رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

مناهضة شديدة لليمين... وباحثة عن مكانة للمسلمين في المجتمع والحكومة

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي
TT

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

تتأهب رشيدة طليب (42 سنة) لدخول مجلس النواب الأميركي كأول امرأة فلسطينية مسلمة تحظى بعضوية أحد مجلسي الكونغرس. وحقّقت طليب هذا الإنجاز المتوقع أن يتأكد رسمياً في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بعدما فازت بالانتخابات التمهيدية للمقعد المخصص للدائرة الـ13 عن الحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغان، التي كانت قد شغلت أحد مقاعد برلمانها (كونغرس ميشيغان) المحلي. وتجدر الإشارة إلى من شبه المحسوم أن تكسب طليب المقعد بالتزكية خلال الانتخابات النصفية الأميركية في نوفمبر بغياب منافس جمهوري ينافسها في دائرتها الانتخابية.
هذا، ولم تنجح المحامية الفلسطينية الأصل بسهولة في معركة الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، بل تنافست مع خمسة مرشحين أبرزهم، رئيسة مجلس بلدية ديترويت بريندا جونز، ورئيس بلدية ويستلاند بيل ويلد، لكنها حصدت 33.6 في المائة من أصوات الناخبين، متفوقة على الجميع... وذلك بعدما بذلت جهوداً ذاتية كبيرة، وجمعت تبرّعات تفوق المليون دولار، مستندة إلى نشاط دائم وقديم في المنطقة؛ ما جعلها تعرف كل بيت تقريباً. ومن ثم شكرت طليب مؤيديها من موقعها على «تويتر» عقب إعلان فوزها بقولها «شكراً جزيلاً لكم لأنكم جعلتم هذه اللحظة الرائعة ممكنة».
بدأت رشيدة طليب، وهي حامية أميركية فلسطينية الأصل، حملتها للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للاحتفاظ بمقعد الدائرة الـ13 في ولاية ميشيغان بمجلس نواب الولايات المتحدة، موجهة رسالة قوية للمجتمع مفادها أن غير الأميركيين الأصل هم جزء من الحكومة، وجزء من المجتمع كذلك. وساعد طليب في ذلك أن الدائرة التي سعت إلى تمثيلها في ديترويت تقع في واحدة من أفقر الضواحي الحضرية في ميشيغان والولايات المتحدة، وإن نسبة عالية من سكانها من أصول عربية وأفريقية مسلمة. وهذا، مع أنها تشير إلى أن انتماءها الديني أو العرقي لم يكن موضوع نقاش عندما كانت تلتقي الناخبين.
طليب قالت أثناء الحملة «الناس يعانون من نطق اسمي، لكنهم يتذكرون أنني أتيت إلى منزلهم». كذلك، تتذكر أنها في إحدى المرات حينما طرقت باب أحد الناخبين، قال لها «أتعرفين، إن تم انتخابك فذلك مؤشر على أنهم يستطيعون منعنا من القدوم إلى البلاد، لكنهم لن يستطيعوا منعنا من دخول الكونغرس». وقال لها آخر «افعلي ما بوسعك للفوز، أولادي يعانون بسبب هويتهم، مع مَن يكونون؟ إنهم في حاجة إلى رؤية شخص يشبهم داخل الكونغرس، كي يقولوا نعم نحن ننتمي إلى هنا (أميركا)».
والحقيقة أن كثرة من الناس في مدينة ديترويت وضواحيها يعرفون رشيدة طليب أو عنها. ويذكر الكثير منهم أن لها إنجازات مهمة، منها أنها استطاعت إبان عملها التشريعي في كونغرس الولاية أن تحقق إنجازات مهمة مثل رفع الحد الأدنى للأجور، وتحسين مستوى خدمة الرعاية الصحية. وحتى بعدما غادرت كونغرس ولاية ميشيغان ظلت ناشطة في المجتمع، تكافح من أجل العدالة الاجتماعية.
وبرزت طليب لاحقاً كمعارضة شديدة لسياسات الرئيس الجمهوري دونالد ترمب. وقبل سنتين أوقفت وطُردت من لقاء عام بعدما قاطعت كلمة للرئيس في مدينتها ديترويت، وصرخت به «أطفالنا يستحقون أكثر»، وطالبته بقراءة الدستور الأميركي جيداً. وبعد ذلك قالت طليب لشبكة «سي إن إن»، إن والدتها غضبت جداً قائلة لها «لقد أوقفوكِ مباشرة على التلفزيون الوطني»، وردت هي بالقول «إنه أكثر تصرّف أميركي كان بوسعي القيام به».
وفي برنامجها الانتخابي لسباق الكونغرس الأميركي، كتبت طليب «سأقاتل ضد أجندة ترمب التي تضع أرباح الشركات وتخدم الأغنياء على احتياجاتنا... سأقاتل إلى جانبكم من أجل الرعاية الطبية للجميع؛ حتى يتمكن الجميع من الحصول على الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها، وعلى أجر أدنى قدره 15 دولاراً يساعد العمال على إعالة أسرهم». وأضافت «سنعمل معاً على محاسبة المُلوثين... لا أستطيع الانتظار حتى أعمل من أجلكم». وترى طليب أن انتخاب ترمب رئيساً للولايات المتحدة كان بمثابة «إنذار» للكثير من النساء الأميركيات اللواتي لم يتقدمن من قبل بمثل هذه الأعداد الكبرى للكونغرس، وخصوصاً من بين صفوف الديمقراطيين. كذلك تقول، إن أسباباً شخصية أيضاً دفعتها إلى تقديم ترشيحها، وعلى رأسها، الصعوبات التي يواجهها ابناها لإيجاد مكانتيهما في بلد أصبح بشكل متزايد معادياً للمسلمين الذين يشكلون نحو 1.1 في المائة من الشعب الأميركي.

