شاشات: للفنان العربي هويّتان إحداهما مصرية

الفنانة السورية كندة علوش مع الممثل الكوميدي المصري سمير غانم في مسلسل «دلع البنات»
الفنانة السورية كندة علوش مع الممثل الكوميدي المصري سمير غانم في مسلسل «دلع البنات»
TT

شاشات: للفنان العربي هويّتان إحداهما مصرية

الفنانة السورية كندة علوش مع الممثل الكوميدي المصري سمير غانم في مسلسل «دلع البنات»
الفنانة السورية كندة علوش مع الممثل الكوميدي المصري سمير غانم في مسلسل «دلع البنات»

بات من المعتاد اشتراك ممثل لبناني أو سوري أو خليجي بالأعمال المصرية. كذلك يمكن ملاحظة اشتراك ممثل مصري في عمل خليجي. وفي حالات محددة يلتقي اللبناني والسوري والمصري والخليجي في عمل واحد.
الغاية ليست تأسيس تقليد فني جديد أو تأكيد العُرَى القوية بين أطراف العالم العربي، بل غالبا هي نتيجة الحاجة للاستفادة من نجاح مبادرات سابقة كان وجود الممثل الخارجي ضروريا ومرحبا به.
وبطبيعة الحال، فإن ذلك ليس عملا ناشزا أو غير صائب فنيّاً. في كثير من الحالات، هناك ضرورة كما الوضع بالنسبة لعنصرين من الممثلين في المسلسل المصري «ابن حلال» أو كما هو الوضع بالنسبة لوجود ممثلة لبنانية في المسلسل الخليجي «الحب سلطان». كلاهما يتضمّن الضرورة الدرامية والفنية لوجود مواهب من خارج الدولة المنتجة لكي يفي المسلسل بما هو مطلوب منه. فأيام كان المسلسل أو الفيلم السينمائي يستعين بممثل مصري لكي يقلّد (ومن دون نجاح) اللهجة الشامية أو الخليجية، ولّت. كذلك الحال بالنسبة للبرنامج غير المصري إذا ما نص العمل على وجود شخصية مصرية على الرغم أن تقليد اللهجة المصرية أسهل على غير المصريين من قيام المصريين بتقليد اللهجات العربية الأخرى.
من أجمل ما قرأت قبل أسابيع قليلة، قول أحد الفنانين المصريين، ونسيت من هو للأسف، «كل فنان عربي لديه هويّتان: هوية البلد التي وُلد فيها وهوية مصرية». هذا كلام جميل جدّاً ومبرهن عليه من أيام السينما المصرية في الأربعينات. ليس السينما فقط، بل المسرح والغناء. وإذا ما مددنا النظر سنجد أن مصر طالما فتحت ذراعيها لمواهب في شتّى المهن من التمثيل إلى الكتابة ومن الإخراج إلى الموسيقيين وهكذا.
هذا العام يلاحظ تواصلاً أكثف مع هذا التقليد على شاشات رمضان يعبر عنه وجود عدد أكبر من الممثلين العرب في المسلسلات المصرية ومن بينهم قصي الخولي في «سرايا عابدين»، وكندة علوش في «دلع البنات»، باسم ياخور في «المرافعة»، واللبنانيان نسرين طافش ومكسيم خليل في «حلاوة الروح» وسيكون لنا عودة تقييمية وتكملة لدلالات هذا المزيج قريباً.
المشكلة المحتملة الحدوث لا علاقة لها بهذه الحقيقة التي تعكس مركز العاصمة المصرية الفني، بل تتمثل عندما لا تكون الحاجة موجودة لممثل خارجي بحيث يتحول وجوده بين الشخصيات إلى ما يشبه الديكور. ما يقرر هذه الحاجة هو النص الدرامي نفسه ومدى جدّيته. ما أحاول الوصول إليه هو أنه في بعض المسلسلات سنجد شخصية لبنانية أو سورية مزروعة من باب التسلية. احذفها وسوف لن يتأثر العمل سلباً بل قد يتحسن.
المشكلة الثانية هي عندما يُطلب من الممثل الخارجي أن يمثل باللهجة المصرية إذا ما كان المسلسل مصرياً أو باللهجة الخليجية إذا ما كان خليجياً وهكذا. وهذا ما هو حاصل اليوم بالنسبة لمسلسل «صديق العمر» فمن حق المشاهد المصري أن يتساءل لماذا يقوم ممثل غير مصري (وذلك بصرف النظر عمن هو هذا الممثل) بدور شخصية مصرية؟ السؤال جائز حين تكون الشخصية المصرية خيالية، فما البال حين تكون واقعية وذات حجم بحجم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر؟ هل يمكن أن يُطلب مثلاً من ممثل سوداني القيام بدور أنور السادات؟ ومن سيقوم بدور الرئيس حسني مبارك في المرّة المقبلة؟
هناك نجوم سوريون ولبنانيون يستعان بهم لأسمائهم وهذا حال الممثل جمال سليمان الذي يعترف، (يشير لي أحد القراء، بأنه لم يحسن اللهجة المصرية)، لكن الواضح أن سبب الاعتماد عليه كانت تشابهاً في بعض الملامح. لكن جمال هو أقصر قامة، منذ حين، أصبح بدينا. كذلك تلك الانحناءة التي يعمد إليها. هل هي حقيقية استلهمها الممثل من مشاهداته؟ لا أعتقد وإذا لم تكن فهي بالتالي لا تنتمي إلى الصورة الواقعية للشخصية الأساسية.
قارئ آخر يشير إلى أن جمال سليمان عانى من متاعب مختلفة في السنوات الأخيرة ويشير إلى أن آخرها محاولته دخول مصر بجواز سفر أفريقي مزوّر. ويقترح أن الهجوم عليه ربما كان سياسياً… وهذا وضع صعب بكل تأكيد والأحوال في سوريا لا تجعل أحداً سعيداً بصرف النظر إلى أي خط انتمى. فهل أثر الحال على اختيارات الممثل من اللهجة أو من التصرف؟ من يدري؟ إنه لمثل هذه الأسباب هناك مخرج عليه أن يتدخّل خلال التصوير وحين لا يفعل يتحمل المسؤولية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)