الوضع من الانزلاق إلى الفوضى.
استغرق الأمر أكثر قليلا من أربعة أشهر من المفاوضات للاتفاق على حكومة أقل بكثير مما حدث في عامي 2011 - 2010، عندما استغرق إجراء مماثل عاما ونصف العام في عهد ألبرت الثاني، وهدد البلاد بالانقسام إلى دولتين بين الفلاندرز الناطقة بالفلمنكية والهولندية في الشمال ووالونيا الناطقة بالفرنسية في الجنوب. ويشكل الانقسام الداخلي بين مجموعتين من اللغات والثقافات في بلجيكا تحديا دائما للملك، وهو ما يفسر حذره في اختيار كلماته، وفقا لما تذكره بالفورت، حسب وكالة الأنباء الألمانية.
وتقول بالفورت: «عليه أن يزن كلماته بعناية، وأن عليه دائما التحدث باللغة الهولندية والفرنسية بنسب متساوية. يجب عليه أن يحرص على عدم ذكر كلمة واحدة في إحدى اللغتين أكثر من الأخرى». هذه هي واحدة من الطرق التي يحاول بها الملك توحيد البلاد، وفقا لما تقوله بالفورت. درس الملك السابع لبلجيكا العلوم السياسية في الجامعة وهو أيضا طيار مقاتل وعداء للمسافات طويلة. في عام 1999، تزوج من الكونتيسة ماتيلد في قران مناسب للوضع الاجتماعي لكليهما. وتبدو ماتيلد الكيسة في الغالب كما لو كانت النصف الرائع الساحر لفيليب الجاف.
لكن في الجلسات الخاصة، يكون كلاهما من أصحاب العقول الجادة، كما تقول بالفورت. وتضيف: «إنهما يكرهان أن يثرثر الناس عنهما. ولكن الناس يريدون أيضا أن يروا ملابس جميلة وبريقا ومن الواضح أن الزوجين الملكيين الهولنديين أفضل في هذا الجانب».
وتقول لاجيس إن الزوجين الملكيين البلجيكيين أقل ودا. «الملوك البلجيكيون يلوذون بالصمت أحيانا بشكل يتعذر فهمه، ويتواصلون بطريقة انسحابية للغاية».
وباعتبارهما أبا وأما، فهما واقعيان للغاية، حيث يصطحبان أطفالهما الأربعة إلى المدرسة بأنفسهما. وإليزابيث، البالغة من العمر 16 عاما، هي الأولى التي تنتظر دورها للصعود إلى العرش. كانت طفولة فيليب نفسها بعيدة كل البعد عن الحياة الوردية، وفقا لبالفورت. وتقول: «لم ينشأ في أسرة دافئة المشاعر. يجب ألا ننسى أن الأطفال ربوا أنفسهم عمليا».
وهي تشير بذلك إلى ماضي والدي فيليب، ألبرت وباولا، اللذين يعتقد أن لهما علاقات خارج إطار الزواج. وتلاحظ بالفورت أن فيليب مختلف جدا. وتقول: «الناس يقولون دائما إنه هو الشخص الأكثر عملا في القصر». لا يريد الملك أن يكون معروفا ببريقه وسحره، ولكن بما يستطيع أن ينجزه، وفقا لما تقوله الخبيرة. سوف يواجه فيليب تحديا آخر في 2019، عندما تجري بلجيكا انتخابات برلمانية جديدة، ومرة أخرى سوف يتم وضع الوحدة بين الفلاندرز ووالونيا على المحك.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)