30 لوحة لجبران خليل جبران تعرض للمرة الأولى في متحفه

بعد أن أعيد تأهيله بفضل هبة من السفارة اليابانية

المتحف قطعة من جبل وكان مركزاً للرهبان
المتحف قطعة من جبل وكان مركزاً للرهبان
TT

30 لوحة لجبران خليل جبران تعرض للمرة الأولى في متحفه

المتحف قطعة من جبل وكان مركزاً للرهبان
المتحف قطعة من جبل وكان مركزاً للرهبان

متحف جبران خليل جبران في بلدة بشري (شمال لبنان) من المعالم الفارقة التي تستحق الزيارة، تكراراً، ليس فقط لمعروضاته الثمينة والفريدة التي لن تراها في أي مكان آخر، بل أيضاً لروعة موقعه على كتف وادي قاديشا المذهل الذي نحتته السنون، وجعلت منه لوحة طبيعية خارقة لشدة انحداره وكثافة خضرته في آن. أما وقد أعيد تأهيل المتحف، وخرجت من بين المحفوظات مقتنيات جديدة لم تكن متاحة للزوار بسبب ضيق المكان، فإن العودة إليه تكتسب أهمية إضافية.
الترميم شمل إعادة تجديد الغرف، تهديم بعضها وإعادة بناء غيرها. بمعنى آخر، تم تعديل التقسيمات للصالات الصغيرة التي يتسم بها المكان. هذا عدا إعادة التبليط وتجهيز الجدران وتحديث الإضاءة. وهو ما أعطى رونقاً جديداً للوحات وطريقة عرضها، وأبرز أهمية المقتنيات الأخرى. فالغرف الجديدة تم طليها بلون يميزها عن غيرها، كما تم تزويد المتحف بصالة أنيقة للاستقبالات، وطورت خدمة الأوديوفون بلغات عدة؛ ليستمع الزائر إلى الشروحات أثناء تجواله.
وتم هذا بفضل منحة مالية ساهمت بها السفارة اليابانية بعد أن اقتنعت بالمشروع الذي قدم من بين مشروعات عدة أخرى؛ لأنه يسمح بإخراج لوحات جديدة من مخازنها ووضعها في متناول ذواقة الفن.
ولجبران في متحفه في مسقط رأسه وبلدته بشري، بين المعروض والمحفوظ، 440 لوحة أصلية. كانت المساحة السابقة لا تسمح بعرض أكثر من 135 لوحة، في حين أصبح بمقدور الرواد رؤية نحو 175 لوحة وهم يجولون في القاعات. ولا تزال أكثر من 200 لوحة غير متاحة بسبب ضيق المكان. وهي من الكنوز الفنية التي لها قيمة عالمية كبرى؛ لما لجبران من شهرة بين القراء من أقصى الشرق إلى أميركا.
ويؤكد لنا مدير المتحف جوزيف جعجع لـ«الشرق الأوسط»، أن «هذه اللوحات محفوظة وفق شروط فنية عالية تحميها من التلف»، وهو لا يخفي أن عدداً كبيراً من هذه الأعمال أصبحت في حاجة إلى ترميم بسبب الوقت الطويل الذي مضى عليها، لكنها تنتظر التمويل الكافي.