الأصول الفلسطينية
ولدت رشيدة حربي طليب في مدينة ديترويت، كبرى مدن ولاية ميشيغان، يوم 24 يوليو (تموز) من عام 1976 لعائلة بسيطة مهاجرة من فلسطين. ووفق سيرتها الذاتية؛ فهي البنت الكبرى بين الأولاد الـ14 لأبيها المتحدّر من بلدة بيت حنينا القريبة من مدينة القدس، وأمها التي هاجرت إلى الولايات المتحدة من قرية بيت عور الفوقا، قرب مدينة رام الله بالضفة الغربية. وهي متزوجة من فايز طليب، وأم لولدين، هما آدم ويوسف.
عمل والد رشيدة بعد استقراره في ميشيغان في أحد مصانع شركة فورد للسيارات، وكان بدايةً قد هاجر إلى نيكاراغوا، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة. وبحكم كون رشيدة أكبر إخوتها وأخواتها، فإنها ساعدت والديها في تربيتهم، بجانب دراستها. كما أسهم وضعها العائلي وكفاحها من أجل العيش الكريم في توجيهها باتجاه الحزب الديمقراطي الأميركي، وتحديداً التيار الليبرالي – اليساري فيه.
تلقت رشيدة طليب تعليمها في مدارس حكومية بديترويت، التي كانت ذات يوم عاصمة صناعة السيارات في العالم، وأنهت تعليمها الثانوي في مدرسة ساوثويسترن هاي سكول عام 1994. ومن ثم، دخلت جامعة واين الحكومية Wayne State University الكبيرة في المدينة، حيث حازت شهادة بكالوريوس الآداب في العلوم السياسية عام 1998، وبعدها التحقت بكلية توماس كولي للحقوق بجامعة ويسترن ميشيغان وتخرجت فيها مجازة في القانون عام 2004. وفي العام نفسه انطلقت في مسيرتها السياسية بالتوازي مع امتهانها المحاماة، فعملت محامية متخصصة في الدفاع عن قضايا مجتمعها المحلي، وناشطة في مكافحة التلوث البيئي، إلى جانب نشاطها في تعزيز قطاع التعليم.
كذلك، رعى ستيف توبوكمان، النائب السابق في كونغرس ميشيغان، خطواتها السياسية الأولى عندما عملت مساعدة له. وعندما تقاعد المقعد المخصّص للدائرة المحلية الـ12 - بحكم انتهاء مدة خدمته في المجلس - شجّعها على خلافته. وبالفعل، خاضت الانتخابات وفازت بالمقعد. وجدّدت فوزها به في انتخابات 2010 بفارق كبير. ثم بعد تغيير حدود الدوائر عام 2012 فازت طليب مجدداً بمقعد الدائرة السادسة الجديدة. واحتفظت به حتى 2014 عندما أخلته بحكم انتهاء مدة خدمتها البرلمانية.
والآن، انتقلت رشيدة طليب من الإطار المحلي في ميشيغان إلى الفضاء الأوسع... إلى الكونغرس الأميركي نفسه، وباتت قاب قوسين أو أدنى من دخوله بعد فوزها بترشيح الديمقراطيين في الدائرة الـ13 المضمونة لهم. وهنا نشير إلى أنها لن تكون أول نائب مسلم في الكونغرس؛ إذ يوجد الآن عضوان مسلمان في الكونغرس، هما كيث إليسون (مينيسوتا)، وأندريه كارسون (إنديانا).

