اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين

فكرة رائدة طورتها جهود جبارة

اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين
TT

اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين

اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين

في مثل هذا اليوم قبل 40 سنة تماماً أبصرت صحيفة «الشرق الأوسط» النور.
في يوم 4 يوليو (تموز) 1978م، الموافق 29 رجب 1398هـ، خطت الصحافة العربية خطوة كبرى، فخرجت لأول مرة في تاريخها من الحيّز المحلي أو الوطني إلى الحلبة الدولية.
صحيح، صدر العدد من الصحف والمجلات العربية في مختلف دول العالم، ولا سيما، في المهاجر البعيدة بأميركا الشمالية والجنوبية، وكذلك في أوروبا وأماكن أخرى من المعمورة. غير أن كل تلك الدوريات، على الرغم من موقعها الجغرافي البعيد عن العالم العربي، كانت تخاطب، بالدرجة الأولى، جاليات مهاجرة تقيم في تلك الأصقاع وتعبّر عن همومها وآمالها، من دون ربط مباشر أو تفاعل شامل ومتكامل مع الوطن الأم.
تجدر الإشارة إلى أن أول صحيفة صدرت باللغة العربية كانت «الوقائع المصرية» التي أصدرها محمد علي والي مصر عام 1828م، وذلك في أعقاب إصدار نابليون بونابرت في مصر نشرة «التنبيه» إبان الحملة الفرنسية بين 1801 و1802. وبعد ذلك، أصدر رزق الله حسّون «مرآة الأحوال» من العاصمة العثمانية إسطنبول عام 1855. ثم أتبعها رشيد الدحداح بـ«برجيس باريس» عام 1858 في العاصمة الفرنسية باريس. أما باكورة الصحف العربية في القارة الأميركية فكانت «كوكب أميركا» التي أسّسها الأخوان السوريان إبراهيم ونجيب عربيلي في العام 1888.
في بريطانيا، تأخر الاختراق الإعلامي العربي نسبياً، مع أن الوجود العربي المهاجر ليس طارئاً أو حديث العهد فيها. ولعل من الأسباب أن لندن مدينة أعمال وسياسة أكثر منها مدينة ثقافة بالمقارنة مع منافستها باريس. ثم إن حملة نابليون في مصر، ورعاية فرنسا حُكم الأسرة العلوية وعلاقتها الخاصة بها - التي كان من علاماتها المهمة دور فرنسا في شقّ قناة السويس - من العوامل المؤثرة لتنامي الثقافة الفرنسية، ناهيك من دعم فرنسا القوى الثائرة على الدولة العثمانية في المشرق العربي. ثم إن كثيرا من الشخصيات التي نشطت في تأسيس الحركة الصحافية العربية المهاجرة جاءت من بلاد الشام التي كانت لها علاقات قديمة مع فرنسا، وتالياً، حكمها الانتداب الفرنسي بين 1920 و1943.
أضف إلى ما سبق أن الكثافة الأكبر للمهاجرين العرب إلى بريطانيا ما كانت في لندن بل في غرب إنجلترا وجنوب ويلز، وكانت إحدى أكبر الجاليات العربية فيها والأقدم هجرة، اليمنيين. ولكن في الجزء الثاني من عقد السبعينات من القرن الماضي بدأت الحركة الإعلامية العربية تنشط جدياً في بريطانيا، وخاصة في لندن. ولئن كانت الصحف والمطبوعات الأولى محلية الطابع جاء تأسيس «الشرق الأوسط» علامة فارقة، تجاوزت فعلياً مفهوم الإعلام العربي المهاجر إلى الإعلام العربي الدولي.
قصة البداية
في عام 2003 احتفلت «الشرق الأوسط» بـ«يوبيلها الفضي» (ذكرى مرور 25 سنة على تأسيسها)، ونشرت بتوجيه من عبد الرحمن الراشد، رئيس تحريرها يومذاك، عدداً خاصاً بالمناسبة أرّخ لظروف تأسيس الصحيفة التي غدت «صحيفة العرب الدولية» عن جدارة واستحقاق. وحمل ذلك العدد الخاص جانبا مهما من قصة التأسيس وفلسفته، كما يلي: «في العدد الأول من (الشرق الأوسط) نشر المؤسسان هشام ومحمد علي حافظ رسالة إلى القراء في الصفحة الأولى عرضا فيها أهدافهما وتصورهما للصحيفة التي أسساها»، وجاء في الرسالة: «إن إصدار صحيفة عربية يومية كان دائماً مطمحاً لكثيرين، حاول كل منهم تحقيق هذا الطموح بطريقته. ومن دواعي فخرنا وفخر جميع العاملين في (الشرق الأوسط) أن نكون أول من حول هذا الحلم إلى حقيقة». وتابعت الرسالة، مؤكدة على الشخصية العربية للصحيفة بالقول: «ستكون الصحيفة، كما هو واضح من اسمها، صحيفة لكل العرب وليست لدولة عربية واحدة، لأننا نؤمن بالعرب وبرسالتهم السمحة ونؤمن بواجبنا في نشر هذه الرسالة. فهي رسالة الإسلام التي بدأت قبل أربعة عشر قرنا ووحّدت العالم العربي بنشر التوحيد والسلام والأمن والفلاح في بقاع متعدّدة من العالم والشرق الأوسط، تنادي بالاعتدال، وتتحاشى التطرّف تمسّكاً بالآية الكريمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)».