غالبية مقتنيات المتحف لها صيت واسع بين المختصين، ولا سيما 80 لوحة زيتية معروفة لجبران. من اللوحات الجديدة التي أضيفت وصارت متاحة للزيارة وتستحق أن تقصد لوحة «الخريف» التي رسمها جبران في بداية شهرته كفنان تشكيلي. هناك كذلك لوحة «المفكر» التي لا بد يعرفها عشاق جبران بفضل صورها المتداولة بغزارة. وهي لرجل ملتحٍ يسند وجهه بيده، ويتأمل في كرة من الكريستال. ومع إعادة تأهيل المتحف صار للوحات الاثنتي عشرة التي رسمها جبران لكتاب «النبي» وللمرة الأولى، في تاريخ متحفه، صالة خاصة بها تجمعها مع بعضها، ومعها أيضاً تعرض ترجمات لهذا الكتاب في 55 لغة مختلفة، علماً بأن «النبي» الذي كتبت له شهرة استثنائية صارت له ترجمات اليوم إلى 104 لغات.
وحين نسأل عن سبب اهتمام سفارة اليابان بشكل خاص بإرث جبران، يجيبنا مدير المتحف بأن «العلاقة بين السفارة والقيّمين على المتحف متواصلة ولم تنقطع يوماً، ويتوافد الزوار اليابانيون على بشرّي لاكتشاف إرث جبران، كما أن السفراء اليابانيين حين يفدون إلى لبنان يحبون زيارة مقتنيات جبران. وهذه ليست المرة الأولى؛ فعام 2008 ساهموا بتجديد الإضاءة، وتمديدات الكهرباء». ويتحدث جعجع عن علاقات بين المتحف وسفارات كثيرة في لبنان.
لا يشعر الزائر الذي اعتاد المكان تغيراً في روحه. حيث يقول جعجع «حافظنا على أصالة المبنى بحساسية شديدة، ولم نطرق مسماراً في حائط، لكن طريقة العرض باتت أكثر جمالية، حتى فيما يتعلق بالجزء الأهم، وهو الأكثر التصاقاً بيوميات جبران ومماته، وهو ما يطلق عليه اسم المدفن ويدلف إليه الزائر بدرج حجري لولبي، ليصل إلى حجرة وضع فيها سريره، طاولته التي كان يكتب عليه، مشجب معاطفه، مرآته، وأشياء أخرى كانت قد نقلت من بوسطن. وبطبيعة الحال، الأكثر مهابة هو التابوت الذي يضم رفاته ونقل من أميركا أيضاً، وهو معدني مطلي باللون الأبيض، تراه وكأنه وضع في قلب حجرة خاصة حفرت في الصخر، وكتب فوقها «أنا حي مثلك وأنا واقف الآن إلى جانبك، فأغمض عينيك والتفت تراني أمامك». تلك هي العبارة التي أوصى جبران أن تكتب فوق مدفنه. وأنت حقاً تراه أمامك كيفما تلفّت فهذا هو المحمل الذي كان يضع عليه لوحاته وهو يرسمها، وذاك هو الحاجز الخشبي المحفور الذي كان يستخدمه في مسكنه لحفظ بعض حميمياته، وتلك يد تتوسطها عين زرقاء لا بد كانت في إحدى غرفه».
منحوتة لرأس جبران ضخمة من البرونز فوق ساقية ماء تستقبلك على مدخل المتحف الذي هو أشبه بمغارة كبيرة منحوتة في الصخر. تمر من قرب التمثال وتصعد سلماً حجرياً لتصل إلى شرفة المبنى المطلة على مشهد جبلي خلاب ومنها تدخل إلى المتحف الذي لا يشبه المتاحف الكبيرة التي أنشئت لتكون موائمة لعرض الأعمال الفنية أو المقتنيات الشخصية. نحن في دير مار سركيس الذي كان يسكنه رهبان، واشتهى كاتب النبي، أن يكون لها مقراً ومستقراً في نهاية أيامه، وسعى لذلك بكل جهده لتحقيق غايته. وبالفعل تواصل مع الرهبان عبر وسيط في