يوميات الإنقاذ في المتوسط... بين إغاثة المصابين وانتشال الجثث

مشاهد رصدتها «الشرق الأوسط» من سفينة تحولت إلى رمز لأزمة الهجرة الأوروبية

جانب من عملية إنقاذ الشهر الماضي (كيني كاربوف - «إس أو إس ميديتيراني»)
جانب من عملية إنقاذ الشهر الماضي (كيني كاربوف - «إس أو إس ميديتيراني»)
TT

يوميات الإنقاذ في المتوسط... بين إغاثة المصابين وانتشال الجثث

جانب من عملية إنقاذ الشهر الماضي (كيني كاربوف - «إس أو إس ميديتيراني»)
جانب من عملية إنقاذ الشهر الماضي (كيني كاربوف - «إس أو إس ميديتيراني»)

صندوقان، أحدهما أحمر والآخر على يمينه أزرق يلخّصان أزمة الهجرة عبر المتوسط. الأول يحمل مئات سترات النجاة والبطانيات، والآخر مثل هذا العدد من أكياس يُغلّف فيها الموتى، ويُضاعف عددها لعزل روائح الجثث عن الناجين. ينتشر مئات المهاجرين على متن سفينة خشبية، النساء والأطفال في غرف خاصة، والرجال مفصولون عنهم في جانب آخر. 630 سيدة وشاباً وعجوزاً وطفلاً شاهدوا الموت ونجوا منه، اختلطوا ببضعة منقذين، بينهم بحارة محترفون وممرضات و«قابلة» وطبيب. قضوا 48 ساعة على سفينة الإنقاذ «أكواريوس»، التابعة لمنظمتي «إس أو إس ميديتيراني» و«أطباء بلا حدود» لإغاثة المهاجرين، في انتظار موافقة أحد الموانئ الآمنة على استقبالهم. مع انخفاض مؤونات الماء والغذاء، تزايدت الضغوط على السلطات الأوروبية، واستمرت الحكومة الإيطالية في رفضها رسو السفينة التي غادرت من شواطئ كتانيا، لتعلن مدريد استعدادها لاستقبال السفينة في موانئ فالينسيا. تعالت أصوات الاستنكار من ضفتي المتوسط، وتساءل الكثيرون عما آلت إليه «أوروبا القيم». تحوّلت «أكواريس» منذ ذلك الوقت إلى رمز على حقبة جديدة تعيشها أوروبا، حيث طفت الخلافات على السطح وبدا السباق على تسجيل نقاط سياسية قصيرة المدى أهم من إنقاذ أرواح يائسة من الغرق. زارت «الشرق الأوسط» سفينة «أكواريوس» الراسية في ميناء مارسيليا التجاري، وقضت يوماً برفقة أفراد من فريق الإنقاذ الذي أشرف على إيصال الآلاف إلى بر الأمان.
وفيما يلي نبذة عن قصص هؤلاء، والتحديات التي يواجهونها خلال إنقاذ مهاجرين غير شرعيين وطالبي لجوء من الغرق.
«أكواريوس» هو اسمها، و«سيدة البحار» لقبها. بنتها البحرية الألمانية في سبعينات القرن الماضي لمرافقة قوارب الصيد وتمريض الصيادين، ثم استخدمت لتزويد سفن التنقيب عن الألماس في أعماق البحر بالوقود، إلى أن تحولت إلى إحدى أشهر سفن «البحث والإنقاذ» في البحر المتوسط.
أطلقت «أكواريوس» عملياتها في فبراير (شباط) 2016، بتشغيل مشترك من «إس أو إس» و«أطباء بلا حدود»، وقامت بـ234 عملية إنقاذ، شكّلت نحو 20 في المائة من إجمالي عمليات الإغاثة التي أجرتها منظمات غير حكومية، و6.4 في المائة من إجمالي العمليات منذ عام 2016. تبلغ كلفة يوم واحد في البحر نحو 11 ألف يورو (12.8 ألف دولار)، وتعتمد السفينة على مساهمات طوعية لتغطية 90 في المائة من عملياتها، وعلى فريق من عشرات البحارة والمنقذين المحترفين، بينهم متطوعون وآخرون يتسلمون رواتب. قد يبدو هذا المبلغ مرتفعاً، لكنه يخجل أمام عدد المهاجرين واللاجئين الذين أنقذتهم «أكواريوس» خلال السنتين ونصف السنة التي قادت فيها عملياتها، ويشمل 29318 شخصاً بين السواحل الليبية والإيطالية، بينهم 9 آلاف و75 شخصاً نُقلوا إلى السفينة من مراكب إنقاذ أخرى.