تجاوز المحلية
وحقاً، حتى إصدار «الشرق الأوسط» يصح القول إن المحلية كانت السمة الغالبة على الصحافة العربية من المحيط إلى الخليج، بما في ذلك الأقطار العربية الطويلة الباع في مجال الصحافة. وكانت الصحيفة الوطنية هي الطاغية، وسط غياب لصحيفة عربية شاملة.
ومن جانب آخر، في مطلع عقد السبعينات من القرن الـ20 كانت الإمكانيات محدودة أمام القارئ العربي للاطلاع على صحف تصدر في أقطار عربية بعيدة عن سوقها المحلية. ووفق كتاب «اليوبيل الفضي» للصحيفة «ولكن وسط مؤثرات الحرب اللبنانية وتداعيات معاهدة كامب ديفيد، التي أضعفت كثيراً تأثير الصحف اللبنانية والمصرية، بدا مكان فسيح شاغر ينتظر مَن يشغله، وبالفعل شغلته الصحافة المهاجرة». وبالفعل، ما كان مفاجئاً في ظل الاضطراب الذي تعرّضت له خلال السبعينات بيروت والقاهرة، اللتان لعبتا لعقود دور «عاصمتي» الإعلام العربي، الاتجاه إلى مدن بديلة مؤهلة لتولي هذا الدور. وفي هذا السياق، أسست كثير من المطبوعات من شتى التوجّهات والمشارب في مختلف أنحاء العالم، غير أن النشاط الأكبر والأعظم وقعاً شهدته باريس ولندن، ولاحقاً، رجحت كفة لندن، وما زال لها قصب السبق. ووفق المراجع التي تناولت تلك الحقبة، تشير الأرقام إلى أنه بحلول عام 1986 بلغ عدد المطبوعات والدوريات العربية اليومية والأسبوعية والشهرية ورُبع السنوية والسنوية الصادرة في بريطانيا 52 مطبوعة. وهذا رقم كبير إذا ما علمنا أن إجمالي المطبوعات اليومية والأسبوعية الصادرة سنوياً في عموم أقطار العالم بلغ 155 مطبوعة. بيد أن غالبية المطبوعات الصادرة في بريطانيا كانت ذات ميزانيات ضئيلة وتوزيع محدود، ولذا لم تصمد كلها طويلاً.
صحيفة «العرب» التي أسّسها الوزير الليبي السابق أحمد الصالحين الهوني عام 1977، والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم تحت إدارة جديدة، كانت حالة مختلفة، غير أنها في المرحلة الأولى من مسيرتها وإن كانت قد ضمّت نخبة من الكتاب والمحرّرين من مختلف أنحاء العالم، ظلت قاعدتها محدودة في بريطانيا وأوروبا الغربية. ومن ثم، جاءت «الشرق الأوسط» في العام التالي لتفتح باب الصحافة العربية الدولية على مصراعيه.
ولادة فكرة
ولدت فكرة في يوليو 1977 بعد سنتين من تأسيس هشام ومحمد علي حافظ صحيفة «عرب نيوز» باللغة الإنجليزية في المملكة العربية السعودية، وذلك عندما كان أحد الناشرين - السيد هشام - في إجازة بإسبانيا، وخطر بباله التفكير بسبب غياب صحيفة دولية مثل «الإنترناشونال هيرالد تريبيون» ولكن باللغة العربية، فتمدّ العرب في الخارج بأخبار العالم العربي.
وبعكس كل الصحف الموجودة في السوق تلك الأيام، كانت مهمة الصحيفة الجديدة التوجّه إلى العرب جميعاً وليس إلى بلد واحد، مستفيدة من أحدث التقنيات وتصدر من لندن وتطبع في وقت واحد في بريطانيا والمملكة العربية السعودية. ولم يطل الوقت حتى وضع الشقيقان الفكرة موضع التنفيذ، واختير للصحيفة اسم «الشرق الأوسط».
اللبنات الأولى
الشركة الناشرة «الشركة السعودية للأبحاث والتسويق» (لاحقاً: «الشركة السعودية للأبحاث والتسويق - المملكة المتحدة») كانت قد اشترت عام 1976 وكالة «برس فوتو» للصور، وهي أقدم وكالة صور صحافية في بريطانيا، واشترت معها المبنى الذي كانت تشغله الوكالة في ساحة غف سكوير التاريخية الصغيرة، على مرمى حجر من «شارع الصحافة» الأشهر... فليت ستريت. وكان من الطبيعي أن يغدو أول مقر للصحيفة.