بشري، واستمرت المفاوضات لسنوات طوال. ويتحدث مدير المتحف جعجع باعتباره هو أيضاً ابن بشري شارحاً: «إن الأمر كان يتطلب وقتاً طويلاً. وكان لا بد من انتظار وصول الرسائل بالبريد، وإتمام جزء إضافي من المفاوضات، ومن ثم إعلام جبران وانتظار رده في كل مرة. ولحسن الحظ أنه حين توفي كان الاتفاق قد وصل إلى خواتيمه. وبرحيله عادت أخته مريانا بجثته، والمبلغ الذي كان قد اتفق عليه لشراء الدير، ليجد سكينته النهائية هنا في هذا المكان المحفور في الصخر، هو وحاجياته الأثيرة التي نقلت من بوسطن، وعلى من يريد أن يراها ويمتع ناظريه بها أن يقصد هذه البلدة الوادعة التي فيها بيته البسيط حين كان طفلاً، حيث تشرح لك الموظفة المسؤولة عنه، أن أرض الغرفتين اللتين يتكون منهما كانتا مغطيتين بالتراب لا بالبلاط، وأن المحتويات كانت تنم عن وضع رقيق للغاية. بين البيت الموجود وسط البلدة، والمتحف الذي يحتضن ثروة لا تقدر بثمن، على مبعدة قصيرة من غابة الأرز، ثمة في هذا المكان سحر يصعب وصفه لمن لم يزره يوماً.
وإن كنا قد أطلنا الكلام عن اللوحات الموجودة في المتحف؛ فلأنها تغلب على ما عداها، لكن ثمة أيضاً حاجيات شخصية مثل شنطة جلدية كان يحملها صغيراً حين يذهب إلى المدرسة، وفوانيس وأقلام، وجزء من مكتبته الخاصة، ولا سيما المؤلفات الإنجليزية التي كان قد اشتراها، والموسوعات التي كان يقتنيها. ولعل أهم المعروضات على الإطلاق هي مخطوطات جبران الموجودة بخط يده والتي تصل إلى ما يقارب الخمسين.
وحين نسأل، إن كانت مخطوطة كتاب «النبي» هي من بين هذه الدفاتر، يجيب مدير المتحف متأسفاً «إن هذه المخطوطة هي من مقتنيات اللبناني الأصل الشهير كارلوس سليم، وموجودة في متحف سمية في المكسيك. لكن في المقابل، لدى المتحف النسخة الأولى من كتاب (النبي) التي طبعت وأرسلت لجبران ليصححها. وهذه التصحيحات التي أجراها، موجودة بخط يده. وهي وثيقة رائعة لمن يود دراسة جبران والتعديلات الأخيرة التي أجراها على كتابه الأشهر». أما المخطوط الكامل الذي يمكن الاطلاع عليه بخط يد الكاتب فهو «يسوع ابن الإنسان» الذي كتبه بالإنجليزية، وكتبه بعد «النبي» مباشرة. هناك مخطوطة قصيدة «المواكب»، وجزء من «دمعة وابتسامة»، والويلات التسع الشهيرة التي صدرت بعد وفاة جبران. من منا لا يعرف ذاك النص الشهير الذي قال فيه: «ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع».
