«ديور» تحتفل بتاريخها في لندن

لا شك أن واجهات محال «هارودز» ستشد فضول الزائر إلى لندن هذه الأيام. فقد غُطيت شبه كاملة بـ«لوغو» يتميز بخطوط منحرفة ولون أخضر يميل إلى الكاكي، عند الاقتراب منه يكتشف أنه لوغو دار «ديور» الخاص بمنتجاتها المصنوعة من الكنفس.
فاحتفالاً بالتشكيلة التي قدمتها المصممة ماريا غراتزيا تشيوري لخريف هذا العام، قررت الدار الفرنسية أن تقدم مجموعة من الأزياء والإكسسوارات بعدد محدود في العاصمة البريطانية، من ضمنها حقائب «سادل» و«ميس ديور» و«كريستيان ديور هوبو»، إلى جانب أحذية على شكل قباقب وإيشاربات من الحرير. ولأول مرة ستُوفر للزبائن فرصة وضع الأحرف الأولى من أسمائهم على حقيبة «ديور بوك» الكبيرة. وتأتي هذه المبادرة التي ستستمر إلى 31 من الشهر الحالي ضمن حملة ترويجية ضخمة لكل منتجاتها المصنوعة من الكنفس. لكن الهدف منها ليس تسويقها لزائر لندن هذا الصيف فحسب، بل أيضاً تذكيرنا بحقبة مهمة أثرت على الدار وعلى الموضة عموماً، ألا وهي حقبة الستينات من القرن الماضي. على الأقل هذا ما تؤكده كنزة طويلة كُتب على صدرها بالفرنسية ما معناه «لا، لا، ولا ثم لا» في إشارة واضحة إلى الحركة النسوية التي قامت بها مجموعة من الطالبات الفرنسيات في مايو (أيار) من عام 1968 وتعكس الوضع الحالي، في ظل ما أصبح يعرف بهاشتاغ #MeToo والحركة النسوية الجديدة التي يشهدها العالم.
هذه الكنزة التي أبدعتها ماريا غراتزيا تشيوري، فتحت العيون على ذلك الرابط بين الحاضر والماضي، كما فتحت الشهية على فتح جدل قديم كيف أن التاريخ يعيد نفسه. فـ«لا ولا ثم لا» ليست من بنات أفكار المصممة الإيطالية، بل وجدتها في أرشيف الدار. فقد ابتكرها مصممها آنذاك مارك بوهان ورسمها على إيشارب من الحرير، ليعبر عن التحاقه بالثورة الناعمة التي ظهرت بوادرها في 1967 وانفجرت في عام 1968. كل من مارك بوهان وماريا غراتزيا تشيوري يؤكد لنا أن الموضة لا تعيش بمنأى عن الحياة العامة، وبأن الماضي يجد دائماً طريقه للحاضر؛ كونها تعكس أحداثاً يعيشها المصممون لتقع على عاتقهم مسؤولية ترجمتها في تصاميم تتحول مع الوقت إلى قراءة مهمة في أحداث اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة. وليس أدل على هذا من حقبتي الستينات والسبعينات. فالأولى شهدت ثورة ناعمة كانت ردة فعل لحرب فيتنام الدامية، وأثمرت على موضة الـ«هيبيز» بكل ما تعنيه من انطلاق ورومانسية وحب للآخر. والثانية كانت ثورة على التقاليد والمتعارف عليه من خلال موضة «البانكس»، التي قادها الشباب والتقطت مشعلها المصممة فيفيان ويستوود، وبعدها مارك جايكوبس وغيره.
الآن، لم تعد هناك حاجة إلى التمرد على التقاليد. فقد تم ترويض أفكار الجيل القديم وتكسير الكثير من المعتقدات والتابوهات، لكن التمرد على السياسة والأوضاع الاجتماعية لا تزال قائمة وربما أصبحت أكثر إلحاحاً في ظل السياسات الشعبوية. وهذا ما يجعل حقبة الستينات في رأي الكثير من المصممين، مرآة لما هو حاصل الآن. بدءاً من هاشتاغ «مي تو» ضد التحرش الجنسي واستغلال المناصب، إلى الرغبة في الانفتاح على الآخر وتقبل التنوع بكل أشكاله وألوانه. والخلاصة، أن شعار تلك الحقبة، «اصنع الحب لا الحرب» له رنة معاصرة تروق لزبون اليوم، وهو ما يريد شعار «ديور» «لا ولا ولا ثم لا» أن يستثمر فيه؛ لأنه يشمل الكثير من مناحي الحياة، ويمكن أن تكون له تفسيرات وتأويلات تختلف حسب أسلوب الشخص وحياته وأهوائه وسياسياته أيضاً. فما بتنا نعرفه أن تصاميم لا تعكس روح العصر لا يمكن أن تخلف صدى يُثير الناس ويُلهمهم، ولعل أكثر من فهم هذه النقطة هو الراحل إيف سان لوران، الذي كان أول من استعان بعارضات سوداوات في عروضه الباريسية في الستينات، محققاً ثورة عبّدت الطريق أمام إيمان وناعومي كامبل وغيرهما، كما كانت بذرة التنوع العرقي الذي تبنته الموضة في السنوات الأخيرة. كان أيضاً من الأوائل الذين تعاطفوا مع المرأة وفهموا رغبتها في التخلص من القيود ودخول مجالات عمل كانت حكراً على الرجل بتقديمه فستان «الترابيز» القصير من دون خصر، ثم التايور المكون من بنطلون وسترة توكسيدو. قدم أيضاً تصاميم مستوحاة من الحياة البسيطة، كما هو الحال بالنسبة لعرضه لخريف وشتاء 1976 الذي استقاه من ملابس الفلاحات الروسيات.
«ديور» ومنذ التحاق ماريا غراتزيا تشيوري بها، ترفع شعاراً نسوياً لا يقل قوة، من ناحية أنه يعكس تطلعات زبونة شابة تريد أزياء أنيقة، وفي الوقت ذاته تحمل رسالة إنسانية أو اجتماعية، حتى وإن كانت مجرد لاءات بسيطة تتصدر «تي - شيرت» أو كنزة من الصوف.