الفرحة في رام الله
أول ما فعلته طليب بعد تلقي نبأ الفوز أنها عانقت والدتها ابنة قرية بيت عور في الضفة الغربية في حين كانت جدتها وخالاتها وأخوالها يتابعون عن كثب مجريات ما يحدث. قالت طليب بعد أن وضعت والدتها العلم الفلسطيني على كتفيها، وقد اغرورقت عيناها بالدموع «لقد تسمّروا أمام شاشة التلفزيون، جدتي وخالاتي وأعمامي تجمّعوا لرؤية حفيدتهم». وللعلم، طوال حياة طليب في الولايات المتحدة، فإنها ظلت على علاقات مع أقربائها، وكانت قد زارت الضفة الغربية لأول مرة عندما كانت طفلة، لحضور زفاف عائلي. ويتذكر أقرباؤها أنها سارعت إلى التساؤل حول اللامساواة الصارخة التي عاينتها حولها في نقاط التفتيش، أو حين انتظار قدوم الحافلة. ومنذ ذلك الحين عادت لتزور فلسطين عدة مرات، آخرها في عام 2006.
وبطبيعة الحال، استقبلت جدة رشيدة وأخوالها وخالاتها والجيران في قرية بيت عور في الضفة نبأ فوز ابنتهم بكثير من الابتهاج، وتجمعوا أمام المنزل المؤلف من طابق واحد بجوار أشجار الزيتون للتهنئة. جاء المهنئون من القرية وباركوا التقدم المهم لابنة قريتهم الصغيرة.
وفي الوقت الذي تشير فيه طليب عبر موقعها على الإنترنت إلى جذورها الفلسطينية وتحتفي بالتراث الفلسطيني، لا يشير موقعها على الإنترنت إلى وجهات نظرها حول النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وبحسب وكالة «أسوشييتد برس» التي لفتت إلى مقال كتبته رشيدة في عام 2016، فقد وصفت فيه نفسها بأنها سيدة أميركية ومسلمة عربية. لكن خلال الشهر الماضي تحدثت طليب عن كونها مسلمة من أصل فلسطيني، في تصريح لشبكة «سي إن إن »الأميركية قائلة «لا يتعلق الأمر فقط بأن تكون موجوداً وتتباهى بإيمانك... لقد قلت للناس دائماً إن إُظهار جوهر الإسلام، بطريقة مؤثرة، يأتي عبر خدمة المجتمع».

من جناح ساندرز اليساري
من جهة أخرى، مثل أي مرشح آخر تحظى رشيدة طليب بدعم من كثيرين من الليبراليين واليساريين. وهي تحسب من جناح بيرني ساندرز اليساري في الحزب الديمقراطي، بشكل عام تحظى بدعم روابط المعلمين والممرضين وتجار التجزئة في الولاية، وتركز في خطابها على برامج المرأة والطفل والرعاية الصحية.
وتقول سالي هويل، مديرة مركز الدراسات العربية - الأميركية في جامعة ميشيغان – ديربورن، التي تعرف رشيدة منذ 25 سنة، عنها، إنها امرأة «حازمة وكفوءة، وتعمل بجهد وتتمتع بجاذبية كبرى». وتضيف «إنها تهتم بالناس وبالمجتمع الذي نشأت فيه»، مستطردة «لم تنظم حملتها بصفتها مسلمة، بل كمواطنة من جنوب ديترويت مسلمة الديانة. لكن المجتمع المسلم، الذي يشعر بأنه مهمش إلى حد كبير، ساند بقوة ترشيحها».
وتدافع طليب، كما هو معروف لمتابعي حملتها، عن برنامج ينص على المساواة في الرواتب بين الرجال والنساء والتعليم الجامعي المجاني، مروراً بالصحة العامة وحقوق مثليي الجنس، وإلغاء مرسوم الهجرة الذي اعتمده ترمب، إلى جانب حماية البيئة.
وبسبب هذا البرنامج، حظيت كذلك بدعم مشاهير، في مقدمتهم المخرج العالمي اليساري مايكل مور، وهو من أبناء ميشيغان. إذ نشر المخرج صورة تجمعه مع رشيدة احتفاءً بفوزها على حسابه بموقع «إنستغرام»، ودعمها ببعض الكلمات لمساندتها في مشوارها نحو الكونغرس. إذ كتب مور «انتصار رشيدة طليب.. فازت في الانتخابات التمهيدية في ديترويت لتصبح أول امرأة مسلمة في الكونغرس! إنها أميركية فلسطينية، وديمقراطية اشتراكية. لكن الأهم أنها تمتلك قلباً وروحاً وشجاعة لقيادتنا نحو يوم أفضل... إلى الأمام». ومما يذكر أن مور، المعروف بعدائه السياسي مع الحزب الجمهوري الأميركي، ولا سيما الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، كان قد استعاض في العام الماضي عن الوقوف خلف الكاميرا الوقوف على خشبة المسرح في عمل منفرد في برودواي بنيويورك مناهضاً لسياسات الجمهوريين.
وبخلاف توقعات كثيرين، يبدو أن طليب تستقطب كل معارضي الرئيس الحالي ترمب، كما حظيت بدعم عدد من الجماعات الإسلامية التي هنأتها بفوزها، مع أنها أعلنت خلال الانتخابات انسجامها مع موقف التيار اليساري في حزبها المؤيد لـ«زواج المثليين» الذي ترفضه الشريعة الإسلامية.
من ناحية ثانية، يرى متابعو المشهد السياسي الأميركي، أن دخول طليب الكونغرس الأميركي شبه محسوم في نوفمبر المقبل بغياب منافس جمهوري على المقعد الذي شغله النائب الديمقراطي جون كونييرز في ميشيغان، منذ عام 1965 حتى ديسمبر (كانون الأول) الماضي. غير أن منظمات صهيونية وإسرائيلية عدة بدأت بالفعل حملة ضد طليب، مطالبة إياها بضرورة إعلان موقفها من إسرائيل والعداء للسامية، كما بدأت جماعات جمهورية عدة حملة ضدها بسبب معارضتها سياسة الإدارة الجمهورية الحالية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.