يتحدث مدير المتحف عن الكثير من الدفاتر، المسودات، الأفكار، الخطط، مقالات بالإنجليزية وأخرى بالعربية التي دوّنها جبران في أعمار مختلفة ومراحل متباينة من مراحل حياته. من المقتنيات أيضاً مخطوطة لنصه «لو لم يكن لبنان وطني لاتخذت لبنان وطني» الذي يعبر فيه عن عشقه للبنان. ويحدثنا جعجع عن دراسات تجرى حالياً، لمعرفة إذا ما كان جبران قد طلب يوماً الجنسية الأميركية. لكن الثابت لغاية الآن أنه «عاش طوال إقامته المديدة على مدى 40 عاماً في أميركا مستخدماً (غرين كارد)» ولم يحمل الجنسية الأميركية أبداً. «وهذا يثبت كم كان جبران متعلقاً بلبنان». فهو الذي يقول: «بشري موطن قلبي». «جبران كل أخيلته وصوره وأحلامه التي كان يسكبها في دفاتره هي من وحي هذا المكان، ودير مار سركيس الذي طلب أن ينتهي إليه ولو بعد موته».
«عندنا مشروع جاهز يقضي بترميم كل لوحات جبران في أتيلييه يتم تجهيزه داخل المتحف. لأن هذا يخفف كثيراً من الكلفة، فنقل مئات اللوحات إلى خارج لبنان يحتاج إلى مبلغ كبير للتأمين عليها يصل أقله إلى مليون دولار، هذا عدا التدابير الخاصة لحفظها أثناء النقل وعدم تعريضها للأذى أو الفقدان وربما السرقة. ولا بد أن الألوان والتكلفة الفنية للترميم هي عالية أيضاً».
ويشرح جعجع، إن اتصالات جرت مع عدد من مدارس الفن في فرنسا، لإقناعهم بالمجيء إلى بشري وترميم اللوحات في المكان. وهناك اتفاق حصل، و«يبقى علينا سعر المواد، وهذا يخفض التكاليف بشكل كبير جداً. وفي هذه الحالة فإن ترميم كل لوحات جبران لا يحتاج إلى أكثر من 150 ألف يورو، وهو المبلغ الذي نحاول تأمينه لتنفيذ المشروع».
ومع أن المبلغ ليس كبيراً نسبة إلى كل ما يهدر، فإن مدير المتحف يعتبر أن المشكلة الرئيسية هي «قلة الاهتمام بالثقافة والفنون بشكل عام، وليسوا كثراً الذين هم على استعداد لتمويل مشروع من هذا النوع». ويضيف «نحن في لبنان ولسنا في بريطانيا. ومتحف جبران مؤسسة خاصة. ولولا إيرادات كتب جبران لما استمر المتحف الذي يعيش بفضلها».
وما يعود إلى المتحف هو نسبة ضئيلة من مبيعات كتب جبران باللغة الإنجليزية فقط. وستكون هذه السنة الأخيرة التي تستفيد فيها المؤسسة من عوائد كتب الأديب. إذ بعد ثمانين سنة وأكثر من رحيل الكاتب يسقط حقه في العائدات، وكان الناشر الأميركي قادراً على تجديد الحقوق، لكن الفترة وصلت إلى خواتيمها مع عام 2018.
تأسس المتحف عام 1975، في السنوات العشرين السابقة خضع المتحف لإصلاحات وترميم ثلاث مرات. والشهر الماضي افتتحت غرف جديدة، وبدت المعروضات أكثر بهاءً. واحتاج الوصول إلى الاتفاق على مشروع الترميم مع اليابانيين إلى سنة من الاتصالات، وأضيفت ثلاث غرف جديدة، وعرضت نحو 30 لوحة إضافية. وهذه السنة يحتفى بمرور 95 سنة على صدور كتاب «النبي» في لندن، ولن تكون احتفالية بمتحفه لهذا الغرض بانتظار المئوية التي تعد العدة لها على نطاق واسع.