وبعد، هذا المقر انتقلت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي إلى مقرها الثاني في شارع هولبورن، بوسط لندن، على مسافة غير بعيدة من المتحف البريطاني وحي بلومزبري الشهير بخلفيته الثقافية والتعليمية. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 انتقلت إلى مقرها الحالي في حي تشيزيك بغرب لندن.
كما سبقت الإشارة، كانت فلسفة الصحيفة، وما زالت، أن تكون «صحيفة العرب الدولية» التي يقرأونها في أي مكان من العالم، وفي الوقت نفسه صحيفتهم الثانية بعد صحيفتهم المحلية التي اعتادوا قراءتها. وحقاً، كانت أسرتا التحرير والإنتاج منذ 1978 «جامعة دول عربية مصغّرة» ضمت أبناء وبنات كل الأقطار العربية تقريباً.
أيضاً، منذ البداية، اختير أن يكون للصحيفة تميّزها الإخراجي. واستقر الرأي على أن يكون للصفحتين الأولى والثانية، الأخيرة وقبل الأخيرة لون مميز، وبالفعل اختير اللون الأخضر الفاتح. ومن ناحية أخرى، سجلت «الشرق الأوسط» عبر مكاتبها ومراكز طبعها المتعدّدة منجزات تقنية وتحريرية مُبهرة. فكانت لها على الصعيد التقني ريادة النقل بالفاكسميلي، مايو (أيار) - 1980، وكانت من أوائل الصحف العالمية التي اعتمدت الكومبيوتر في التحرير والإنتاج عام 1989. وفي طليعة الصحف العالمية في الاهتمام بخدمة الأونلاين، ولقد ظهرت أول نسخة منها على الإنترنت عام 1995، ثم يوم 10 أغسطس (آب) 2000 أطلقت النسخة الإلكترونية كاملة. وعام 2003 تعززت الريادة التقنية بالمباشرة في تطبيق الطباعة الملّونة.
أما على الجانب التحريري، فكان لها قصب السبق في اتفاقيات حقوق النشر، وتميّزت عبر السنين بالمذكرات والمقابلات المتميزة، واستكتاب أعلام في السياسة والأدب والفكر والعلوم. كما اهتمت على امتداد مسيرتها، بالتحقيقات والتغطيات الميدانية، والصفحات التخصّصية، كما شكلت «الشرق الأوسط» حجر الزاوية، بعد نمو المجموعة القابضة في حقب، فيما غدت إحدى أكبر المجموعات الصحافية المتكاملة تحريراً وإعلاناً وتوزيعاً في العالم العربي.
مرحلة الأمير أحمد بن سلمان
على صعيد آخر، تطورّت المجموعة القابضة في أعقاب تولّي المغفور له الأمير أحمد بن سلمان بن عبد العزيز رئاسة مجلس إدارتها، وقاد الأمير أحمد عملية تطوير جبارة عزّزت مكانة الصحيفة وشقيقاتها في عالمي الإعلام والنشر، واستمر في قيادتها حتى وفاته المفاجئة عن 43 سنة يوم 22 يوليو من عام 2002. وجاءت بداية عملية التطوير عام 2000 مع تحويل المجموعة إلى شركة مساهمة. وكان من أهم منجزات الأمير الراحل تحويله مؤسسة قيمتها السوقية تقدر بنحو 90 مليون دولار أميركي إلى مؤسسة رأسمالها 160 مليون دولار وتربو موجوداتها على 533 مليون دولار.
بعد ذلك، تولى رئاسة مجلس الإدارة كل من الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز (2002 - 2013)، فالأمير تركي بن سلمان بن عبد العزيز (2013 - 2014)، فعبد الله باحمدان (2014 - 2015)، فالأمير بدر بن عبد الله بن فرحان (2015 - 2018)، ثم الدكتور غسان الشبل حالياً.
أما فيما يخص التحرير فقد تعاقب على رئاسة تحرير الجريدة كل من السادة جهاد الخازن (1978 - 1980) فالناشران هشام ومحمد علي حافظ (1980) فمحمد معروف الشيباني (1980 - 1982) ثم عرفان نظام الدين - أول مدير تحرير للصحيفة (1982 - 1987)، ثم عثمان العمير (1987 - 1998)، ثم عبد الرحمن الراشد (1998 - 2003). وخلفه بالوكالة محمد العوّام (2003 - 2004)، ثم طارق الحميّد (2004 - 2012)، فالدكتور عادل الطريفي (2012 - 2014)، فسلمان الدوسري (2014 - 2016)، وحالياً غسان شربل منذ 2016.


