طريق الفراعنة إلى «طيبة» يمر بتورينو الإيطالية

أول متحف في العالم يخُصِّص للآثار المصرية

ملوك الفراعنة في العاصمة الإيطالية الأولى
ملوك الفراعنة في العاصمة الإيطالية الأولى
TT

طريق الفراعنة إلى «طيبة» يمر بتورينو الإيطالية

ملوك الفراعنة في العاصمة الإيطالية الأولى
ملوك الفراعنة في العاصمة الإيطالية الأولى

لم يبالغ مؤسس علم المصريّات الفرنسي جان فرنسوا شامبليون عندما قال: «إن الطريق من منف إلى طيبة يمرّ في تورينو»، منوِّهاً بما كان من فضلٍ للموجودات القيّمة في المتحف المصري بالمدينة التي كانت العاصمة الأولى لإيطاليا بعد توحيدها، في كشف ما نعرفه اليوم من معلومات عن عواصم الممالك المصرية القديمة.
في تورينو، وليس في القاهرة، يقوم المتحف الأول في العالم الذي خُصِّص للآثار المصرية، وهو يُعتبر من حيث قيمة موجوداته وعددها ثاني أهم المتاحف العالمية بعد متحف عاصمة بلاد النيل. يدخله أكثر من مليون زائر سنويا، وهو مصنف في المرتبة الأولى بين المتاحف الإيطالية، والتاسع أوروبيّاً، من حيث أهميته الفنية والتاريخية والعلمية.
قصة هذا المتحف الذي تتباهى به مدينة تورينو بدأت عام 1759 عندما قرّر فيتالينو دوناتي عالم الآثار المتخصص بالحضارة المصرية المشتركة في بعثة علمية للقيام بحفريات في بعض المناطق الأثرية في مصر، وعاد بمجموعة من القطع احتفظ بها في منزله. وفي مطالع القرن التاسع عشر، غداة حملة نابليون على مصر، كانت الأوساط العلمية والثقافية والأرستقراطية تعيش حالاً من الوله والانبهار بما كان يتكشّف عن عالم الفراعنة، والهوس بجمع الآثار المصرية.
في تلك الفترة، تمكّن برناردينو دوناتي، قنصل فرنسا العام خلال الاحتلال الفرنسي لمصر، من جمع ما يزيد على 8 آلاف قطعة بين تماثيل ونووايس ومومياوات ومخطوطات ورق البردي. وفي عام 1824 اشترى العاهل الإيطالي الملك كارلو فيليتشي تلك المجموعة بمبلغ قدره 400 ألف لير، وضمّ إليها مجموعة دوناتي ليولد أول متحف للآثار المصرية في العالم. وفي أواخر القرن التاسع عشر قام مدير المتحف آنذاك، أرنستو شياباريلي، بشراء المزيد من القطع الأثرية المصرية النفيسة مدعوماً بسخاء من الملك، ثم أشرف شخصيا على تنظيم عدد من البعثات العلمية للتنقيب عن الآثار في مصر. وفي ثلاثينات القرن الماضي كان قد بلغ عدد القطع الموجودة في المتحف ثلاثين ألفاً، تشمل كل جوانب الحضارة المصرية القديمة من الفنون الرفيعة إلى الأدوات العادية المستخدمة في الحياة المنزلية والزراعة والحيوانات المحنّطة.
ومن أبرز القطع الموجودة في المتحف «المخطوط الملكي» الذي يعتبر أهم مصادر المعلومات حول تسلسل العائلات المالكة في مصر القديمة، إلى جانب تمثال للإله إيزيس وآخر لرمسيس الثاني. كما يضمّ معبد أليسا الذي قدّمته الحكومة المصرية هدية إلى المتحف مقابل التعاون في إنقاذ آثار النوبة من الغرق، على غرار ما فعلت مع عدد من الدول والمتاحف الأخرى.
وكان شامبليون الذي استعان كثيرا بموجودات المتحف يردّد أن علم المصريّات شهد النور في تورينو، قبل أن ينتشر في أوروبا والعالم. ومن أبرز إنجازاته دراساته المذهلة حول «حجر رشيد» الذي عُثر عليه في المدينة التي تحمل الاسم نفسه عند مصبّ النيل في البحر المتوسط. والحجر كناية عن بلاطة ملساء عليها نص منقوش بلغتين وثلاث أبجديات مختلفة: المصرية القديمة مكتوبة بالهيروغليفية التي تعني الكتابة المقدسة لأنها كانت مخصصة للكتابة داخل المعابد، والديموطيقية التي تعني الكتابة الشعبية، واليونانية. وقد تمكّن شامبليون بعد مقارنة دءوبة بين الأبجديات الثلاث من الوصول إلى قراءة بنائية، على الصعيدين اللغوي والصوتي، للنصّ وترجمته، ملتقطاً طرف الخيط من اللغة القبطية التي اعتبرها الأقرب من اللغة المصرية القديمة، ونجح في فكّ طلاسم اللغة الهيروغليفية.
وقد أدّت تلك الاكتشافات إلى تعيينه أول أمين للمجموعة المصرية في متحف اللوفر، ثم أستاذ كرسي الآثار المصرية في الكوليج دو فرانس قبل أن يتوفى عام 1832 وهو في الثانية والأربعين من عمره، بعد أن وضع معجماً في اللغة القبطية. وكانت آخر زيارة قام بها إلى مصر في عام 1828، حيث كتب إلى شقيقه يقول: «كلّي لمصر، إنها كل شيء بالنسبة لي». ويرجّح البعض أن تلك الزيارة كانت السبب الذي عجّل في وفاته المبكرة بعد إصابته بمرض إثر شربه من مياه النيل.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».