«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
TT

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)
ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

أعقاب سجائر يصل عددها إلى 4213، مَمالح لا تُحصى، عبوات مشروبات غازية، فناجين قهوة تجمّدَ فيها البنّ والزمن... هذا بعضٌ ممّا يجدُه الزائر في «متحف البراءة» في إسطنبول. المكان الذي أسسه الكاتب التركي أورهان باموك، خارجٌ عمّا هو مألوف في عالم المَتاحف. هنا، لا لوحات ولا منحوتات ولا أزياء تراثيّة، بل تأريخٌ للحياة اليوميّة العاديّة في إسطنبول ما بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي.

لا بدّ للآتي إلى هذا المكان أن يكون قد قرأ رواية «متحف البراءة» لباموك، أو على الأقل سمع عنها. ففي زقاق شوكوركوما المتواضع الواقع في منطقة بيوغلو، لا شيء يوحي بأنّ ذلك المبنى الصغير المطليّ بالأحمر هو في الواقع متحفٌ يخبّئ في طبقاته الـ4، الكثير من تفاصيل حياة الأتراك على مدى 3 عقود.

يقع متحف البراءة في منطقة بيوغلو في إسطنبول (الشرق الأوسط)

فراشة تستقبل الزائرين

يكفي أن يحمل الزائر نسخةً من الرواية حتى يجول مجاناً في المتحف. حرُصَ باموك على أن تضمّ إحدى صفحات الكتاب بطاقة دخول للقارئ، موجّهاً إليه بذلك دعوةً لزيارة المتحف إذا حطّت به الرحال في إسطنبول. بخَتمٍ يحمل رسمَ فراشة تُدمَغ البطاقة، لتبدأ الجولة بأول غرضٍ معروض وهو قرط أذن على شكل فراشة. يقفز إلى الذاكرة فوراً الفصل الأول من الرواية، يوم أضاعت المحبوبة «فوزون» أحد أقراطها عند بطل القصة «كمال»، فاحتفظ به كما لو كان كنزاً، مثلما فعل لاحقاً مع كل غرضٍ لمسَ «فوزون» أو وقع في مرمى نظرها.

صفحة من رواية «متحف البراءة» تمنح الزائر بطاقة دخول إلى المتحف (الشرق الأوسط)

في متحف الحب

تتوالى الواجهات الزجاجية الـ83 بمنمنماتها وأغراضها، لتعكسَ كلُ واحدة منها فصلاً من فصول الرواية. لا يكتفي المتحف بتوثيق أنثروبولوجيا إسطنبول فحسب، بل يؤرّخ لحكاية الحب الأسطورية التي جمعت بين الرجل الأرستقراطي صاحب المال وقريبته الشابة المنتمية إلى الطبقة الفقيرة.

لعلّ ذلك الحب الجارف بين «كمال» و«فوزون» هو أبرز ما يدفع بالزوّار من حول العالم إلى أن يقصدوا المكان يومياً بالعشرات. يصعدون السلالم الخشبية، يجولون بين الطبقات الضيّقة، يتوقّفون طويلاً أمام الواجهات الزجاجية الصغيرة التي تحوي ذكريات المدينة وإحدى أجمل حكاياتها. منهم مَن أتى من الصين، ومنهم مَن قصد المكان ليُعدّ بحثاً جامعياً عنه، وما بينهما شابة مولَعة بالرواية تصرّ على التقاط صورة في كل زاوية من زوايا المتحف.

في المتحف 83 واجهة زجاجية تختصر كل منها فصلاً من الرواية (الشرق الأوسط)

رواية في متحف ومتحف في رواية

لمعت الفكرة في رأس أورهان باموك في منتصف التسعينات. قرر أن يجمع أغراضاً ليبني منها رواية تصلح أن تتحوّل متحفاً. سار المشروعان التوثيقي والأدبي بالتوازي، فأبصرت الرواية النور عام 2008، أما المتحف فافتُتح عام 2012 نظراً للوقت الذي استغرقه إعداده. ليس كل ما في المكان مقتنيات خاصة اشتراها باموك من محال التحَف العتيقة في إسطنبول وحول العالم، فبعض ما تُبصره العين في المتحف الذي يفوق عدد معروضاته الألف، استقدمَه الكاتب من منازل أقرباء وأصدقاء له.

استقدم باموك بعض الأغراض المعروضة من بيوت أقرباء وأصدقاء له (الشرق الأوسط)

استثمر الأديب التركي الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2006، ماله ووقته في مشروعه، وهو أول متحفٍ في العالم خاص برواية. في المرحلة الأولى، بدأ بتجميع الأغراض. ثم ابتاعَ مبنى صغيراً مؤلفاً من 4 طبقات وعائداً إلى القرن الـ19.

بالموازاة، كانت مخطوطة «متحف البراءة» قد بدأت سلوك الخط الروائي الذي قرره لها باموك، أي الدوَران حول شخصيتَيها الأساسيتَين الطالعتَين من بنات أفكاره. في القصة المتخيّلة، يدعو البطل «كمال» الكاتب أورهان باموك إلى تدوين سيرته. يخبره كيف أنه جمع كل غرض يذكّره بـ«فوزون»، كما كان يسرق بعض مقتنياتها كأمشاط الشعر والحليّ وقطع الملابس وغيرها من الأغراض الشخصية. في الرواية، وبعد أن يخسر «فوزون» إلى الأبد، يشتري «كمال» المنزل الذي قطنت فيه المحبوبة مع والدَيها، ليقيم فيه ويحوّله إلى متحفٍ يحيي ذكراها.

