مهرجانات السينما القريبة تعد مخرجيها بالأوسكار

أفلام الموسم تحوّلت إلى صواريخ موجهة

«سبوتلايت» اقتنص الأوسكار بعد عروضه في فينيسيا
«سبوتلايت» اقتنص الأوسكار بعد عروضه في فينيسيا
TT

مهرجانات السينما القريبة تعد مخرجيها بالأوسكار

«سبوتلايت» اقتنص الأوسكار بعد عروضه في فينيسيا
«سبوتلايت» اقتنص الأوسكار بعد عروضه في فينيسيا

هناك فكرة لإحياء مهرجان عربي متوقف. ومشروع مهرجان جديد يُقام في مصر. وآخر للسينما العربية في ماليزيا. وإذا كان ذلك لا يكفي، فقد أُطلق مهرجان جديد في «كازابلانكا» وعاد مهرجان معهد العالم العربي في باريس إلى الحياة. كما هناك بعض المهرجانات العربية التي توقفت لعام أو عامين، وهي مطروحة اليوم للعودة في العام الحالي أو في العام التالي.
ومعظم ما سبق يُنظّم في النّصف الثاني من العام، وغالبيتها في الأشهر الخمسة الأخيرة من كل عام.
هذا الجزء الثاني من السنة زاخر أساساً بالمهرجانات العالمية من فينيسيا وروما ولندن وسان سيباستيان ولوكارنو وكارلوفي فاري وأدنبره في أوروبا إلى تورونتو وتوليارايد ونيويورك ولوس أنجليس في القارة الأميركية.
وأكثر منها هي تلك المتخصصة بنوع معين أو الأصغر شأناً مثل أنيسي للفيلم المرسوم (أنيميشن)، وترانسلفانيا في رومانيا، ووهران (الجزائر)، وباغوتا في كولمبيا، وميونيخ (ألمانيا)، ومرسيليا (فرنسا)، وأوديسا (أوكرانيا)، وكورتاس فيلا دو كوندي (البرتغال)، كما بوشوان (كوريا الجنوبية). ولا ننسى مهرجان «Asian World Film Festival» وستُنظّم دورته الثالثة في العشرين من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، تحت إدارة اللبناني جورج شمشوم.
- ازدهار
ما ورد هنا ليس سوى حفنة في حجم فائض يزيد على 3000 مهرجان حسب موقع IMDb. لتقريب المسألة إلى ما يمكن لنا استيعابه، يورد الموقع 410 مهرجانات تبدأ بحرف A. هذا الحجم ليس متساوي الأطراف أو الأضلاع أو الإمكانيات. والمهم بينها يتفرع في أقسام متعددة. بعضها مهم في بلده (أكثر من سواه في البلد الواحد)، وبعضها مهم في قارته ثم هناك ما هو مهم على نحو عالمي. وهذه بدورها ليست متساوية الأهمية. «كان» و«برلين» و«فينيسيا» هي الأهم. «تورونتو» يتبع ثاني قسم في الأهمية عالمياً لجانب صندانس ولوكارنو وكارلوڤي ڤاري. هذه حالياً أهم من مهرجانات عتيدة وذات تاريخ طويل مماثل مثل سيدني وشيكاغو وسان سيباستيان.
والأهمية بالنسبة للمهرجانات المتخصصة لا تقل تفرّعاً. «أنيسي» الأول بالنسبة للرسوم المتحركة ونصف دزينة من المهرجانات الأوروبية هي الأهم بالنسبة للسينما التسجيلية (أو غير الروائية عموماً)، وأيام قرطاج السينمائية في تونس هو الوحيد من نوعه في العالم من حيث الجمع بين أفلام عربية وأفلام أفريقية. لكن هذه الأهمية محصورة بالمتخصصين في هذين الموقعين فقط.