كليمان منقذ فرنسي في منتصف العشرينات اكتفى بتعريف اسمه الأول، ودفعه سبب وجود «أكواريوس» في ميناء مرسيليا إلى التساؤل: «ما الذي نفعله هنا؟ نحن لا نسهم في إنقاذ الأرواح من هنا».
إحباط كليمان، البحار الشاب الذي التحق بالسفينة منذ الشهور الأولى من انطلاق عملياتها الإنسانية، يتقاسمه معظم طاقم «أكواريوس» التي أُجبرت على ملازمة ميناء مرسيليا الفرنسي منذ 29 يونيو (حزيران) الماضي بعد أن رفضت كل من إيطاليا ومالطا استقبالها. لكن كليمان استدرك بتفاؤل: «نستغل هذه الفترة لتحديث معدّاتنا، وإضافة أخرى كنا بحاجة إليها»، استعدادا لاستئناف عمليات الإنقاذ خلال أيام.
- رحلة حياة أو موت
عملت «أكواريوس» منذ انطلاق مهمتها عن كثب مع مركز تنسيق الإنقاذ البحري الإيطالي، الذي كان يزوّدها بإحداثيات المراكب المطاطية أو زوارق المهاجرين في عرض البحر، قبل أن تتخذ الحكومة الإيطالية الجديدة قرار وقف هذا التنسيق في الأسابيع الماضية.
وبالإضافة إلى الإحداثيات، يساهم جميع أفراد طاقم «أكواريوس» في عمليات «مسح» بالرادار البحري، وبالعين المجردة لمدة ساعة ونصف الساعة يوميا.
يستحضر كليمان تفاصيل عمليات البحث والإنقاذ التي يشارك فيها بشكل دوري. «مفتاح نجاح أي عملية إنقاذ في عرض البحر هو الحفاظ على هدوء الركاب، التحدي واضح: تهدئتهم أو سقوطهم في البحر الواحد تلو الآخر واحتمال الموت غرقا». فبمجرد أن يبدأ أحد المهاجرين، على المراكب المكتظة غالبا وغير المؤهلة للإبحار، في التوتر، يليه جميع الركاب ويبدأون في القفز في المياه العميقة والباردة، حتى وإن كانوا غير قادرين على السباحة. هذا إن لم يفقد القارب توازنه وينقلب على ركابه. ويقول كليمان إنه يتم إرسال «وسيط ثقافي» أولا يتحدّث ويهدّئ الركاب، قبل أن نوزّع عليهم سترات نجاة. وتستمر عمليات الإنقاذ في هذه الحالات نحو ساعة ونصف الساعة، لكنها قد تأخذ فترة أطول بكثير ما يرفع احتمال الموت غرقا أو بانخفاض درجة حرارة الجسم.
التحدي الكبير الثاني في عمليات الإنقاذ هو احتراق الركاب بخليط من الوقود ومياه البحر الحارقة. تحمل مراكب المهاجرين عادة خزاناً صغيراً أو اثنين من الوقود، الذي يتسرّب في المركب ويختلط بالمياه المالحة ليتحول إلى خليط حارق. ويشرح كليمان أن هذه الإصابة هي الأكثر شيوعا في عمليات الإنقاذ، وتصيب الركاب بدرجات متفاوتة. ويوضح: «إن تسرب الوقود في المركب والمهاجرون جالسون على متنه أو أطرافه، يحترق الجزء السفلي من أجسامهم. أما إن أصيبت ذراعهم، فينبغي على المنقذين توخي الحذر عند جرّهم إلى الأعلى لتفادي اقتلاع الجلد». ولا يُفلت المنقذون من احتمال الاحتراق عند إتمام عمليات الإنقاذ.
ويشرح كليمان أنه بمجرد نقل المهاجرين على متن السفينة، يغسل المصابون أجسامهم بالماء البارد والصابون، ويُعالج أسوؤهم بالأدوية والضمادات. كما يتعرض الأطفال الذي يستنشقون البنزين لفترة طويلة إلى حالات إغماء في البحر، ما يعقّد عملية إنقاذهم.