أمشاط الشعر العائدة إلى بطلة الرواية «فوزون» (الشرق الأوسط)

مؤثرات بصريّة وصوتيّة

من قصاصات الصحف إلى أواني المطبخ، مروراً بالصور القديمة، وساعات اليد، وقوارير العطر، والمفاتيح، وأوراق اليانصيب، وبطاقات الطيران، يتيح المتحف أمام الزائر أن يدخل في الرواية. كما يسمح له بمعاينة قريبة لأسلوب عيش أهل إسطنبول على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ما بين 1975 ومطلع الألفية الثالثة. في «متحف البراءة» يتداخل الخيال بالواقع، ويصبح المتجوّل في الأرجاء جزءاً من اللعبة التي اخترعها أورهان باموك.

يتجاوز عدد المعروضات في متحف البراءة ألف قطعة (الشرق الأوسط)

تخرق صمتَ الزائرين وصوتَ الراوي، مؤثّراتٌ خاصة من بينها فيديوهات معروضة على الجدران تعكس الحقبة التاريخية، وأصوات خرير مياه ونعيق غربان إسطنبول ونَورس البوسفور.

السيّد باموك... مدير المتحف

ليس طَيفا «فوزون» و«كمال» وحدهما المخيّمَين على المكان، فباموك حاضرٌ كذلك من خلال ترجمات الكتاب المعروضة في الطابق السفليّ، وكذلك عبر نبرة الراوي في الجهاز الصوتيّ، الذي يتقمّص شخصية الكاتب. مع العلم بأنّ باموك أشرف شخصياً على تفاصيل المتحف، وحتى اليوم بعض الواجهات الزجاجية فارغة «لأني ما زلت أعمل عليها»، وفق ما يقول الراوي. أما إن سألت موظفة الاستقبال عن هوية مدير المتحف، فستجيب: «السيّد باموك». كيف لا، وهو الذي أنفق 1.5 مليون دولار على تحفته الصغيرة، من بينها جائزة المليون دولار التي حصل عليها من مؤسسة نوبل.

وصلت تكلفة المتحف إلى 1.5 مليون دولار سدّدها باموك من ماله الخاص (الشرق الأوسط)

في غرفة «كمال»

يقول «كمال» في الكتاب: «أذكر كيف كان البرجوازيون في إسطنبول يدوسون فوق بعضهم كي يكونوا أوّل مَن يمتلك آلة حلاقة كهربائية أو فتّاحة معلّبات، أو أي ابتكار جديد آتٍ من الغرب. ثم يجرحون أيديهم ووجوههم وهم يصارعون من أجل تعلّم استخدامها». هذه الطبقيّة ذاتها والفوارق الاجتماعية التي تخيّم على خلفيّة الرواية، هي التي جعلت قصة حب «كمال» و«فوزون» تتأرجح بين الممكن والمستحيل.

الرواية كما المتحف يجمعان السرديّتَين العاطفية والاجتماعية (الشرق الأوسط)

تنتهي الزيارة في الطبقة الرابعة، أو بالأحرى في العلّيّة حيث أمضى «كمال» السنوات الأخيرة من حياته ما بين 2000 و2007، وفق الرواية. هنا، على سريرٍ حديديّ ضيّق كان يستلقي البطل العاشق ويروي الحكاية لأورهان باموك الجالس قبالته على مقعدٍ خشبيّ. لا يضيع شيءٌ من تفاصيل الخاتمة؛ لا ثياب نوم «كمال»، ولا فرشاة أسنانه، ولا الدرّاجة التي أهداها إلى «فوزون» وهي طفلة.

غرفة «كمال» بطل الرواية حيث أمضى السنوات الـ7 الأخيرة من حياته (الشرق الأوسط)

على براءتها وبساطتها، تروي أغراض «متحف البراءة» إحدى أجمل قصص الحب التي أزهرت بين سطور أورهان باموك، وخلّدت في قلب إسطنبول النابض.