في السنوات الخمس الأخيرة ازدادت حرارة المنافسة بين المهرجانات الثلاث الأولى برلين وكان وفينيسيا. وهذه المنافسة يمكن تلمسها ليس فقط حين حسبان عدد الأفلام المهمّة التي استطاع كل مهرجان إدراجها في مسابقته خلال كل عام من تلك الأعوام الأخيرة، بل أيضاً من خلال الأفلام الفائزة ومصائرها المختلفة.
بعض الأفلام التي فازت بجوائز أولى في هذه المهرجانات ازدهرت بعد عروضها الأولى، مثل «نار في البحر» للإيطالي جيانفرانكو روزي (عرضه برلين)، و«الميدان» للسويدي روبن أوستلاند («كان») و«شكل الماء» للأميركي غويلرمو دل تورو (فينيسيا) وسافرت إلى بقاع مختلفة من العالم فعرضت للعموم كما في مهرجانات أخرى، كما أنّ بعضها دخل ترشيحات الأوسكار.
لكن العديد الآخر من الأفلام التي فازت توقف مدّها عند حد معين ثم انحسر. هذا انطبق على الفيلم التركي «نوم شتوي» لنوري بيلج شيلان (فاز بسعفة مهرجان «كان» الذهبية) ومثل «تاكسي» لجعفر باناهي (فاز بذهبية برلين) و«المرأة التي غادرت» للفيليبيني لاف داياز وهذا الفيلم غاب مباشرة بعد عروضه في فينيسيا.
ديمومة الأفلام بعد عروضها في هذه المهرجانات باتت شاغلاً و- عند البعض - مقياساً خصوصا أن الأوسكار بات بيت القصيد لمعظم الأفلام المتسابقة في هذه المهرجانات. في السنوات الخمس الأخيرة من جوائز الأوسكار نجد أنّ كل فيلم فائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي جاء من مهرجان سينمائي وغالبها من كان أو برلين وذلك على النحو التالي:
2014: «الجمال العظيم» لباولو سورنتينو (كان)
2015: «إيدا» لبافل بافليكوفسكي (توليارايد)
2016: «ابن شاوول» للازلو نيميش (كان)
2017: «البائع» لأصغر فرهادي (كان)
2018: «امرأة بديعة» لسابستيان ليليو (برلين)
أمّا فينيسيا فقد أوصل ثلاثة من أفلامه الأميركية إلى سباق الأوسكار الكبير:
2014: «جاذبية» لألفونسو كوارون
2015: «بيردمان أو الفضيلة غير المتوقعة للجهل» وهذا نال أوسكار أفضل فيلم أميركي فعلاً
2016: «سبوتلايت» ونال الأوسكار أيضاً.
2017: «هاكسو ريدج» و«لالا لاند» شاركا في الترشيحات الرّسمية وحصدا أوسكارات في أقسام أخرى.
2018: أوصل فيلمان أميركيان إلى الترشيحات هما «ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينغ، ميسوري» و«شكل الماء». هذا الثاني خطف الأوسكار ذاته.
- السباق الكبير
والحال هكذا، لم يعد غريباً أن تتمحور النشاطات التي تشهدها هذه المهرجانات، وأخرى قليلة معها، حول ما إذا كان بعض أفلامها سيصل إلى خط النهاية المتمثل بترشيحات الأوسكار النهائية أم لا.
والمنافسة بالتالي لا تقع بين الأفلام التي تود الترشيح وتتمنى الفوز فقط، بل أساساً بين المهرجانات التي باتت تتنافس على عرض الأفلام التي لها حظ وافر في دخول المسابقات. وهذا العام يستطيع المتابع أن يرى ما ستؤول إليه المنافسات منذ الآن.
ما يحدث في هذا النصف الثاني من العام هو أنّ المهرجانات المتبقية تتحوّل إلى منصات إطلاق صواريخ سينمائية موجهة صوب الأوسكار. ولدينا، قدر ما هو معروف حتى الآن، حفنة لا بأس بها من هذه الصواريخ نصبتها ثلاث مهرجانات قريبة.