أما الحالة الطبية الشائعة الأخرى التي يعاني منها المهاجرون هي انخفاض درجات حرارة الجسم إلى مستويات خطيرة، تؤدي في الحالات المتقدمة إلى توقف نبضات القلب. ويُعِدّ طاقم الإنقاذ «بطانيات» خاصة وأكواب شاي ساخن يوزّع على جميع المهاجرين لاستعادة دراجة حرارة الجسم الطبيعية. وتشمل أنواع الإصابات الأخرى أطرافاً مكسورة وإصابات بالرصاص يتعرض لها في حالات نادرة بعض أفواج المهاجرين عند مغادرة السواحل الليبية.
- ولادة «معجزة»
بابتسامة عريضة تروي أموان، القابلة من ساحل العاج، مشاركتها في إحدى عمليات الإنقاذ الأخيرة عند السواحل الليبية، التي شهدت ولادة ناجحة على متن السفينة.
فعند إنقاذ ركاب القوارب، الذين يشملون في المتوسط 10 في المائة من النساء وبين 30 و40 في المائة من القاصرين، 80 في المائة منهم غير مرافقين، تُفصل النساء والأطفال تحت سن الـ14 عن الرجال، ويوضعون في «ملاجئ» خاصة. ويوزّع على جميع من تم إنقاذهم عدّة صغيرة، بها بطانيات إضافية وعصير وقنينة ماء، وملابس داخلية نظيفة و«بسكويتاً» مغذّياً.
تهتم أموان بجميع النساء والأطفال الموزعين بين غرفتين متوسطتي الحجم، تتخلل جدرانها لافتات مكتوبة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية توفّر رقماً هاتفياً يساعد في دعم ضحايا العنف الجنسي، وتدعو إلى احترام الجميع وتفادي العنصرية. «وعادة ما تنام النساء وباقي المهاجرين لساعات طويلة بمجرد الوصول إلى السفينة. والسبب هو الإنهاك»، وفق كليمان.
فتحت أموان، التي عملت أكثر من ثلاثة عقود في المجال الإنساني، صناديق خشبية رتّبت في داخلها «حفاضات» للأطفال وملابس داخلية حسب الحجم، ومعدّات تمريض أخرى. أشرفت الممرضة، التي تفحص جميع النساء والأطفال، على ولادة سادس طفل على متن «أكواريوس» منذ انطلاق عملياتها. سُمّي الطفل «معجزة»، واحتفى فيه الإعلام الدولي في مايو (أيار) الماضي، بقدر ما احتفى به المهاجرون الناجون بالرقص والغناء.
لم تُخفِ أموان كمّ الصعاب التي تواجهها على متن السفينة وحجم معاناة النساء اللائي مرّ أغلبهنّ بمحن يصعب توصيفها، خصوصاً الحوامل منهن اللواتي تعرّضن لحوادث اغتصاب. لكنها استعادت ابتسامتها، وقالت بتفاؤل إن «عملية الولادة مفرحة. فبعد عدة ساعات من المعاناة ونتيجة مجهولة، تُنسيك صرخة المولود الأولى، وابتسامة الأم كل التعب». وأضافت أنه رغم كل المعاناة، انتهى بنا الأمر خلال مهمة الإنقاذ الأخيرة إلى الرقص ببهجة.
تقدّم السفينة المساعدات الأولية لركابها، فهي تشمل «عيادتين» متواضعتين للنساء الحوامل أو المصابين، أو المهاجرين الذين هم بحاجة إلى محلول ملحي، لكنها غير مؤهلة لإجراء عمليات أو استخراج الرصاصات. ويوضح المنقذ كليمان أنه في الحالات الخطرة جدّاً التي لا تحتمل الانتظار، يتم الاتصال بمراكز تنسيق الإنقاذ لنقل المرضى بمروحية. وفي الحالات الأقل جدية، توزّع أدوية حسب الحاجة. وعادة ما يطالب المهاجرون بأدوية رغم عدم حاجتهم لها، فيوزّع عليهم أكواب ماء بسكر، «ما يفي بالغرض في غالب الأحيان».
يتلقى المهاجرون وجبتين في اليوم. الأولى عبارة عن خبز وشاي وبسكويت مغذٍّ، والثانية يضاف إليها كميات من الأرز. وفي حالات نادرة، مثل الأخيرة التي وجدت «أكواريوس» نفسها عالقة في المتوسط، يتم التنسيق مع أقرب الموانئ (إيطاليا ومالطا) لتزويد السفينة بمزيد من الغذاء، يشمل فواكه وخضراوات أحياناً.
يوميات الإنقاذ في المتوسط... بين إغاثة المصابين وانتشال الجثث

