بدأت حياتي الصحافية رئيساً للتحرير من دون المرور بأي مرحلة سابقة. كان ذلك في قريتنا، وكنت في المرحلة الإعدادية. طلب منا مسؤول في مركز شباب القرية كتابة «مجلة حائط». تحدثت مع زملائي وعينتُ نفسي رئيساً للتحرير. وبناءً عليه أخذت أكبر مساحةٍ على ورق الحائط. لكن المدهش في تلك التجربة هو الاسم الذي اخترته لهذه المجلة المعلقة على الجدار. كان اسمها «بسيون تايمز».
لقد مضى رئيس تحرير «بسيون تايمز» إلى المرحلة الثانوية ليصبح رئيس تحرير مجلة مطبوعة أصدرها اتحاد طلاب محافظة الغربية. وقد تصدَّر الغلاف حوار مطول مع الكاتب الشهير مصطفى أمين.
ثم مضت الرحلة إلى رئاسة التحرير الثالثة. حيث عدتُ مرةً أخرى إلى مجلة حائط جامعية أثناء دراستي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة. ومن المثير حقاً في تلك التجربة هو ما أبلغني به الأستاذ حسن محمد حسنين هيكل والذي كان يدرِّس الاقتصاد في الكلية. قال لي: إن كبريات الصحف تقف على باب أبي لتأخذ دوراً ولا تستطيع. كيف تنشر حواراً مع الأستاذ هيكل في مجلة حائط؟!
وكان الأستاذ هيكل قد طلب أن يجلس إلى جوار الطلاب أثناء حضوره ندوة بالكلية. وقد جاء مقعده إلى جواري. وتحدث معي أكثر من نصف ساعة. وقد وجدتُ في حديث الأستاذ هيكل سبقاً صحافياً كبيراً. قمتُ بنشره في مجلة الحائط «المرموقة»!
لم أعدُ رئيساً للتحرير مرةً أخرى. ويبدو أنني اكتفيتُ برئاساتي الثلاث أثناء مراحل التعليم. وحين بدأت العمل في مؤسسة الأهرام. كنتُ أصغر من كتب مقالاً رئيسياً في صفحة الرأي بالأهرام حتى سنواتٍ طويلةٍ من ذلك الوقت.
لقد نشرت على أثر ذلك سلسلة مقالات في صحيفتي الأهرام المسائي والوفد. وقد كان أحد هذه المقالات بداية تعارفي على الدكتور أحمد زويل. أصبحت قريباً من الدكتور زويل. ثم عملت مستشاراً له لسنوات طويلة. حتى أصبحت مستشاراً لرئيس مصر السابق عدلي منصور.
خضتُ تجربة جديدة في فنون الكتابة مع الدكتور زويل. فقد قمت بتحرير مقاله الوحيد في صحيفة الأهرام. «مستقبل العلم في مصر». رفضت الأهرام نشر الشكر الذي وجهه لي في هامش المقال كمحررٍ. لكنّني تشرفتُ لاحقاً بتقديم كتابه «عصر العلم» بعد الأستاذ نجيب محفوظ. ولازلتُ أعتبر أن تحريري وتقديمي لذلك الكتاب أهم ما كتبت. ذلك أنني نجحت في تمجيد سيرتي عبْر وجودي في الكتاب الوحيد الذي يجمع جائزتي نوبل. معاً.
ولقد كان تحريري لكتاب الدكتور أحمد زويل السبب الرئيسي في تحريري مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي فيما بعد. وفي العروض التي تدفقّت لاحقاً لتحرير الكثير من المذكرات للشخصيات الكبرى. والتي اعتذرتُ عنها جميعاً.
لم أقتنع بأن يكون دوري هو تحرير كتاب الدكتور أحمد زويل. ولا وجود اسمي إلى جوار اسم صاحبي نوبل في مقدمة الكتاب. وفي فصوله وصوره. وقررتُ أن أضيف للعلم - لعلم الكيمياء - نعم علم الكيمياء. مصطلحاً جديداً.
كنت في واشنطن حين دعاني الدكتور زويل للقائه في نيويورك. قال لي: أعرف أنّك من بسيون. وسوف تتوه في نيويورك، وأعرف أنك لن تستطيع المجيء في موعدك. في كل الأحوال سيكون معي كتاب للقراءة طيلة موعدك معي. وأنا واثق أنني سأقرأ دون إزعاج وصولك.
كانت الساعة عند الموعد تماماً عندما صافحت الدكتور زويل. مفاجئاً ومباغتاً. قلت له: دكتور زويل. انظر إلى ساعتك. إن مواعيدي ليست بالثانية. إنها بالفيمتو ثانية. أرجو ألّا تغفل هذه الإضافة الكبرى منّي لعلم كيمياء الفيمتو. أنت مؤسس كيمياء الفيمتو وأنا مؤسس مواعيد الفيمتو!
وبعد سنواتٍ. دخلتُ قصر الاتحادية مستشاراً لرئيس الجمهورية. قال لي كبير الأمناء: موعدك مع السيد الرئيس الساعة الثانية عشرة. والمواعيد هنا بالثانية. قلت له: لا تحتاج إلى تنبيهي. أنا مؤسس مصطلح «مواعيد الفيمتو». ثم شرحتُ له قصة المصطلح مع عالم نوبل.
وصلتُ متأخرا ساعة كاملة. قال لي كبير الأمناء: يا أستاذ. هل هذه هي مواعيد الفيمتو ثانية؟. لم أتأخر لحظة واحدة فيما بعد. لكن نظريتي حول مواعيد الفيمتو لم تعد صالحة للاستعراض. لقد أدى زحام القاهرة السياسي في ذلك اليوم إلى الإساءة إلى المصطلح الوحيد الذي أضفتُه إلى علم الكيمياء: مواعيد الفيمتو.
* إعلامي مصري