- فينيسيا
لديه الحقيبة الأولى من الأفلام: فيلم مايك لي «بيترلوو» يبدو آيلاً لا محالة لدخول ترشيحات الأوسكار الرئيسة كذلك فيلم بيتر غرينغراس 22‪.‬July وفيلم ألفونسو كوارون الجديد «روما» إذا ما لم تعارض الأكاديمية حقيقة أنّه من إنتاج «نتفليكس» كونها جهاز إنتاج للعروض المنزلية. إلى ذلك هناك «أنشودة بيتر سكرودج». ولا ننسى «الرجل الأول» لداميان غازال مخرج «لا لا لاند» الذي وصل إلى ترشيحات الأوسكار عن طريق المهرجان الإيطالي أولاً.
إلى حقل أوسكار أفضل فيلم أجنبي «غروب» للازلو نيميش. وإلى مسابقة الفيلم التسجيلي يرتفع حضور فيلم إيرول موريس الجديد «دراما أميركية» (American Dharma).
- تورونتو
هذه الأفلام ستعرض في مهرجان القارة الأميركية الأول تورونتو، ومعها الفيلم الذي يُعاد صنعه كل عقدين أو ثلاثة «مولد نجمة» لبرادلي كوبر. و«هل تستطيع أن تسامحني؟» لمارييل هَلر. باقي أفلام تورونتو الرئيسية تبدو كلها صالحة لكي تتوزع فيما بعد على المهرجانات والمناسبات الأخرى خصوصا أنه يحتوي على العدد الأكبر من الأفلام المبرمجة من أي مهرجان مواز لاحق.
لكن قوّة تورونتو تكمن أساساً في أفلام العرض الأول ولديه منها العديد هذا العام: المخرج ستيف ماكوين يعود بفيلم جديد عنوانه «أرامل» وهو الأول له منذ أن فاز فيلمه السابق «12 سنة عبداً» بأوسكار أفضل فيلم سنة 2014. لدى تورونتو أيضاً ويعود كلير ديني من مقاطعة كوبيك بفيلم ناطق بالإنجليزية (لأول مرة) عنوانه «هاي لايف».
وتراهن نادين لبكي على اشتراك فيلمها «كفر حانوم» في مهرجان تورونتو المقبل لفتح باب الاشتراك بفيلمها هذا في مسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
- توليارايد
ازدادت أهمية توليارايد كمنصة إطلاق في السنوات الأخيرة ودورته الـ45 ستنطلق بموازاة مهرجان فينيسيا، لكنّها ستحتوي على أفلامها الخاصة (لم يعلن عنها كلياً بعد)، ومنها فيلم ديفيد لاوري الجديد «العجوز والمسدس» وهذا سيكون آخر فيلم سيُمثّل به روبرت ردفورد، كما أعلن قبل أيام. وهناك «المرشح المتقدم» (The Front Runner) الذي يدور حول المرشح غاري هارت كما يؤديه هيو جاكمان. ومخرج «مونلايت»، باري جنكنيز يعود بفيلم جديد عنوانه «لو يستطيع بيل ستريت الكلام» الذي قد يكتفي بمهرجان توليارايد إذ لا يبدو مدرجاً في أي مهرجان آخر حتى الحين.
يتضح فيما سبق كيف تحوّل الأوسكار إلى غاية وكيف بات التحضير له يبدأ، بالنسبة لغالبية الأفلام الواعدة، خارج الحدود الأميركية قبل أن ينصب فيها. وكدليل إضافي لما سبق، كما لو أن ما سبق غير كاف، نلاحظ أن مهرجان لوس أنجليس ينتقل هذا العام، وبعد 23 سنة من إقامته، من ربيع السنة إلى موسمها الساخن إذ سيُنظّم مباشرة بعد تورونتو (ما بين 20 و28 من سبتمبر «أيلول» المقبل) وذلك ليضمن لنفسه حصّة من الهرج الكبير.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)