- وقف التنسيق الإيطالي
«المسؤولية الأولى لأي سفينة في البحر، مهما كانت طبيعتها، هي إنقاذ المستضعفين وإيصالهم إلى بر الأمان. إنها مسؤولية مشتركة بين السفن ومراكز تنسيق الإنقاذ».
من «كبينته» المغطّاة بخرائط الملاحة البحرية وصور مبهجة من عمليات إنقاذ ناجحة، كرّس نيكو ستالا، ثلاثة أرباع ساعة لم تتوقف خلالها المقاطعات لـ«الشرق الأوسط»، استعرض خلالها التحديات الجديدة التي أصبحت تواجه العاملين في مجال الإنقاذ قبالة السواحل الأوروبية.
بدأ ستالا مسيرته مع «أكواريوس» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 بحاراً ومنقذاً، ليتولى بعدها تنسيق جميع عمليات البحث والإنقاذ في مارس (آذار) 2017. ويشمل نشاطه اليومي توزيع المهام على طاقم السفينة الذي يشمل نحو 17 جنسية، كما يقود جلّ عمليات الإنقاذ.
وكان وقع الرحلة الأخيرة على متن «أكواريوس» قاسياً بشكل خاص على ستالا. فبالإضافة إلى التحديات التي ترافق عمليات الإنقاذ عادة، يجد البحار الإيطالي صعوبة بالغة في تقبّل قرار حكومة بلاده قطع التنسيق عن سفن الإنقاذ ومطالبتها المنقذين السماح لخفر السواحل الليبية إعادة المهاجرين إلى أراضيها «قسراً». ووصف وزير الداخلية الإيطالي الجديد ماتيو سالفيني، الذي تسلَّم منصبه بعد تشكيل حكومة ائتلافية بين حزب «الرابطة» وحركة «خمسة نجوم»، السفينة بـ«سيارة أجرة» للمهاجرين غير الشرعيين، ورفض استقبالها في موانئ صقلية.
في المقابل، استحضر ستالا السلاسة التي كانت تجري بها عمليات الإنقاذ قبل يونيو الماضي، بالقول: «كانت لدينا علاقة وثيقة بمركز التنسيق في روما، ولطالما اعتبرت إيطاليا سفينة (أكواريوس) جزءاً أساسياً من عمليات الإنقاذ. عندما كنا نتلقى رسالة استغاثة من مركز التنسيق، كانت أقرب سفينة لمكان المركب تسخّر القدرات المتاحة لها، لتنفيذ عملية إنقاذ في أقصر وأفضل ظرف زمني ممكن».
وأدان ستالا «التعليمات» التي تلقتها السفن بالابتعاد عن المراكب بحاجة إلى الإغاثة، «في انتظار وصول خفر السواحل الليبية». واعتبر أن هذا القرار منافٍ لجميع القوانين الدولية وأعراف البحر. «ما نراه في سياسة الدعم الأوروبي لعمليات البحث والإنقاذ الليبية في المياه الدولية يخدم تشديد مراقبة الحدود الأوروبية، على حساب إنقاذ المستضعفين وحقهم في الوصول إلى مكان آمن». واعتبر أن سياسة «الإعادة القسرية» منافية لقوانين اللجوء الدولية. وقد أُدينت إيطاليا في عام 2009 من طرف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لممارستها سياسة «الإعادة القسرية»، بعدما اعترضت قوارب لاجئين ومهاجرين في المياه الدولية وأعادتهم إلى ليبيا. وواصل: «ما تقوم به إيطاليا اليوم هو إعادة قسرية «بالوكالة»، وهو ما يتعارض مع حق الأشخاص في النزول في منطقة آمنة»، مشيراً إلى أن ليبيا تعاني اليوم من نزاع مسلح.