مقالات ذات صلة

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

المشرق العربي جنود إسرائيليون يقودون مركباتهم في منطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية اللبنانية كما شوهد من شمال إسرائيل الأربعاء 27 نوفمبر 2024 (أ.ب)

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

أصيب مصوران صحافيان بجروح بعد إطلاق جنود إسرائيليين النار عليهما في جنوب لبنان اليوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي نازحون في أثناء عودتهم إلى قراهم بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» الذي دخل حيز التنفيذ يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024... الصورة في أبلح شرقي لبنان (أ.ب)

«انتصار للبيت الأبيض»... صحف تحلل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان

رأى موقع «بوليتيكو» أن اتفاق وقف إطلاق النار «انتصار كبير للبيت الأبيض»، وقالت «نيويورك تايمز» إن بايدن يريد تذكّره بأنه وضع الشرق الأوسط على طريق تسوية دائمة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا خلال احتجاج نظمته حركة «طالبان» في أفغانستان (رويترز - أرشيفية)

إحصاء 336 اعتداءً ضد الصحافيين في 3 سنوات من حكم «طالبان» في أفغانستان

أفادت الأمم المتحدة، الثلاثاء، بأنها سجّلت 336 اعتداءً على صحافيين وعاملين في وسائل إعلام منذ عودة «طالبان» لحكم أفغانستان في أغسطس 2021.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا مبنى التلفزيون المصري في ماسبيرو (الهيئة الوطنية للإعلام)

تشكيلة جديدة للهيئات الإعلامية بمصر وسط ترقب لتغييرات

استقبلت الأوساط الإعلامية والصحافية المصرية، التشكيلة الجديدة للهيئات المنظمة لعملهم، آملين في أن تحمل معها تغييرات إيجابية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)