ترميم وتركيب 870 قطعة خشبية من مركب خوفو الثاني بمصر

عثر عليها عام 1954 بجوار الهرم الأكبر

الفريقان الياباني والمصري المشرفان على أعمال الترميم يتفقدان القطع الخشبية للمركب («الشرق الأوسط»)
الفريقان الياباني والمصري المشرفان على أعمال الترميم يتفقدان القطع الخشبية للمركب («الشرق الأوسط»)
TT

ترميم وتركيب 870 قطعة خشبية من مركب خوفو الثاني بمصر

الفريقان الياباني والمصري المشرفان على أعمال الترميم يتفقدان القطع الخشبية للمركب («الشرق الأوسط»)
الفريقان الياباني والمصري المشرفان على أعمال الترميم يتفقدان القطع الخشبية للمركب («الشرق الأوسط»)

أعلن مسؤول مصري أمس الأربعاء، الانتهاء من ترميم وتركيب 870 قطعة خشبية من أجزاء مركب الملك خوفو الثاني بالجيزة. وقال عيسى زيدان مدير عام الترميم بالمشروع المصري - الياباني لترميم مركب الملك خوفو الثاني، في بيان صحافي أمس، إنه تم رفع ما يقرب من 10 طبقات من إجمالي 13 طبقة في المركب، وأن عدد القطع التي تم رفعها حتى الآن، بلغ نحو 870 قطعة خشبية.
وتفقد ماستاكا تاكيشيتا مدير عام هيئة التعاون الدولي اليابانية (الجايكا) في أوروبا والشرق الأوسط، ويوشيفومي مورا مدير الجايكا في مصر مشروع ترميم مركب خوفو الثاني لمتابعة الأعمال بالمشروع.
وأوضح زيدان أن الزيارة تضمنت تفقد مراحل أعمال الترميم الأولى للقطع الخشبية الموجودة داخل الحفرة وأعمال رفع تلك القطع الإضافة إلى القطع الخشبية التي يتم ترميمها داخل معملي الترميم بالموقع مع شرح مفصل عن الخطوات المتبعة لتنفيذ المشروع والانتهاء منه.
وأكد زيدان أن تاكيشيتا أعرب عن سعادته ‏بما تم إنجازه بالمشروع وبالأسلوب العلمي ‏المستخدم في أعمال الترميم الدقيق‏ ورفع القطع الخشبية، آملا في رؤية ذلك المركب مجمعة ومعروضة بالمتحف المصري الكبير.
كما حرص تاكيشيتا ومورا والوفد المرافق لهما على زيارة‏ المعرض المؤقت الذي يعرض بعض الأجزاء الخشبية للمركب، والتي تم الانتهاء من ترميمها وقد أبدوا إعجابهم بالعمل وبكفاءة الفريق المصري.
يذكر أن مشروع ترميم مركب خوفو الثاني هو مشروع مصري ياباني مشترك بين وزارة الآثار المصرية، وجامعة هيجاشي نيبون الدولية، ويعتبر أحد أهم المشروعات التي تدعمها الجايكا في مصر بعد مشروع المتحف المصري الكبير، وتبلغ تكلفة ترميم المركب نحو 10 ملايين دولار.
ويميز مراكب الشمس أنها متقنة النحت، ومصنوعة من خشب الأرز ومتصلة ببعضها بالحبال. وفي 25 يونيو (حزيران) عام 2013 أعلنت وزارة الآثار المصرية، أنها أخرجت أول قطعة خشبية من «مركب الشمس» الثاني إلى النور، منذ أن حفظها الفراعنة داخل حفرة بجوار أكبر أهرامات الجيزة الثلاثة المعروف باسم «هرم الملك خوفو» قبل نحو 4500 عام، إيذانا ببدء ترميمها.
ومراكب الشمس هي مراكب جنائزية ذات طبيعة رمزية، تستخدم لـ«الذهاب لاستعادة الحياة من الأماكن المقدسة» بحسب عقيدة المصريين القدماء.
واكتشف الأثري المصري الراحل كمال الملاخ المركبين في الجهة الجنوبية لهرم خوفو، وقد تم عرض المركب الأول داخل المتحف الخاص به، بجوار الهرم الأكبر والذي أنشئ من أجله وفي نفس المكان الذي اكتشف فيه حول منطقة الحفرة، لكن الثاني سوف يتم نقله إلى المتحف الكبير. وظلت الأجزاء الخشبية التي تنتمي لأشجار الأرز اللبنانية، والتي عثر عليها مفككة، محفوظة داخل الحفرة؛ وكانت مرتبة بدقة وعناية شديدة وقد قامت «هيئة الآثار المصرية» بتجميعها وترميم أجزاء منها حتى وصلت للشكل الذي كانت علية قبل دفنها.
ويعول أثريون ومهتمون بالسياحة في مصر على هذه الآثار النوعية في تدعيم السياحة في الفترة المقبلة، لأنها مثار اهتمام وسائل الإعلام الأجنبية والمهتمين بالسياحة الثقافية، ويتوقع خبراء ومسؤولون أثريون مصريون الانتهاء من ترميم وتركيب أجزاء مركب خوف الثاني في وقت قياسي أقل من 10 سنوات، بينما استغرق ترميم وتركيب مركب خوفو الأول نحو ربع قرن.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)