كما لفت إلى أن الحملة التي شهدتها أوروبا حديثاً ضد منظمات الإنقاذ، ورفض الموانئ الإيطالية والمالطية وغيرها من السلطات الأوروبية استقبال السفن، أدّيا إلى ارتفاع نسبة الوفيات في المتوسط، لافتاً إلى أن شهر يونيو سجّل أعلى مستوى وفيات في البحر منذ سنوات رغم انخفاض عدد الوافدين إلى إيطاليا بأكثر من 70 في المائة مقارنة مع 2017.
- توسيع صلاحيات خفر السواحل الليبي
تعترض «إس أو إس ميديتيراني»، مثل غيرها من منظمات الإنقاذ، على تسلُّم خفر السواحل الليبية مهمات الإنقاذ على المياه الدولية لعدة أسباب، وفق البحار الإيطالي. أهمها أنه ليس مؤهلاً للقيام بعمليات البحث والإنقاذ، ولا يرقى أسطوله لمستوى سفن الإنقاذ المتخصصة، «فهو لا يملك سوى زورقي دورية أو ثلاث في مساحة تصل إلى 150 ميلاً بحريّاً». وقد تبرعت إيطاليا في 2017 لليبيا بأربع زوارق دورية، لا يُسيّر إلا اثنان منهما في الوقت نفسه، وفق ستالا. فضلاً عن ذلك، يقول إن «أساليب ومعدّات الإنقاذ التي يستخدمونها غير مناسبة لإنجاز عمليات إنقاذ واسعة» لعشرات، وأحياناً مئات الأشخاص.
أما السبب الثالث، فيتعلق بالأوضاع في ليبيا نفسها. ويرى ستالا أن «هؤلاء الأشخاص (نسبة إلى المهاجرين) يهربون من ليبيا التي تشهد أحد أسوأ الظروف الإنسانية التي يعرفها العالم»، ولعل ذلك يبرّر سبب تفضيل المهاجرين المجازفة بحياتهم ومواصلة الإبحار رغم تحذيرات خفر السواحل الليبية، على العودة إلى ليبيا. ويقول إنه شهد بنفسه من على متن «أكواريوس» زورقاً ليبياً يطارد قارباً مطاطياً مكتظّاً بالمهاجرين في عرض البحر، لافتاً إلى وجود تقارير حول أخذ عملية «المطاردة» منحى عنيفاً أحياناً.
وانتقد ستالا كذلك «مراكز الاستقبال» في ليبيا، وقال إنها لا توفّر عملية تسجيل المهاجرين، وبالتالي يستحيل متابعة أوضاعهم أو معرفة مصيرهم.
ويحظى موقف ستالا ومنظمته بإجماع بين المنظمات غير الحكومية ووكالات أممية، وحتى لدى بعض المسؤولين الأوروبيين. وذكرت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، الأسبوع الماضي، أن «عرقلة الاتحاد الأوروبي لعمليات الإنقاذ غير الحكومية وتسليم المسؤولية إلى خفر السواحل الليبي هي وصفة لخسائر أكبر في الأرواح في البحر الأبيض المتوسط، ودورة مستمرة من الانتهاكات للأشخاص العالقين في ليبيا».
وقالت جوديث سندرلاند، مديرة مشاركة لقسم أوروبا وآسيا الوسطى بـ«هيومن رايتس ووتش»، الأربعاء الماضي في بيان، إن «جهود الاتحاد الأوروبي لمنع عمليات الإنقاذ والتردد بشأن أماكن إنزال الأشخاص الذين تم إنقاذهم، مدفوعة بنهج إيطاليا المتشدد ومقاربتها القاسية، تؤدي إلى مزيد من الوفيات في البحر، ومعاناة أكبر في ليبيا».
بدورها، دعت منظمة أطباء بلا حدود الإغاثية الدولية، إلى وضع حد لـ«الاحتجاز التعسفي للاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين في ليبيا»، معتبرةً أن «الأوضاع في مراكز الاحتجاز المكتظة أصلاً، تزداد سوءاً بعد الزيادة الهائلة في عدد الأشخاص الذين تم اعتراضهم في البحر الأبيض المتوسط ويتم استقدامهم إلى ليبيا من قبل خفر السواحل الليبي المدعوم من الاتحاد الأوروبي».
