أطفال الأزمان السحيقة كانوا يتسلقون الأشجار

الرومان نشروا مرض السل في العالم

مجموعة الصور إلى اليسار: قدم طفلة عمرها 3.32 مليون سنة صورت من مختلف الزوايا...  وإلى اليمين: صورة قدم الطفلة في الأسفل مقارنة مع قدم شخص بالغ من الجنس نفسه
مجموعة الصور إلى اليسار: قدم طفلة عمرها 3.32 مليون سنة صورت من مختلف الزوايا... وإلى اليمين: صورة قدم الطفلة في الأسفل مقارنة مع قدم شخص بالغ من الجنس نفسه
TT

أطفال الأزمان السحيقة كانوا يتسلقون الأشجار

مجموعة الصور إلى اليسار: قدم طفلة عمرها 3.32 مليون سنة صورت من مختلف الزوايا...  وإلى اليمين: صورة قدم الطفلة في الأسفل مقارنة مع قدم شخص بالغ من الجنس نفسه
مجموعة الصور إلى اليسار: قدم طفلة عمرها 3.32 مليون سنة صورت من مختلف الزوايا... وإلى اليمين: صورة قدم الطفلة في الأسفل مقارنة مع قدم شخص بالغ من الجنس نفسه

بينما كان أجدادنا الأقدمون في الأزمان السحيقة قبل أكثر من 3 ملايين سنة يمشون على اثنتين من الأرجل، كان أطفالهم يتسلقون الأشجار منذ الصغر، وفقاً لأحدث دراسة لعلماء الأنثروبولوجيا.

طفلة الأشجار
وفي دراسة نشرت بمجلة «ساينس أدفانسيز» قال باحثون في علوم الإنسان إن تحليلاتهم لقدم من هيكل عظمي لطفلة صغيرة في العمر يعود إلى 3.32 مليون سنة، تشير إلى أن الطفلة كانت تستطيع مثل أمها المشي منتصبة القامة على رجليها الاثنتين كما أنها كانت تستطيع تسلق الأشجار.
وقال جيريمي دي سيلفا، الأستاذ المساعد في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) بكلية دارتماوث في مدينة هانوفر الألمانية، وأحد كبار المتخصصين في دراسة أقدام وأرجل الإنسان السحيق في القدم: «عثرنا لأول مرة على نافذة مدهشة تطلعنا على كيفية مشي طفلة عمرها سنتان ونصف قبل أكثر من 3 ملايين سنة». وأضاف أن «هذه هي أكثر قدم متكاملة لطفل من الماضي السحيق تم اكتشافها حتى الآن».
ويبلغ حجم القدم الصغيرة جدا حجم أصبع الإبهام لدى رجل بالغ تقريبا، وهي جزء من هيكل عظمي لطفلة من جنس «أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس» وهو أحد أسلاف الإنسان المنقرضة التي عاشت في تلك الفترة. وعثر على الهيكل عام 2002 زيريسيناي أليمسيسجد البروفسور في البيولوجيا والتشريح بجامعة شيكاغو والاختصاصي الشهير في دراسات أصول الإنسان.
وتنتمي الطفلة التي عثر على قدمها المتحجرة إلى سلالة «لوسي» نفسها، وهي متحجرات لهيكل عظمي لامرأة عثر عليه في المنطقة نفسها، ولذا أطلق العلماء على الطفلة اسم «طفلة لوسي» رغم أنها عاشت قبل مائتي ألف سنة قبل أمها!
وقد نجح العلماء في دراسة القدم لاحتفاظها بوضعها التشريحي بشكل ممتاز. وتظهر التحليلات أن إنسان تلك الفترة السحيقة كان يمشي على رجليه. وقال دي سيلفا إن «المشي على الرجلين هو العلامة على كينونة الإنسان، إلا إن المشي بشكل سيئ في بيئة مليئة بالوحوش وصفة للانقراض».
وقال العلماء إن الطفلة كانت تمشي، إلا إنها كانت تقضي أوقاتا أكثر من البالغين، بين أغصان الشجر. وقال دي سيلفا: «لو كنت تعيش في أفريقيا قبل 3 ملايين سنة من دون نار أو كوخ أو أي وسائل دفاعية، فمن الأفضل لك أن تتسلق الأشجار عند مغيب الشمس».
وكان العلماء قد أشاروا إلى أن التحليلات التي أجريت على لوسي التي عثر عليها عام 1974، وكذلك متحجرات أحد الأطفال الذي أطلق عليه اسم «سيلام» وعثر عليها عام 2000، تشير إلى أنهما كانتا مهيأتين لتسلق الأشجار أيضا.

نشر مرض السل
وفي دراسة جديدة حول انتشار مرض السل في العالم، قال باحثون أميركيون إن الرومان الذي بنوا حضارة شاسعة، ساهموا في نشر مرض السل حول العالم.
وقال باحثون بجامعة وسكنسون في ماديسون إن التحليلات الجينية تفترض أن السل، وهو المرض الذي أدى إلى هلاك عدد من البشر أكبر بكثير من أي مرض آخر، ظهر في أفريقيا قبل 5 آلاف سنة، إلا أن انتشاره في أوروبا ومناطق العالم الأخرى كان بسبب فتوحات الإمبراطورية الرومانية.
وقالت كاتلين بيبيريل، الباحثة في الجامعة، إن «سلالة المرض التي تصيب الإنسان لا يمكنها الانتقال بواسطة الحيوانات... ولذا فإن تطور البكتريا المسببة للمرض يرتبط بشدة بوجود الإنسان»، وفقاً لمجلة «نيوساينتست» العلمية.
وبهدف التوصل إلى أصل انتقال المرض حلل الباحثون التسلسل الجيني لـ552 عينة من بكتريا السل استخلصت من أشخاص مصابين به حول العالم القديم؛ عدا أميركا الشمالية والجنوبية التي انتقل إليها المرض مع هجرة الأوروبيين نحوهما.
واستنادا إلى التحليلات، فقد نجح العلماء في رسم الشجرة العائلية لبكتريا السل. وبينما كان معروفا وجود 7 عائلات للبكتريا، فإن فريق البحث وجد أن الجد الأقدم لها ربما ظهر في أفريقيا الغربية قبل ما بين 4 آلاف و6 آلاف سنة؛ أي بحدود 3 آلاف قبل الميلاد. وظلت 3 عائلات لبكتريا المرض ضمن حدود أفريقيا؛ إحداها في مرتفعات إثيوبيا، بينما انتقلت عائلة أخرى في حدود 300 ق.م. من غرب أفريقيا إلى شرقها ومن هناك إلى جنوب آسيا. ويرجع الباحثون انتقال هذه البكتريا إلى ازدهار التجارة البحرية في المحيط الهندي.
وأشارت الدراسة التي قدمت أمام مؤتمر «الجمعية الأميركية للميكروبيولوجيا» في مدينة أتلنتا الشهر الماضي، إلى أن أكثر سلالات البكتريا شيوعا لم تنتشر إلا في زمن أحدث؛ حيث انتشرت في حوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا وآسيا في زمن ازدهار فتوحات الرومان، وازدياد حركة السكان، وتوسع المدن.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)