وقد تمّت إعادة ما لا يقل عن 11 ألف شخص إلى ليبيا من قوارب غير صالحة للإبحار في البحر المتوسط حتى الآن هذا العام وفقاً لـ«أطباء بلا حدود»، وتحدث عمليات الاعتراض في المياه الدولية بين إيطاليا ومالطا وليبيا بشكل يومي تقريباً.
وذكرت كارلين كليجير، مديرة برنامج الطوارئ في منظمة «أطباء بلا حدود» أنه «لا ينبغي نقل الأشخاص الذين لم يمضِ وقت طويل على معاناتهم من حياة مؤلمة وأوشكوا على الموت في البحر، إلى نظام احتجاز تعسفي مؤذٍ وقائم على الاستغلال. لقد عانى الكثيرون بالفعل من مستويات خطيرة من العنف والاستغلال في ليبيا، وأثناء الرحلات المروعة من بلدانهم الأصلية. وهنالك ضحايا للعنف الجنسي والاتجار والتعذيب وسوء المعاملة. ومن بين الفئات الضعيفة أطفال (في بعض الأحيان من دون أحد الوالدين أو وصي)، أو نساء حوامل أو مرضعات، أو كبار السن، أو أشخاص من ذوي الإعاقات العقلية، أو أشخاص يعانون من ظروف صحية خطيرة».
- عودة إلى البحر دون ضمانات
وفي «الجانب المشرق من المتوسط»، ترددت مخاوف مراراً حول مصير المهاجرين غير الشرعيين الذين نجحت «أكواريوس» في إنقاذهم. ففي كثير من الأحيان، لا يكون الحلم الأوروبي مطابقاً لما كان يتصوَّرُه آلاف الحالمين بحياة كريمة وآمنة. «كثيراً ما نصطدم بحقيقة أن الرحلة الشاقة والمحفوفة بالمخاطر التي أسهمنا في إنهائها، لم تكن سوى بداية عملية طويلة ومؤلمة لكثيرين»، جملة تكررت في مختلف أرجاء السفينة وخارجها.
ويقول جوليان، سائق تاكسي يصطحب ركابه «الشرعيين» من وإلى مطار مرسيليا: «يتوافد الأفارقة والمغاربة إلى سواحل أوروبا، ويكتظون في ضواحي مدنها، ويشغلون وظائف تعيسة لا تضمن العيش الكريم، فيما يحترف بعضهم الجريمة. لو علموا بما ينتظرهم هنا، لما فكّروا بالمجيء».
لكن الصورة ليست دائماً قاتمة. يتذكّر ستالا، وهو جالس في مكتبه برفقة زميلين بحارين، قصة ثاني عملية إنقاذ يقوم بها على متن «أكواريوس»، ويقول: «وصلتني أخيراً رسالة من أحد الشباب الذي نجا من إحدى أصعب عمليات الإنقاذ. غرق مركب مطاطي وسقط العشرات في البحر. انتشلنا خمس جثث، بينهم ولد صغير نجحنا في إعادته إلى الحياة. كانت المرة الأولى التي أنتشل فيها جثثاً، وأُغلّفها في أكياس. لكن رسالة هذا الولد المتحدّر من غينيا أبهجتني. فهو اليوم في إيطاليا، بتعلّم اللغة ومنخرط في برنامج اندماج».
أصبحت سياسات الهجرة تحتل المراتب الأولى في أجندات الحكومات الأوروبية. ومع مرور كل يوم نسمع فيها أخباراً تفيد بغرق العشرات في مياه المتوسط، تزداد الضغوط على البلدان الأصلية لتحسين أوضاعها الاقتصادية وتوفير ظروف أفضل لشبابها، فيما تشدد الحكومات الأوروبية حراسة حدودها على حساب قواعد وقيم «التضام الأوروبي».
في خضمِّ هذا الجدل، تستعد «أكواريوس» للعودة إلى البحر بعد أيام، جاهلةً من سيسمح برسوّها واستقبال الناجين على متنها.


مقالات ذات صلة

مقتل 9 مهاجرين وفقدان 6 آخرين قبالة سواحل تونس

شمال افريقيا حرس جزر الكناري الإسبانية يقدم مساعدات لمهاجرين أفارقة انطلقوا من سواحل تونس بعد غرق مركبهم (إ.ب.أ)

مقتل 9 مهاجرين وفقدان 6 آخرين قبالة سواحل تونس

قضى تسعة مهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، وفُقد ستة آخرون بعد غرق قاربهم قبالة السواحل التونسية.

«الشرق الأوسط» (تونس)
العالم العربي دول أوروبية تعلق البت في طلبات اللجوء المقدمة من سوريين (أ.ف.ب)

دول أوروبية تعلق طلبات اللجوء المقدمة من سوريين بعد الإطاحة بالأسد

علقت دول أوروبية كثيرة التعامل مع طلبات اللجوء المقدمة من سوريين بعد استيلاء المعارضة على دمشق وهروب الرئيس بشار الأسد إلى روسيا بعد 13 عاماً من الحرب الأهلية.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
شمال افريقيا عملية إنقاذ سابقة لمهاجرين غير نظاميين غرب ليبيا (جهاز مكافحة الهجرة)

سلطات طرابلس تضبط 40 باكستانياً قبل تهريبهم إلى أوروبا

يقول «جهاز دعم الاستقرار» الليبي بطرابلس إنه «تم جلب هؤلاء المهاجرين عبر تشكيل عصابي دولي يتقاضى 20 ألف دولار أميركي من كل مهاجر مقابل إرساله إلى ليبيا».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم العربي قوات بحرية مصرية تحبط محاولة هجرة غير شرعية لمركب بالبحر المتوسط (المتحدث العسكري)

الجيش المصري يحبط محاولة هجرة غير شرعية عبر البحر المتوسط

أعلن الجيش المصري، الاثنين، تمكنه من إحباط محاولة هجرة غير شرعية لمركب على متنه 63 فرداً، بينهم 3 سودانيين، بالبحر المتوسط.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا جانب من ترحيل السلطات الليبية عدداً من المهاجرين المصريين (جهاز مكافحة الهجرة)

الإعلان عن «تحرير» 9 مصريين من قبضة عصابة بشرق ليبيا

قالت سلطات أمنية بشرق ليبيا إنها نجحت في «تحرير» 9 مصريين من قبضة عصابة في عملية وصفتها بـ«المُحكمة».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.